كيف تطير الطيور؟ قد يبدو هذا السؤال ساذجاً، وقد يبدو جوابه بسيطا: تطير الطيور بأجنحتها. حسناً، لو كان الأمر كذلك لتمكن عباس بن فرناس من الطيران عندما ركب لنفسه أجنحة في محاولته الشهيرة، ولكن الأجنحة وحدها، رغم أنه لا غنى عنها من أجل الطيران، لا تكفي، فهي ليست إلا جزءًا من نظام متكامل، يجعل الطير قادراً على الطيران.
نظام متكامل؟ نعم، فكل عضو في الطير من أقصى رأسه إلى نهاية ذيله قد تم تصميمه ليطير، وهاكم أطرافا من عجائب هذا النظام.
إن أول مهمة لنظام الطيران هي رفع الطائر في الفضاء معاكسا للجاذبية الأرضية، وهذا يتطلب أموراً عديدة، أولها توفير القوة الرافعة المطلوبة للإقلاع، ثم تزويد الطير بكل ما يساعده على الاستفادة القصوى منها، أما القوة فمصدرها الأجنحة، إذ توفر للطائر قوة كبيرة بالنسبة لوزنه، تمكنه من الإقلاع بسهولة ويسر، تحسده عليهما الطائرات التي صممها البشر، فما هو إلا أن يضرب الهواء بجناحيه حتى يحلق فورا، وبزاوية إقلاع حادة، فمساحة الأجنحة عند نشرها واسعة جدا بالنسبة لحجم الطائر، فالصقر مثلا، الذي لا يزيد طول جذعه عن نصف متر، ولا يزيد عرضه عن ربع متر، تصل المسافة بين طرفي جناحيه عند نشرهما إلى ما يقرب مترين ونصف المتر.
الريش والجناحان
وتصميم الريش مدهش، حيث تخرج من ساق الريشة شعيرات دقيقة، كل شعيرة متصلة بما يجاورها من شعيرات، بواسطة شعيرات أخرى أدق من الأولى، وكل شعيرة تضم المئات من الأوبار الشديدة الدقة، تصل كل أجزاء الريشة مع بعضها لتكون سطحا مصمتا وقويا وفي غاية الخفة من ناحية الوزن، ويكفي أن نعلم أن ريشة الحمامة تحوي مئات الآلاف من الشعيرات الدقيقة، وملايين من الشعيرات الأشد دقة، وأن أجنحة طائر بحجم البجعة مزودة بما يقارب 25 ألف ريشة (فقط!)، ورغم ذلك فإن عظام الأجنحة وعظام الذيل، التي يتصل بها معظم الريش، خفيفة جدا، وقصيرة جدا، بالنسبة لمساحة الجناح.
ولا يخفى أن القوة تحتاج لطاقة، وهذا ما توفره نوعية غذاء الطيور، التي تتميز بسعرات حرارية عالية، سواء كانت من الجوارح التي تتغذى على اللحوم، أو من الحمائم التي تتغذى على الحبوب.
وحتى يظل الطير محمولا في الهواء أثناء الطيران، لا بد من أن يكون ضغط الهواء أسفل الجناح أكبر منه أعلاه، وهذا يحققه التصميم الهندسي لمقطع الجناح، فهو مستو تماما من أسفله عند نشره، لكنه محدب من أعلاه، مما يؤدي إلى أن يتبعثر الهواء أعلى الجناح بسبب التحدب فيقل ضغطه عن أسفله، فيرتفع الطير في الهواء ويحافظ على ارتفاعه، وأجنحة الطائرات التي صممها الإنسان اقتبست (بل نسخت) تصميم مقطعها من تصميم أجنحة الطيور.
أما ذيل الطير فهو بمثابة جهاز التحكم الذي يساعد على كبح سرعته أثناء الهبوط وزيادتها أثناء الإقلاع وتسهيل انسيابه في الهواء أثناء السير في الهواء، ناهيك عن دوره في تغيير مساره أفقياً أو عمودياً.
ومن عجائب تصميم الطيور أن أجسامها مصممة بحيث يتموضع معظم وزنها حول مركز ثقلها، فمركز ثقل الطير في نقطة وسطى من جذعه، تقع بين جناحيه، وحوله يتموضع معظم وزنه، فرأس الطير صغير جداً بالنسبة لجسمه، وليس له أسنان ولا أنف، وعندما يلتقط طعامه يتم إرساله فوراً إلى حوصلة بالقرب من مركز ثقله، هي التي تقوم بطحن الطعام وتهيئته للهضم، كما أن الطير لا مثانة له لتخزن البول في مؤخرة جسمه، بل يخرج البول وغيره من الفضلات من جسم الطير فور تشكلها حتى لا يشكل خزنها عبئا على مركز ثقله من ناحية الوزن.
