اتكأت حيثُ أكون، بصدر مجلسي الصغير المتواضع في منزلي الذي أقيم فيه، هنا، في قرية "واقص"، في محافظة "تعز" اليمنية، وفي أنامل يدي غصنُ قاتٍ طّريٍّ أخضر ، ورائحة الشّاي الأحمر المشعشع بتوابل القرنفل والهال تنبعث أبخرة وكأنها رائحةُ خمرٍ أندرينيّة ، من وسط صينيّة مزخرفة وضعت أمامي منذ برهة يسيرة تنبعث تلك الرائحة الزكيّة ، وكلما أفرغت ما بداخل الصينيّة من شّاي، أراها مملوءة ، وكأني لم أرتشف منها حسوة.
"أم زاهر " هي نديمي الوحيد في سمرة هذا الليل البهيم ، وهي من تمليء تلك الصينيّة بالشّاي حين تفرغ، وقد افتتحنا ليلتنا الجميلة هذه بذكرى أيامٍ خالية ، تجاذبنا أطراف الحديث ، وعدنا به إلى زمن الصبِّا ، وأيوب طارش على مقربة منا يعزف ويقول : "مضى عام وأيامٌ تليها /تذكرني بداية حبي فيها ". وكلما ارتفع صوت طارش سائلا : " فهل مليت قُربي ثم وُدي ، أومأنا برأسينا لا ، فلا جفاء ، ولا تحدي، قلت لها في معرض حديثي : إنً ذكرى حفل خطوبتها بالنسبة لي ، وشيوع نبأ موافقتها على الزواج بي ، ذكرى تثير في القلب وجدي ، وتجعلني أحلق في السماء كصقور الشاهين ، وأسبح في الماء كأسماك الزعنفة الشراعية.
في غاية السعادة والنقاء الروحي قضينا الساعات ، نتناجى أشعار العُشاق من العرب الأقدمين تارة ، ونسمع لأيوب طارش وكاظم الساهر تارة ، وينتصف الليل ، وإذ برأس الحبيبة يتدلى شيئا فشيئا ، وحين وسنت واشتد نعاسها ، أشحت عنها بوجهي ، وقلبت بصري في مكتبتي الواقعة مني على بعد مترين تقريبا، باحثا عن كتاب أكمل معه السمر ، وقد أيقنت الآن أني مصاب بمرض الحوَل ، لا أستطيع رؤية حرف كتب هنا ، وقد أخذني الحوَل فذهب بي بعيدا ، حيثُ مدينة تعز ، وساكنيها ، حيث غرفة زميلي يوسف ، وليالي السعد فيها ، والتي كانت تزينها ضحكات الأخلاء ، وندواتهم الأدبية.
من شرفة منزلي في مديرية خدير ، أطللتُ بخيالي على غواني تلك المدينة ، وتذكرتُ للتو ، خبر رحيل إنسان أعزه قلبي ، بل وأعزه كل قلب رأه ، وقد كان شابا يافعا ، في مقتبل العمر ، طلعته كأنه البدر ، حين يبتسم يلمع نورٌ من على نواجذه كأنه البرق ، ويضاحكك بوجه بشوش ، ويمطرك بأخلاق تكاد لا تعد.
الحديث عن الحب والعشق ، هو سِّرُّ محبتي عند ذلك الفتى ، وقد لزمني طوال شهر ونيف ، وقد كنت أقرأ عليه من أشعار سلمان ومنصر ، فكان يطرب بها ويعجب ، بل وكان يحفظها عن ظهر قلب ، وحينها تعلقت بالفتى أكثر ، وقد كنت أرغبه في الجامعة كلما سنحت لي الفرصة ، والفتى يعارضني بعدم رغبته بشيء يذكر ، وفي جوف الفتى أبصرت طلاسم ، حيالها وقفت عاجزا عن فكّ شفراتها ، وذلك بعد أن سبرت أغواره ،ولججت في نقاشه.
رحيل زيد العقيبي من مدينة تعز إلى مكان لا نعلمه ، في الحقيقة كان فاجعة لم ولن نتصورها يوما ، وقد رحل حبيب القلوب مخبرا إيانا والعالم أجمع أنه فتىً عاشق ، وأننا قد قسونا عليه حين حرمناه من وصاله بمعشوقه ، وفضل أن يرحل من أرض يشعر أنها أرض ضّيم وظلم ، لكن إلى أين؟
أي قلب تمتلكه يا زيد ؟ وما كان ينبغي ما فعلته وتفعله ، كيف تعيش في معزل عنا ؟ أتعلم أي جرحٍ خلفه رحيلك؟ ألا ترق لحالنا وحال أمك ؟ ألم يأنِ لك أن تعود ؟
غياب الأخ والصديق والحبيب (زيد العقيبي )، ورحيله المفاجئ ، مصاب أليم ، ومأساة تنغض كل لحظة سعادة أجدها أمامي .