[ مرسي مع اردوغان ]
كثير منا يسافر بخياله، ويتذكر مشاهد مرت عليه، منها ما أثار بداخله فرحاً وفخراً، وربما حسدا وغبطة، مثل: ذلك المشهد الذي وقف فيه الزعيم التركي “رجب طيب أردوغان” بعزة و شموخ يستقبل رؤساء أعظم دول العالم المشاركين في قمة العشرين، وعلى العكس من ذلك، فإن بعض الذكريات قد تثير بداخلنا مزيجاً من الحزن والألم، مثل: تلك اللحظات التي شاهدنا فيها أول رئيس مصري منتخب يقف شامخاً خلف القضبان، يرفض أن يعترف بهذا الوضع الحزين، أو مشهد قائد عسكري معتوه يلقى بكلامه الرث على جمع من البلهاء المنافقين، مدعيا أنه رئيس قلب العروبة والإسلام، و يكون من حقنا عندها أن نسأل: ما الذي أدى بنا إلى هذه النتيجة المؤلمة، بينما نرى إخواننا من الترك في نجاح يتلوه نجاح، ونصر يعقبه نصر.
قد نختلف مع “أردوغان”، هذا الزعيم الفذ، في سياساته أو اختياراته، ولكننا لا نستطيع أن ننكر الحقيقة التي اعترف بها، حتى أشد خصومه، وهى أنه استطاع، مع حزبه “العدالة و التنمية”، الهروب بتركيا، وبمهارة وحنكة، من الأمواج المتلاطمة لحكم عسكر بغيض عنيد، ما فتئ يفرض سيطرته على السياسة التركية مراراً و تكراراً، فلماذا نجح إسلاميو الترك فيما فشل فيه إسلاميو العرب؟
قد يعزو بعض المحللين هذا النجاح إلى عوامل خارجية، مثل: رغبة تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أو عضويتها في حلف شمال الأطلسي، ويكون الحل البديهي الساذج الذي يقترحه هؤلاء المحللون على العرب للخروج من عنق زجاجة العسكر، و إن لم يصرحوا به، هو أن تسعى مصر أو الجزائر مثلاً إلى عضوية إحد المنظمات الدولية المرموقة، كالاتحاد الأوروبي مثلاً. في هذا المقال: أحاول طرح رؤية مختلفة، أكثر شمولاً وأسهل تطبيقاً.
أتذكر أنني كنت أطلع يوماً على تفاصيل الأيام الأخيرة لحكم الرئيس المصري “الدكتور محمد مرسى”، تكرر أمامي اسم رجل بعينه، بدا دوره مركزياً في الأحداث، إنه مدير مكتب الرئيس ” الدكتور أحمد عبد العاطي”، خلال التحقيقات، ادعى رفاعة الطهطاوي: رئيس ديوان الرئيس محمد مرسي، أن الرئيس أمر أن تحال جميع ملفات الأمن، والعلاقات الخارجية الحساسة إلى مدير مكتبه مباشرة، الدكتور أحمد عبد العاطي، والذي كان يرتبها، ثم يعرضها بدوره على الرئيس، لم أكن وقتها أعلم أي شيء عن هذا الدكتور المهم، وتخيلت لبرهة أنه لابد أن يكون حاصلاً على الدكتوراه في أحد فروع العلوم السياسة، أو لعله أستاذ في القانون الدولي مثلاً، لتصدمني المفاجأة، أن الدكتور أحمد عبد العاطي: المنسق الأول لملفات الأمن والمخابرات والعلاقات الدولية، ما هو إلا صيدلي من الشرقية، لا أقصد هنا انتقاص قدر الرجل ـ فك الله أسره ـ ولا التقليل من خبراته السابقة خلال عمله في جماعته وقدراته التنظيمية، التى بدت لا بأس بها، ولا إنكار دوره في قيادة الحملة الرئاسية للدكتور محمد مرسى، ولكن هل هذه مؤهلات تؤهله حقأً للقيام بمثل هذه الأدوار الحساسة، التي تنزلق فيها أقدام أعظم الرجال علماً وخبرة.
قررت حينها البحث عن مؤهلات الدائرة القريبة التي كانت تساعد الرئيس يومياً خلال فترة إدارته للبلاد، فلم أجد منهم من يمتلك المؤهلات اللازمة، غير الدكتورة باكينام الشرقاوى أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة، بينما صعقتنى مؤهلات شخصيات كبرى أخرى في فريق الرئيس، مثل: الدكتور عصام الحداد: مساعد رئيس الجمهورية للعلاقات الخارجية، فهو حاصل على الدكتوراه في الطب، قسم التحاليل، وليس له أية خبرة سابقة أو دراسة في العلاقات الخارجية، وقس على هذا الغالبية العظمى من مساعدي الرئيسين، ودوائر اتخاذ القرار في الحكومة، و كيف لا؟ والرئيس نفسه لا يمتلك أية مؤهلات علمية تؤهله للقيام بواجبات هذا المنصب الخطير، وليس كافياً أن يكون برلمانياً سابقاً، ولا حتى أفضل برلماني في العالم.
ولكن كيف تفسر هذه الحقائق نجاح “أردوغان” وحزبه فيما فشل فيه “مرسي” وحزبه، تأتيك الإجابة سريعاً حينما تتعرف على مؤهلات الثلاثة الكبار في حزب العدالة والتنمية التركي. فالرئيس “أردوغان” هو خريج جامعة مرمرة للاقتصاد والعلوم الإدارية، والرئيس “عبد الله غول” هو أستاذ الاقتصاد الذي ظل طوال حياته المهنية يُدرس الاقتصاد، ثم عمل لمدة 8 سنوات بالبنك الإسلامى للتنمية، قبل أن يصبح محاضراً في الإدارة الدولية، أما رئيس الوزراء “أحمد داوود أغلو” فقد كان رئيس قسم العلاقات الخارجية بجامعة بيكنت باسطنبول، وله كتابات كثيرة في مجال الشئون الاستراتيجية، منها كتابه المترجم للعربية: “العمق الاستراتيجى”، كل هذا قبل أن يصبح مساعداً لوزير الخارجية، ثم وزيراً للخارجية طوال فترة حكم حزب العدالة والتنمية، ثم رئيس الوزراء.
