[ كثفت السعودية مؤخرا من حملات الاستقطاب لكن دون مشروع حقيقي ]
بات واضحا أن إستراتيجة المملكة العربية السعودية ترتكز على محورين أساسيين، الأول مواصلة الحرب العسكرية ضد جماعة الحوثي في اليمن، والثاني العمل على استقطاب قيادات في الجماعة، وهو ما أعلن عنه ناطق التحالف العربي عندما صرح أن السعودية تسهل عملية انشقاق أي قيادات في جماعة الحوثي، وخروجها من اليمن.
تلك هي إستراتيجة الحروب، التي تعتمد على إضعاف الطرف الآخر بعدة أساليب، وتضيق الخيارات عليه إلى أقصى الحدود، وصولا لتجريده من كافة وسائل القوة، لكن في الحالة اليمنية وفق السلوك الذي تمارسه السعودية في الوقت الراهن فإن الأمر ينطوي على مخاطر ومصالح في وقت واحد.
المصالح هي للجانب السعودي الذي يسعى لتحقيق انتصار بعد أربع سنوات من الحرب، وخاصة بعد مقتل الصحفي جمال خاشقجي، وما سببه من تداعيات أثرت على صورة المملكة عالميا، كما لم تفعله حربها في اليمن، وبالتالي تسعى الرياض لجذب الشخصيات التي عملت في السابق مع جماعة الحوثي وتلك الموالية لعلي عبدالله صالح، وضمها تحت جناحها في الرياض، وذلك يعني الانتصار الكبير بالنسبة للسعودية، والذي يقوم على تحييد تلك الشخصيات، وضمان عدم بقائها مع الحوثيين، كنوع من التجريد البطيء للجماعة الحوثية.
لكن المخاطر ترتد على اليمن واليمنيين، فالملاحظ هو غياب مشروع يمني حقيقي يقوم على استيعاب مثل تلك الشخصيات ضمن لافتة واحدة تمضي نحو المستقبل، وتنصهر جميعها في بوتقة واحدة، سواء على الجانب العسكري أو السياسي، بما يضمن خلق كتلة صلبة من شأنها أن تتزعم بناء الدولة وتتجاوز الماضي، وتضع حدا فاصلا يمنع تكرار ما جرى في اليمن.
تكتفي السعودية من تلك الشخصيات التي تهاجر نحوها منذ ما بعد مقتل صالح العام الماضي بإعلان الولاء لها، فذاك حقا ما يهمها، وهي بذلك تضمهم إلى جانب عشرات الشخصيات والمكونات السياسية التي هاجرت إلى الرياض عقب انطلاق عاصفة الحزم، وظلت مركونة في فنادق وشقق الرياض بلا أي وزن أو تأثير، وأفضل ما تجيده هي إصدار البيانات المتتالية المؤيدة للرياض أو المتضامنة معها.
بينما لا شيء تغير على صعيد تعزيز دور الحكومة الشرعية كحاضن ومرجع ومعترف بها دوليا، وهي التي تقول الرياض إنها تدعمها، وتحارب لاستعادة شرعيتها، فكل القيادات العسكرية والسياسية التي تركت الحوثيين آمنت فقط بالسعودية والإمارات، ودخلت في بيت طاعتها، لكنها لم تتحرك خطوة واحدة في اتجاه الالتئام بجسد الشرعية ككيان شرعي لخلق جسد واحد أكثر تماسكا وتنوعا وحضورا.
اقرأ أيضا: القافزون من مركب الحوثي.. توبة أم ضرورات المرحلة؟
ينطبق هذا على الجانب السياسي، فحزب المؤتمر على سبيل المثال لا زال يمانع في الانضمام لقيادة الحزب الموجودة في الرياض، والتي أعلنت منذ اليوم الأول العمل تحت مظلة الحكومة الشرعية، والعمل من داخل الأراضي السعودية ممثلة بالرئيس عبدربه منصور هادي، وأصبح الحزب متوزعا في قياداته وأنصاره على عدة دول عربية، مفتقدا للتأثير وواحدية الموقف، الأمر الذي جعله بدون أي إضافة حقيقية منذ مقتل صالح، وبدون أي تأثير أحدثه، وكل ما فعله هو إيمانه بالسعودية فقط.
بل إن الكثير من هؤلاء انتقل بكافة أحقاده وأوهامه إلى صف التحالف، واستمر في ممارسة ذات التضليل والتزييف الذي كان يمارسه من قبل، مستهدفا قوى وشخصيات كانت الأسبق منه في تأييد الشرعية، والافتراق عن الحوثيين ومشروعهم.
