حين وقع تحت سحر المدينة٬ راودت راوول سيريل هامبرت فكرة تجعل الجميع يتشارك في عشق ذاك المكان الذي مازالت رائحة التاريخ الاسلامي لتونس تعبق في ثناياه. عن مدينة تونس العتيقة نتحدث وتأخذنا الجريدة في أزقتها المنسية لنكتشف خباياها٬ نستنشق روائح تاريخ البلاد حيث كانت المدينة ولازالت معقل الحكم في البلاد التونسية٬ مقر رئاسة الحكومة ودار الافتاء في جامع الزيتونة الأعظم ونغوص في ملامح سكانها الحاليين.
في كل عدد يتحدث المشاركون عن الوجوه التي تجوب المدينة يوميا٬ً عن العمال حماة الصناعات التقليدية٬ عن أسرار المدينة٬ مصلحيها وحكايات حـُكامها.
بدأ راوول هامبرت المغامرة حين كان يعمل مع جمعية صيانة مدينة تونس٬ منذ شهر أيار/ مايو من سنة 2015. استقرت المشاورات على إطلاق جريدة يكتب فيها العديد من المتطوعين٬ يتشاركون في توفير الدعم المالي. يرى هامبرت أن عامل القرب من المتلقي - عبر استخدام الدارجة التونسية - هو السبب الرئيسي في نجاح مبادرة الجريدة، ذلك بالاضافة إلى الطرائف التي لا تغيب عن كل عدد يصدر. يقول، "لا نقبل بأن تخضع الجريدة للنمطية٬ نريد الإرتقاء بالمحتوى لمواكبة العصر الحديث، بالتالي عمدنا لاختيار الأسود والأبيض في الصور لإضافة جمالية ونوستالجية على المواضيع المكتوبة لإغراء القارئ".
أول عدد صدر في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من سنة 2015 تحت عنوان "جو المدينة". ويقول هامبرت "أن طابع الجريدة جعل أصحاب المشاريع هناك يساندوننا في التوزيع، نحظى الآن بأكثر من نقطة توزيع دائمة. كذلك بالنسبة للكتّاب المتطوعين، أصبح سكان المدينة يأتون إلينا بمساهماتهم لننشرها وهي عبارة عن مقالات٬ ذكريات وصور وغيرها". في حوار شبكة الصحفيين الدوليين مع زينب مديوني، رئيسة التحرير قالت لنا بأن البعض من أصحاب المحلات الذين لا يفقهون لا القراءة ولا الكتابة، يستعينون بأولادهم وأحفادهم ليتمكنوا من الظهور في جريدتهم المجتمعية.
الخط التحريري لجريدة المدينة
الجريدة مجانية ذو منهج مجتمعي٬ تهدف إلى تسليط الضوء على الحياة الإجتماعية والحضرية الغنية في مدينة تونس وتُبرز أهميتها كمركز تاريخي. يحاول فريق العمل إصدارها شهرياً بالدارجة التونسية مع بعض النصوص المترجمة إلى الفرنسية والإنجليزية بهدف الوصول إلى جمهور أوسع. كل شخص يرغب في المساهمة يستطيع أن يبعث بمقالة أو صورة إلى صفحتهم على فايسبوك.
تشير مديوني أنهم يحاولون الابتعاد عن صور البطاقات البريدية المحمّلة "بكليشيهات" قديمة أو التسويق السيئ للمدينة على أنّها مكاناً خطراً ومتهدّماً. تتابع "نتجنب أيضاً انتهاج منهج علمي صرف أو نخبوي بحت. ويمكن لسكان المدينة تقديم المواد الشخصية للمساعدة في محتوى الجريدة ونستخدم مساهماتهم في شكلها الأصلي لإعطاء الجريدة طابعاً يشبه اليوميات".
المتطوعين ركن أساسي لتطوّر الجريدة
"ليس من السهل التعامل مع متطوعين خاصةً لو كانوا طلبة"، هي من أشهر الأقاويل التي تسمعها على لسان عموم الساحة الثقافية التونسية لكن هناك من خالف هذه القاعدة. هم مجموعة من الأشخاص، معظمهم من المتطوعين، تحدثوا عن شغفهم وشاركونا كواليس الإنتاج.
يُسر حيزم من المحررين النشيطين في الجريدة، تم انتخابها مؤخراً من قبل المجموعة لتشغل منصب المسؤولة عن القسم المجتمعي. يُسر وغيرها من المحررين الآخرين من رواد مقهى العنبة، النسخة الحديثة لمقهى تحت السور، يمثلون عماد وسيلة الإعلام هذه. يؤكدون أن هذه الجريدة كغيرها من المبادرات الإعلامية الشابة مستقبلها يكمن في فهم القارىء واعتباره جزءً من المحتوى وليس مجرد متلقي بالمعنى السلبي. المتلقي الإيجابي نهم جداً ووعيه يدفعه لانتقاد الوسيلة الاعلامية التي أمامه إن لم تتماشى مع ذوقه وتطلعاته.
وتأكد لنا مديوني أن تشريك الفريق في القضايا والمقالات كان الدافع لاستقطاب القراء والمنخرطين." رغم أننا بدأنا من دون أية خلفية صحافية إلا أن المحتوى الذي نصدره كان ولا يزال هو العامل الرئيسي لنجاحنا."