هذه المؤهلات العلمية الراقية للثلاثة الكبار ليست منحصرة فيهم فقط، بل يبدو أن هذه ثقافة عامة عند جميع قيادات حزب العدالة والتنمية، على سبيل المثال: قام “أردوغان” بتغيير وزاري في ديسمبر 2013 شمل عشر وزارات، بالاْستعراض السريع لمؤهلات العشرين وزير (القدامى والجدد)، تجد منهم 18 وزيراً حاصلا على درجات الماجستير في العلوم السياسية أو الإدارة العامة أو إدارة الأعمال، أما الاثنان الباقيان، فكلاهما حصل على دكتوراه أو ماجستير في المجال المتعلق بوزارته.
ولكن، ما علاقة هذا بترويض أصحاب البنادق؟ وهل هؤلاء يقيمون وزناً لعلم أو خبرة؟
إن مشكلة العلاقات المدنية العسكرية تواجه الأنظمة السياسية لجميع الدول، بما فيها الديمقراطيات العريقة المستقرة، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، تنبع هذه المشكلة من معضلات لا يمكن تجنبها في العلاقة المعقدة بين “عسكر” يحترف القتال ويمتلك أسباب القوة القاهرة و”مدنيين ” لا يملكون هذه المقومات. إن طبيعة التربية والتعليم العسكري الحديث تُنشئ لدى الضباط والجنود إحساسا بالفخر والاعتزاز الكبير، والمقترن بالازدراء الشديد والاستهانة الكاملة بكل ما هو مدني، فهم يرون أنفسهم قد حصلوا من العلوم والخبرات ما لا يمكن أن يحصله أي مدنى، يأتى هذا مع تعظيم لا مثيل له داخل الجيش للقيادات العسكرية الكبيرة، ويصل أحياناً إلى درجة التأليه. هذه العوامل وغيرها تجعل انقياد هؤلاء العسكريين لغيرهم من المدنيين أمراً شديد الصعوبة والعسر. فكيف ينقادون لهؤلاء المدنيين الفاقدين للعلم والكفاءة؟ وهم لا يقيمون وزناً كبيراً لشرعية اختيار الناس لهؤلاء المدنيين، فهذه ليست من القيم العسكرية مطلقاً.
لهذه الأسباب، تكون الديمقراطيات الناشئة في أشد الحاجة للقيادات المدنية المؤهلة تأهيلاً علميا راقياً في العلوم المتعلقة بالسياسة والاقتصاد والقانون وغيرها من العلوم الإنسانية.
أولاً : تستطيع هذه القيادات مواجهة العسكريين بمؤهلاتها العلمية العالية في مجالات الأمن والدفاع والعلاقات الخارجية، مكتسبة بهذا احترام بعضهم، ومقللة إلى أقصى حد ممكن من الاحتقار السائد بين العسكريين للمدنيين، وبالتالى تكون فرصتها أكبر في ترويض أصحاب البنادق.
ثانياً: تنجح هذه القيادات، بما لديها من علوم راقية، في إدارة البلاد إدارة ناجحة على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية الداخلية والخارجية، بما يكسبها شرعية عملية كبيرة، ومصداقية لدى قاعدتها الانتخابية الشعبية، يجعل أي تدخل للعسكر في السياسة أمراً باهظ التكاليف.
ثالثاً: إن دراسة العلوم الإنسانية عامة، من سياسة وفلسفة وإعلام وغيرها، تعطى صاحبها نظرة مختلفة تماماً للعالم، لا تعطيها العلوم التجريبية والتطبيقية لأصحابها. فدارس العلوم الإنسانية يفهم أن للظاهرة مائة تفسير وأن الحقيقة قد يكون لها ألف وجه، وغيرها من الأفهام التي تعطى صاحبها خلفية شاملة عن أحوال الناس وطبائع الأمور.
مهما قلنا عن انجازات الرئيس مرسي، فلا أحد يستطيع أن ينكر الكم الهائل من الإخفاقات، وأولها وأهمها: إخفاقه في تطويع أجهزة الأمن، ومخابرات الدولة العميقة، و ليس هذا لعيب في الرجل أو لنقص فيه، بل إن هذه الأمور لهى من أعسر الأمور وأصعبها على من قضى حياته في دراستها , فكيف بمن لم يدرس منها سطراً في حياته، و ليس من الإنصاف أيضاً أن نحمله إخفاق أجيال متعاقبة من الإسلاميين العرب في انتاج الكوادر اللازمة لإدارة الدولة التي حلموا طويلاً بحكمها، فلما كانوا قاب قوسين أو أدنى منها، لم تسعفهم كوادرهم الضعيفة أو عديمة التأهيل.
لن يستطيع المدنيون ترويض بندقية العسكر قبل أن يتأهلوا لهذه المهمة الصعبة، وأول التأهيل: هو الدراسة الأكاديمية للعلوم الإنسانية، والاستعانة بمن قضوا أعماراً في فهم طبيعة الحياة، وسنن الله فى خلقه، لا من ليس لهم خبرة، إلا في الفوز بالانتخابات.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “تفقهوا قبل أن تسودوا”، فهلا تعلمنا من الدرس! و قد قيل: “الذين لا يتعلمون التاريخ …. محكومون بتكراره”، و الحمد لله رب العالمين.