عظام الطير
وعظام الطير خفيفة للغاية، وكثافتها أقل كثيرا من كثافة غيرها من الكائنات، ولكنها قوية، فهي رفيعة ومفرغة، وهذا يعطيها الخفة، ولكنها مزودة بدعامات داخل العظام المفرغة تعطيها قوتها، وهي تشبه الدعامات الموجودة في أجنحة الطائرات، عفواً، الأولى أن نقول: إن الدعامات الموجودة في أجنحة الطائرات هي تقليد للدعامات الموجودة في عظام الطيور، وهكذا نرى أن وزن الطير ومركز ثقله محسوب بدقة دونها دقة الحواسيب البشرية، ويحاول مصممو الطائرات جاهدين تقليد ذاك التصميم، وخاصة أن الطائرات تحمل أطنانا من الوقود، الذي يؤدي نقصانه خلال الطيران إلى تغير موضع مركز الثقل، ويتطلب ذلك من المصممين توزيع خزانات الوقود بحيث يكون تغير مركز ثقل الطائرة أقل ما يكون أثناء الطيران، في حين أن مركز تقل الطير ثابت تقريبا بسبب تصميمه المدهش.
وتمتلك الطيور جهاز تنفس فريدا عجيبا يختلف عن أجهزة الحيوانات البرية كالثديات والزواحف، فهو مصمم ليتلاءم مع حاجتها أثناء الطيران، فتستخلص من الهواء أكبر كمية ممكنة من الأكسجين، لأنها عندما تحلق في الفضاء الشاهق، تنخفض كثافة الهواء، ويقل الأكسجين فيه، ويتم ذلك بواسطة جيوب هوائية موزعة في كل الأجزاء المهمة من جسم الطائر.
الجهاز التنفسي
وطريقة عمل هذه الجيوب مدهشة، فعندما يستنشق الطائر الهواء لا يذهب مباشرة إلى رئتيه، بل يذهب إلى تلك الجيوب، التي تذهب به إلى الرئة، ثم يعود مرة أخرى إلى الجيوب التي بدورها تقوم بعملية الزفير، فيحصل الطير بذلك على دورة هوائية داخلية فريدة من نوعها بين الكائنات، تتيح احتكاكاً أكبر بين الأوعية الدموية المحيطة بجدران الجيوب وبين الهواء، لا سيما أن مسار جريان الدم في هذه الأوعية هو عكس اتجاه مسار الهواء، فيمكن بذلك امتصاص أكبر كمية ممكنة من الأكسجين، تعطي الطائر ما يحتاجه منه خلال تحليقه الشاهق، ورحلاته الطويلة.
أما الزواحف والثديات وغيرها من الحيوانات البرية، فإن رئتيها تستنشقان كل الهواء اللازم ثم تزفرانه كله، وحرصا على حجم الطائر ووزنه وثبات مركز ثقله، لا يوجد له حجاب حاجز، ورئتاه لا تنتفخان عند دخول الهواء إليهما حرصا على حجمه ومركز ثقله، بل يمر الهواء منهما لتلك الجيوب.
ولهذه الدورة التنفسية فائدة إضافية هامة جدا، وهي أنها تبرّد جسم الطائر، الذي تزيد حرارته بسبب حركة الأجنحة واحتكاكها المستمر بالهواء.
وحتى تتمكن الطيور المحلقة عاليا من رؤية طعامها على الأرض، يلزمها نظر حاد جداً، وهذا متوفر لها، فالخلايا البصرية في شبكيات عيونها أكثر بأضعاف مضاعفة من مثيلاتها في بقية الكائنات، فمثلا، يستطيع الصقر وأمثاله من الجوارح أن يرى نملة تمشي على الأرض إن كان يحلق على ارتفاع مبنى من عشرة طوابق، وأن يرى أرنبا على بعد ألفي متر، ولكن ما فائدة إبصار الفريسة عن بعد إن لم تكن لديه قدرة على اقتناصها؟ لذلك فهو مصمم بحيث يمكنه أن يهوي من علٍ بسرعة تقارب أربعمئة كيلومتر في الساعة، ليقتنص فريسته بلمح البصر، ثم يصعد محلقاً، في مناورة تحسده عليها أكثر الطائرات المقاتلة كفاءة.
وفوق كل ما سبق، فإن الطيور مزودة بأجهزة ملاحة جوية مذهلة، تعينها على معرفة وجهتها بدقة وتركيز، ما زال العلماء عاجزين عن معرفة طريقة عملها، وما زالت الهجرات الموسمية لبعض أنواع الطيور لغزا يحيرهم، فمنها مثلا من يهاجر من القطب الشمالي إلى الجنوبي، وبالعكس، ليمضي في كل قطب موسمه الدافئ، ويتجنب موسمه البارد، دون أن يستعين، كما تفعل الطائرات، بأبراج مراقبة ترشده، ولا بأجهزة إلكترونية تحدد طريق سيره.
هذه أطراف موجزة من عجائب تصميم الطيور، فسبحان "الذي خلق فسوّى والذي قدّر فهدى".
________________
* كاتب سوري متخصص في الشؤون العلمية والتقنية
المصدر : الجزيرة