الأمر نفسه ينطبق على الجانب العسكري، فكل الشخصيات العسكرية التي تركت الحوثيين بعد مقتل صالح لم تندمج في الجيش الوطني الذي يقاتل الحوثيين منذ اليوم الأول للانقلاب، وضحى بالكثير من قياداته وأفراده، حين كان هؤلاء من يقودون المعارك مع الحوثيين ضد النواة الأولى للجيش في مختلف الجبهات.
خرجت تلك القيادات العسكرية من تحت سيطرة الحوثي بعدما سلمت له كل الإمكانيات العسكرية والعتاد، وأوصلت قياداته إلى أعلى مرتبة ومنصب في الجيش، ورحب التحالف بانشقاقهم عن الحوثيين، ومثلهم رحب أغلب اليمنيين، لكن هؤلاء المنشقين لم يعمل التحالف على إذابتهم في الجيش الذي يقول إنه يدعمه ويتولى الإشراف عليه ويموله بالسلاح والمال، بل ذهب لتسكينهم بطريقته الخاصة، وعمل على تنميتهم وتسمينهم بعيدا عن الحكومة الشرعية، وعن الجيش الوطني، مكتفيا بإعلان ولاء ذلك الجيش للسعودية والإمارات، بل وعمل على منحهم جبهة قتال خاصة بهم، ليؤجج بذلك الصراع بين اليمنيين أنفسهم، ويقسمهم إلى عدة كيانات تدين له بالولاء، لكنها تضمر الشر والمكر لبعضها البعض.
ومع ذلك لا يبدو أن لهذه الخطوة أي تأثير كبير على الجماعة الحوثية، فهي تدخل في سياق الحرب النفسية والمعنوية، أما تأثيرها المادي فيبقى محدودا، إذ إنها تقتصر على استقطاب شخصيات لا تملك أي تأثير ميداني أو شعبي، ويسهل على الحوثيين تعويض الأثر الناتج عن الفراغ الذي يخلفه رحيل هؤلاء.
إن غياب وجود مشروع حقيقي ينضوي اليمنيون بمختلف مكوناتهم وتوجهاتهم في إطاره يؤثر بشكل كبير على الوضع في اليمن حاليا ومستقبلا، ويزيد من التعقيدات البينية بين مختلف الأطراف اليمنية، ويمد الصراع بالوقود ليبقى مشتعلا على الدوام، ففي حين يحقق التحالف النجاح في أجندته داخل اليمن، لا يزال اليمنيون بلا مشروع حقيقي، وكل طرف لا زال محتفظا بقدر كبير من الضغينة والانتقام للطرف الآخر.
هذا المشروع الغائب لا يخدم اليمنيين اليوم، بل يخدم التحالف نفسه بالمقام الأول، فكلما تعددت الكيانات زاد ولاؤها للخارج رغبة في البقاء وتقديم نفسها كبديل عن البقية، بينما يبقى الجميع في دائرة الخنوع والضعف، فيما يتمكن التحالف من إدارتها وإخضاعها، وجعلها قابلة للتطويع في الاتجاه الذي يرغب به ويريده.
إن مفارقة جماعة الحوثي والانشقاق عنها وتركها وحيدة هو خيار إيجابي في كل الأحوال، كون هذه الجماعة هي من تسببت في كل هذا الوضع والمعاناة التي يعيشها اليمنيون اليوم عندما تحالفت مع الرئيس السابق ونفذوا انقلابهم ضد الخيار الذي أجمع عليه اليمنيون، لكن التعامل بهذا الأسلوب الذي تديره الرياض لا يحل المشكلة بقدر ما يضاعفها، فاليمنيون اليوم بحاجة ماسة إلى مشروع وطني يلتقون تحت ظلاله، ويرتهن للمصلحة الوطنية، بعيدا عن الاتكاء على الخارج.
مشكلة هذه الهجرة من كيان لآخر ليست جديدة على الواقع اليمني، فهي تجربة مكررة ومستنسخة عند كل منعطف في اليمن، ابتداء من ثورة الـ26 من سبتمبر حتى اليوم، وهو ما أفقد اليمنيين وحرمهم من وجود مشروع يمني حقيقي يلتفون حوله، ويحافظون عليه، وينطلقون به نحو المستقبل.
هذا الرحيل والقفز من فوق المراكب في كل خطوة خلال المراحل المختلفة من الأحداث في اليمن، تسبب في إفلات الكثير من المتورطين بحق اليمن، إذ يجري مسح تأريخهم وجناياتهم التي تسببوا بها داخل الوطن بمجرد خروجهم من الجانب الأول إلى الجانب الثاني.