حين قدمت إلى صنعاء منتصف التسعينيات كنت صغيرا وأخي يخاف أن أضيع، ولذا كنت لا أذهب إلى أي مكان الا برفقته.
ثم بدأت أخرج للأماكن القريبة وأعود، وبدأت أحفظ عنوان السكن وأخرج إلى ميدان التحرير أتفرج على الباعة وهم يعرضون كل شيء للبيع.
ألتقطت لي صورا وعلى كتفي صقر وخلفي دبابة التحرير التي اختفت مؤخرا، ولا أدري أين ذهبت تلك الصور؟!
وعلى الرصيف المقابل كانت تجلس امرأة تفرش خرقة بها أصداف وودع، في البداية ظننت أنها تبيع تلك الأصداف البحرية لكنني فوجئت بأن الناس يأتون إليها فتخلط تلك الوداع والأصداف ثم تتأمل فيها وتخبرهم بأشياء ستحدث لهم فيعطونها نقودا ويمضون.!
في ذلك الصباح بعد أن أكلت أربعة أقراص من فطائر الخمير وشربت الشاي بالحليب أشتريت مجلة قديمة وذهبت إلى مكان قريب من تلك المرأة، جلست على البلكة التي يتكىء عليها بائع الساعات الذي لم يأت.
لقد دفعني الفضول للتنصت عليها ومعرفة ما تقوله للناس حتى يعطونها نقودهم ويمضون؟ أقلب صفحات المجلة وأتظاهر أنني اقرأ بينما كنت أصغي السمع لما تقوله..
في البداية اقترب منها أحدهم بثياب أنيقة ومظهر فاخر لو رأيته لقلت:
_ من المؤكد أن هذا أستاذا في الجامعة أو مديرا لمنظمة مرموقة الشأن.
قلت في نفسي:
_ لقد وقعت هذه المرأة في شر أعمالها الآن سيلقنها درسا لن تنساه، وسيطردها من هذا المكان الذي تجلس فيه للنصب على الناس.
اقترب الرجل بهدوء وألقى عليها تحية الصباح ثم أخرج من جيبه عدة أوراق نقدية وناولها.
دست النقود في حجرها وخلطت الودع والأصداف ثم قالت له:
_ أنت تنتظر ترقية في العمل لكن هناك من يعرقلها..
قاطعها:
_ أحمد عبد الصمد ما فيش غيره.
تأملت صدفة أخرى وقالت:
_ موعود بفلوس يا تسلم يا تستلم.
هز رأسه وصمت فواصلت كلامها:
_ عينك على واحدة في الشغل لكن...
ابتسم وتهلل وجهه وغمرته سعادة عجيبة فقال لها:
_ تقولي با توافق لو تقدمت لها؟
عادت تتأمل الصدفة وقالت:
_ ما تزال مترددة لكن لو با تسكنها ببيت ملك خاص بها با توافق.
هز رأسه موافقا فواصلت حديثها:
_ قدامك سفر في مهمة عمل في المستقبل القريب لكن لا تسافر .. قاطعها:
_ ولماذا كفى الله الشر ؟!
_ ستتعرض لحادث لو سافرت.
_ خلاص لن أسافر.
هم بالوقوف لكنها أمسكت صدفة أخرى وقالت:
_ زوجتك.. قاطعها:
_ ما لها المرأة؟
_ نفسها تشتري لها ذهب من فترة وأنت توعدها وتماطل..
_ اذا نجح المشروع الذي في بالي سأشتري لها اللي بنفسها.
غادر الرجل مسرورا كأنه نال للتو جائزة دولية.!
لم تمر دقائق حتى جاءت فتاة يبدو من مظهرها أنها طالبة جامعية، جلست إليها:
_ كيف حالك يا خالة؟
_ بخير يا بنتي..
نظرت الفتاة يمنة ويسرة ثم همت أن تقول شيئا لكنها ترددت.
قالت المرأة:
_ أعرف سؤالك من عيونك يا بنتي وعندي الجواب.
خلطت الأصداف والودع ثم تأملت في الصدفة وقالت:
_ الجواب أنه شاب حلو الكلام مليح القوام ويوعدك على الدوام بتحقيق الأماني والأحلام لكنه كذاب.
_ كيف يا خالة؟
_ زميلك بالجامعة، ابن ناس ويكتب لك جوابات تخليك ساهمة واجمة لكنه كذاب.
وأضافت:
_ أهله خطبوا له قريبته في بلاده فلا تصدقيه أما جوابه فأحرقيه.
_ وقلبي اللي تعلق فيه؟
_ قولي لقلبك ينسيه.
ترددت الفتاة ثم تنحنحت وقالت:
_ شوفي يا خالة ما فيش حد غيره جاي؟
_ مدي يدك للجيب وفرحي خالتك علشان ربنا يفرحك.
فتحت الفتاة حقيبتها وأعطتها رزمة من النقود.
أخذت النقود وأخفتها في حجرها ثم خلطت الأصداف والودع وتأملت صدفة وقالت:
_ في واحد قريبك يتكلم عليك ويتمنى رضاك وأنتي ولا تعبريه..
_ صحيح عبد الرحمن بن خالي.
_ نصيحتي لا تعبريه.
قاطعتها بلهفة:
_ وكيف يا خالة؟
_ سيأتيك النصيب مهندس أو طبيب أو مغترب كثير المال يسعد لك الحال.
ثم اقتربت المرأة من الفتاة وهمست لها بكلام لم أسمعه.
غادرت الفتاة وشرعت المرأة تجمع نقودها وتعدها ثم دستها في جيبها.
حينها غادرت بدوري إلى البوفية المجاورة وطلبت شاي بالنعناع.
أشرب الشاي وأراقبها من بعيد، وحين لم يأت أحد إليها أخرجت مسبحتها الطويلة وبقيت تمررها بيدها وهي شاردة.
عدت إلى جوارها فمر ثلاثة من الشباب فقال أحدهم:
_ تعال يا مطوع خلها تشوف لك البخت.
إلا أن الشاب الملتحي جره قائلا:
_ أنت تصدق هذه المشعوذة؟!
صاحت المرأة:
_ المشعوذة هي أمك يا ابن ....
وأمطرت المطاوعة بالشتائم والسباب المقذع.
لم تتوقف إلا حين جلس إليها شاب كان مرتبكا ويتصبب عرقا كأن هناك من يطارده.!
سألها:
_ كيف أعمل بأخي؟ يحاربنا عند أبي وعينه على خطيبتي؟!
سألته:
_ أخوك مطوع صح ؟
_ أخي صايع ضايع.
خلطت الأصداف وتأملت إحداها وقالت:
_ اضربه..
قاطعها:
_ كيف ؟
_ اضربه مش تقتله، اضربه وبعدها صالحه وصارحه وبا ترجعوا أحباب.
وأضافت:
_ كل الطرق مغلقة أمامك، ما معك الا هذا الحل المجرب.
وما محبة إلا بعد عداوة.
نهض الشاب ليمضي فسألته:
_ وحق المشورة؟
دس في يدها النقود وغادر سريعا.
وغادرت بدوري المكان.
ومرت أعوام كثيرة ونسيت هذه القصة حتى كنت أمر قبل أيام في ذلك المكان فرأيتها ما تزال كما هي في مكانها المعتاد، تخلط الأصداف والودع ويأتي إليها الكثير من الناس.!!