[ الصين وضعت إستراتيجية لتصبح الإمبراطورية الأكبر وتنافس الولايات المتحدة (رويترز) ]
"لا نريد نسخة جديدة من الاستعمار" قالها رئيس الوزراء الماليزي بالعاصمة الصينية بكين لمضيفه الصيني لي كه تشاينغ في أغسطس/آب الماضي، وأبلغه حينها أن بلاده ألغت ثلاثة مشاريع اقتصادية عملاقة كانت ستمولها بكين، وأكد حينها أن الأمر لا يتعلق بصب أموال كثيرة إنما في عدم قدرة كوالالمبور على سدادها.
وسبقت لذلك سيراليون التي ألغت مشروعًا بتمويل صيني بقيمة أربعمئة مليون دولار لبناء مطار في البلد الواقع غربي أفريقيا، ونقلت وسائل الإعلام المحلية أن وزير الطيران كابيني كالون قال إن الرئيس الحالي جوليوس مادا بيو يرى أنه "لا حاجة لبناء المطار".
مهاتير وجوليوس لم يكونا الوحيدين اللذين استشعرا خطر "فخ الديون الصيني" فقد حذّر خبراء أفارقة بارزون أيضا من أن الصين قد توقع الدول الأفريقية في فخ الديون، من خلال منحها قروضاً ثقيلة قد لا تتمكن من سدادها، وأن بكين إذا ما استمرت على هذا النهج قد تبدأ التأثير على القرارات الاقتصادية والسياسية لبعض الدول الأفريقية.
دبلوماسية فخ الديون
تتحرك الصين بخطى ثابتة لتصبح الإمبراطورية الأكبر في العالم تنافس الولايات المتحدة لبناء نظام عالمي جديد، وتعمل من خلال مبادرة اقتصادية ضخمة لغاية تسمى "الحزام والطريق" على التمدد الاقتصادي عالمياً.
ورغم تفاوت المعدلات، فإن أكثر من ثلاثمئة مليار دولار قد أُنفقت على هذا المشروع، وتخطط الصين ﻹنفاق تريليون إضافية خلال السنوات العشر القادمة.
كثيرة هي الدول التي أبدت نظرة إيجابية تجاه الأموال الصينية، واعتقدت أنها قروضٌ شبه مجانية، لكن هذه القروض كانت مكلفة جدا اقتصاديا وقد تعمل على تكبيل هذه الدول لارتباطها بالاقتصاد الصيني وبالتالي ترهن مستقبلها للشركات الصينية.
براهما شيلاني أستاذ الدراسات الإستراتيجية بالهند كان من أوائل من لفتوا النظر لمشاريع الصين بالعالم الثالث الهادفة إلى استغلال الموارد بتلك الدول وغزو الأسواق المحلية بالسلع الصينية منخفضة الجودة. كما ترسل بكين أحيانا عمالتها الخاصة للمنافسة على الوظائف المحلية، ونتيجة لذلك "أصبحت هذه البلدان غارقة في فخ الديون الصينية".
سريلانكا.. بعلم صيني
موقع سريلانكا الإستراتيجي على خط الملاحة الأكثر ازدحاما بين شرق آسيا والشرق الأوسط وأوروبا جعلها مطمعا كبيرا للصين التي أغدقت على هذه الدولة الصغيرة حوالي ثمانية مليارات دولار بفائدة قدرها 6.3%، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالبنك الدولي حيث تتراوح الفائدة بين 0.25 و3%.
نتيجة لذلك حصلت الصين على 85% من حصة مرفأ "هامبانتونتا" الإستراتيجي بعقد مدته 99 سنة، بالإضافة لحوالي 15 ألف فدان قريبة من الميناء كمنطقة صناعية.
ميناء مومباسا في خطر
كينيا هي الأخرى اضطرت لرهن أكبر وأهم مرفأ بها "ميناء مومباسا" للحكومة الصينية، وذلك بسبب قروضها المتراكمة والتي استحق دفعها، حيث بلغ حجم الديون أكثر من 5.5 مليارات دولار، مما يضع كينيا ضمن الدول الأكثر عرضة لفقدان الأصول الإستراتيجية لصالح بكين.
وبجانب ذلك يشكو الكينيون من "عنصرية" المستثمر الصيني، فقد نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تقريرا في هذا السياق، عقب انتشار فيديو لمدير مصنع صيني أهان فيه الشعب الكيني، مما أثار توجس الكينيين من تنامي النفوذ الصيني في بلادهم.
ميناء غوادر صيني حتى إشعار آخر
أما في باكستان فقد طالب رئيس الوزراء الحالي عمران خان بـ "الشفافية" في عقود وقعت مع الصين وصفت بالمبهمة لأنها تتضمن شروط سداد تصب في مصلحة بكين.
هذا بجانب أن الشركات التابعة للحكومة الصينية استثمرت نحو 62 مليار دولار في باكستان لبناء محطات الطاقة الشمسية ومحطات توليد الطاقة، وبناء وتوسيع الطرق السريعة، وتجديد خطوط السكك الحديدية.
