ثمة جدل كثيف هذه الأيام في الخرطوم بلغ عنان السماء لغطا واحتداما، حول القوات السودانية المشاركة في حرب اليمن العبثية. فقد أصبحت تلك المشاركة محاصرة داخليا بعدد من الأسئلة والاستفهامات الملحة. ففي حين قدّم السودان جنوده ضمن التحالف الذي شكلته السعودية؛ لم تفعل ذلك مصر وباكستان ودول أخرى تربطها بالسعودية علاقات استراتيجية. وفيما بدا أن مصر تدرك مخاطر المغامرة في اليمن بدا السودان مندفعا دون مبرر. ويبدو أن مصر توخت ألا تلدغ من جحر اليمن مرتين فقد تعلمت من درس قواتها في حرب اليمن في عهد عبد الناصر في ستينيات القرن الماضي واعتبر المصريون تلك المشاركة "فيتنام مصر". وبسبب كل ذلك ومع تواتر أخبار ارتفاع ضحايا الحرب من الجنود السودانيين، أصبحت الضغوط الشعبية تتزايد على الحكومة. وهذا ما أفرز تحركا برلمانيا يطالب بالانسحاب من هذه الحرب.
وبعد التطورات والمستجدات الأخيرة، ليس أمام الحكومة السودانية إلا التفكير بسرعة في سحب فوري لقواتها من اليمن. فلم تعد المشروعية الدينية والعقدية التي بنت الخرطوم عليها قرار المشاركة متوفرة، بل إن أمورا تتعارض تماما مع تلك المشروعية قد تبدت. لكن يبدو أن إعلان الخرطوم أنها ستدرس وتقوّم المشاركة في حرب اليمن نتيجة للضغط الشعبي، لا يعني بأي حال نيتها الانسحاب. ويستشعر المراقب أن ذلك الإعلان جاء كمناورة لتحقيق هدفين أساسين: الأول محاولة امتصاص غضب الشارع الذي تزداد معارضته لهده المشاركة يوما بعد يوم والإيحاء له بإمكانية الانسحاب. أما الهدف الآخر فيتمثل في ممارسة ضغوط على التحالف خاصة السعودية والإمارات واستثمار ذلك في دفعهما للإسهام في تخفيف وقع الأزمة الاقتصادية الخانقة على السودان، التي بلغت حدا ينذر بكارثة سياسية قد تعجل برحيل النظام أو باندلاع أعمال عنف وفوضى لا يمكن التكهن بآثارها الكارثية وتداعياتها.
لكن من الأفضل والأسلم أن تنظر الحكومة - إن كانت تستبين النصح قبل ضحى الغد - بجدية في قرار الانسحاب بمعزل عن معالجات الأزمة الاقتصادية؛ لأن المعالجات المرتبطة باستمرار المشاركة انتظارا لمدد من السعودية والإمارات تظل معالجة مؤقتة وتحت رحمة المانحين وربما ابتزازهما، فضلا أن حلا سياسيا قد يحدث في اليمن، وهذا ما تسعى إليه خاصة الرياض بشكل سري لاقتناعها بعدم جدوى استمرار تورطها في هذه الحرب، مع تململ واشنطن ومطالبتها للسعودية بوضع حد للحرب، لكن الرياض تسعى لمخرج يحفظ ماء وجهها. وعليه فإنه في حال ما يحدث حل سياسي في اليمن، تبقى حاجة السعودية للقوات السودانية صفرا على الشمال، وسترفع دعمها مباشرة لأنه كان مرتبطا بالمشاركة وتحت الضغط والتهديد بالانسحاب.
ومهما كان الدعم السعودي للسودان كبيرا، وفي ذلك شك كبير تؤكده التجارب، فإنه لا يساوي بأي حال من الأحوال ما يخسره السودان اليوم جراء مشاركته، من خسائر بشرية وأخلاقية وسياسية. مع الإشارة إلى أنه بعد موافقة السودان على الدفع بقواته، وجه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز حكومته وصناديق التمويل والمستثمرين السعوديين بتقديم الدعم الكامل للسودان. بيد أن ذلك لم يتعد محطة الوعود، قياسا بالدعم السخي الذي ظلت تقدمه الرياض لمصر رغم امتناعها عن المشاركة في حرب اليمن عدا مشاركة رمزية، ويقدر الدعم السعودي لمصر بنحو 10 مليارات دولار سنويا.
لا يجب أن تفكر الخرطوم البتة في ربط حل الأزمة الاقتصادية بالانسحاب من حرب اليمن، فدماء أبناء السودان ليست للبيع أو المقايضة. فالانسحاب يجب أن يكون مبدأ قائما بذاته ومطلوبا في حد ذاته. ومن جهة أخرى يجب أن يكون حل الأزمة الاقتصادية حلا مستداما وبإرادة وطنية وليس منة من أحد أو تسولا لدى أحد، فمن أراد أن يستثمر ويشارك السودان استثمار موارده، يجب أن يكون محل ترحيب. وإلا على الدولة السودانية أن تفلح أراضيها الخصبة الشاسعة والعطشى للعمل والإنتاج، بيد أن ذلك يحتاج لإرادة سياسية يبدو أنها لا تتوفر حاليا، ولحل سياسي شامل يبدو كذلك سرابا.
*الشرق القطرية