معظم المحررين المتطوعين تجاوزوا مرحلة التطوع وأصبحوا يرون في فسحة الأمل تلك عائلة تضمّهم. "أصبحوا عائلتي" هكذا عبَر كل من يسر حيزم وايهاب قاسمي عن رؤيتهم للجريدة في جلسة انتخابية للأعضاء الجدد.
وتشاركنا حيزم، الطالبة بالمعهد العالي للتراث، تجربتها مع جريدة المدينة حيث أنها كانت من البداية مولعة بالكتابة بالدارجة التونسية ووجدت نفسها محاطة بأصدقاء يشاركون باقتراحاتهم، نصوصهم وصورهم في مولود المدينة الجديد. خاضت التجربة ونشرت حكايات وأساطير ممزوجة بالتاريخ. فأصبح لديها جمهور من القراء يتابعونها ويراسلونها عبر صندوق الاقتراحات الموجود في 'قهوة العنبة'.
وتقول حيزم "بغض النظر على الفريق القائم على العمل٬ ديمومة الجريدة هو ببقاء قراءها ومن يشاوكوننا نصوصهم وآراءهم في كل عدد. الفكرة باقية و مستمرة ما دام هناك أشخاص يؤمنون بها حقا".
التمويل ليس بعائق أمام المحتوى المجتمعي الجيد
جريدة المدينة ليس لها هيكل قانوني خاص بها لكن لها ممثّل يتكفّل بالصرف المالي. المعهد الألماني للعلاقات الثقافية الخارجية هو المموّل الرسمي٬ أما المتصرّف المالي فهي الشركة المجتمعية التي تحمل اسم السمكة الزرقاء أو Blue Fish.
قابلنا ليلى بن قاسم، المديرة المالية وصاحبة شركة السمكة الزرقاء، وهي الممثل القانوني والشريك المالي للجريدة. السمكة الزرقاء هي مؤسسة إجتماعية تعمل على تصميم وتنفيذ مشاريع بهدف المحافظة على الحرف التقليدية والأماكن التاريخية، لهذا فإن أهداف جريدة المدينة تتماشى مع الشركة. تقول بن قاسم، "نحن نعمل معاً على خلق تعاضض وشعور مجتمعي أفضل لتعزيز الإحساس بالإنتماء والفعالية في المجتمع المدني لذلك نحاكي القضايا التي تهم المدينة وسكانها. فعن طريق هذه المبادرة وغيرها نستطيع المحافظة على ما تبقى من المناطق التاريخية لدينا. إنّها وسيلة للحفاظ على الهيكل الحضري وإبراز الإنسجام الإجتماعي والثقافي حيث يمكن لأي شخص أن يصبح جزءً منها."
إن كانت ديمومة الجريدة مضمونة بالمحتوى الجيد الذي تقدمه إلا أن الجانب المالي يبقى العائق الأساسي. فلقد كان من السهل على فريق العمل أن يكسبوا ثقة القراء، إلا أن المانحين والممولين يصعب إقناعهم. بالنسبة لجريدة المدينة، فبعض القراء طلقاء الأيدي يجودون بما استطاعوا إليه سبيلا ليساهموا بطريقتهم في بقاء هذا المنبر الثقافي. الشراكات التي أبرموها ولو ضمنياً، مع ناشطين آخرين في المجتمع المدني، تمثل عامل نجاح قد يساعد في تطوير الجريدة.
ديمومة المشروع ودور مواقع التواصل الإجتماعي
تجيبنا بهية نار٬ مستشارة في وسائل الاتصال المجتمعي٬ عن تساؤلنا عن كيفية تطوير هذه المبادرة الإعلامية، وتقول: "يتمكّن فريق التحرير في إثراء وتوزيع إنتاج الجريدة باستخدام مواقع التواصل الإجتماعي كالإنستغرام وسناب شات مما يساعدهم على بناء جسر بينهم وبين متابعيهم. وكبداية لو طوروا تطبيق محمول خاص بهم فذلك سيفتح لهم آفاقاً جديدة بالتأكيد." وبرأي بهية إن وسائل الاعلام البديلة لا تستهدف جمهوراً واسعاً، خاصةً مع اختيار فريق التحرير التخصص أكثر من غيرهم وتابعوا مسيرتهم للوصول إلى هدف محدد وذلك كان واضحاً من المحتوى المقدم، فكان سبباً رئيسياً في نجاحهم.
المحتوى المقدّم يجيب على احتياجات واهتمامات محددة مثلهم مثل غيرهم من المبادرات الإعلامية التي تتطابق بمحتواها مع اهتمامات الفئات المحددة، والتوجه نفسه تأخذه مبادرة وجهني."يعمل الفريق الحالي على توسيع حلقة نشر الجريدة٬ وتتابعاً لذلك ظهر مؤخراً عدد خاص في Brown Book. أمّا بالنسبة للأعداد السابقة بإمكانكم تحميلها هنا. حمل المعجبون بجريدة المدينة صحيفتهم أينما ذهبوا وتمّ توزيع الجريدة في جامعة هارفرد٬ وعدة مدن أوروبية أخرى وذلك بمساهمة القراء طبعاً.
حضور جريدة المدينة في الإعلام الرقمي متواضع ومحدود فبالإضافة إلى صفحتهم على موقع فايسبوك٬ لديهم مدونة على موقع تمبلر وبامكانكم زيارتها هنا، على أمل إطلاق حسابات جديدة على معظم مواقع التواصل الإجتماعي. تتلقى جريدة المدينة اقتراحات القراء في مقر معجبيها مقهى العنبة بالمدينة العتيقة في تونس العاصمة.