كل هذه القروض تم تقديمها بالدولار، مما سيضطر باكستان للسعي وراء تحقيق فائض تجاري مرتفع حتى تستطيع سدادها.
إثر ذلك استحوذت إحدى الشركات الصينية على ميناء غوادر الاستراتيجي لمدة أربعين عاما، وستمتلك الشركة 85% من إجمالي إيراداته.
المالديف وبنغلاديش أيضا
تقدر ديون الصين لجزر المالديف بمبلغ 1.3 مليار دولار (أي أكثر من ربع إجمالي الناتج المحلي السنوي) وقد استأجرت بكين إحدى جزرها لمدة خمسين عاما وبعد استلام إبراهيم صلح الرئاسة أخذ على عاتقه مراجعة الإنفاقات مع الجانب الصيني التي وصفها بأنها مشروع للـ "استيلاء على أراضي الدولة".
في بنغلاديش أيضا، ومع تراكم الديون على الحكومة لتصل لعشرات المليارات من الدولارات، ضعت الصين يدها على أكبر وأهم ميناء بحري فيها وهو مرفأ شيتاغونع.
هل يقع العالم العربي بالفخ؟
على هامش قمة بكين لمنتدى التعاون الصيني الأفريقي العام الماضي، استكمل الرئيس السوداني مباحثاته مع نظيره الصيني، وخلال هذا اللقاء أُعلن عن تقديم بكين تسعين مليون دولار كمنح وقروض لدعم مشاريع التنمية.
في الجزائر تأتي الاستثمارات الصينية في قطاع البناء بحوالي 1.2 مليار دولار، والزراعة خمسمئة مليون والباقي في قطاع الخدمات.
أما في مصر فقد أكدت سحر نصر وزيرة الاستثمار والتعاون الدولي أن القاهرة وبكين وقعتا صفقات بقيمة 18 مليار دولار في إطار مبادرة "الحزام والطريق".
في جيبوتي من المتوقع أن تبلغ الديون 88% من جملة ناتجها المحلي البالغ 1.72 مليار دولار، وأغلبها ديون للصين، وربما تواجه هي الأخرى احتمال تسليم الصين بعضا من أصولها لتسديد دينها.
ويبقى السؤال مطروحا هنا.. هل ستقع الدول العربية ضحية "فخ الديون الصينية" أيضا؟
بعيون الخبراء
أندريه دوفنهيج الأستاذ في جامعة نورث وست بجنوب أفريقيا يقول "في النهاية، ستطلب الصين من الدول المتعثرة عن سداد ديونها أشكالًا أخرى من إعادة الدفع، مثل الموانئ والأراضي" وأعرب عن اعتقاده بأنه على المدى البعيد، ربما تبدأ الصين التأثير على القرارات الاقتصادية والسياسية لدول أفريقية محددة.
بدوره، قال شادراك غوتو الأستاذ في جامعة ساوث أفريكا "إن الصين لا تأتي إلى أفريقيا لتنميتها" مشيرًا إلى أن القارة تكون ضعيفة التفكير "عندما تعتقد أن الدول الأخرى تأتي إليها لإفادتها" وأعرب عن اعتقاده بأن الصين لديها إستراتيجيتها الخاصة في التعامل مع أفريقيا، لهذا ينبغي على القارة أن تكون حذرة عند توقيع الاتفاقيات معها. وأضاف "علينا أن نعمل على مصالحنا الخاصة لنرى كيف يمكننا الاستفادة".
وبحسب معهد الأبحاث الأميركي (سنتر فور غلوبال ديفيلبمانت) فإن مبادرة "الحزام والطريق" تزيد بشكل ملحوظ من خطر خلخلة أوضاع ثمانية بلدان مثقلة بالديون وهي منغوليا ولاوس وجزر المالديف ومونتينيغرو وباكستان وجيبوتي وطاجكستان وقرغيزستان.
فقد أسّست الصين مبادرتها التي تريد أن تغيّر بها وجه آسيا لتنقلها إلى عصور الحداثة على مشروع قديم عمره يزيد على ألفيْ سنة، ألا وهو "طريق الحرير". كان هذا الطريق يمتد من الصين عبر آسيا الوسطى إلى شواطئ المتوسط، ومن هناك يمتد بحراً إلى أوروبا التي كانت تستقبل البضائع الآسيوية الثمينة حينها من البهارات والخزف والحرير الصيني.
أميركا أم الصين؟
خلال قمة منتدى آبيك الأخيرة بغينيا، كانت المواجهة بين أميركا والصين على أشدها عندما دعا نائب الرئيس الأميركي دول المنطقة إلى الوقوف بجانب الولايات المتحدة متهما الصين باتباع دبلوماسية دفتر الشيكات التي وصفها بأنها "غير شفافة".
ودعا المسؤول الأميركي دول المنطقة إلى التقرب من الولايات المتحدة قائلًا "نحن لا نغرق شركاءنا في بحر من الديون، لا نفرض قيودًا ولا ننشر الفساد ولا نسيء إلى استقلالكم" ولكن هل فعلا كانت الولايات المتحدة صادقة في هذا القول.