لأول مرة أقدم إعتذارا مكتوبا للعديد من الأصدقاء والصديقات دفعة واحدة، لا مجال للاعتذار لكل واحد على حده، فالمسألة واحدة بالنسبة للجميع، لم تكن نيتي الخداع أو ما شابه، المكان مميز في الدور الرابع في مبنى مركز تسوق برجي بتروناس في كوالالمبور غالبا، والمذاق مميز، ولم أسمع اعتراضا من أحدهم طيلة الفترة السابقة، هناك حيث "تركينة" مقهى ستاربكس العالمي استقبلت الكثير منهم، وفيما ندر استقبلهم في فروع أخرى لنفس المقهى، كنت أعرف منذ فترة أن ستاربكس تستخدم "روث الفيلة" في القهوة، وتفقدها لذعة الطعم المر المعروفة لكل محبي القهوة.
تقدم حبوب القهوة للفيلة في "منطقة غولدن تراينغل هي منطقة التقاء تايلاند وميانمار ولاوس" وتخرج الحبوب مع الروث وقد حدث لها تفاعل إنزيمي غير طعمها، ليست ستاربكس وحدها من تأتي بقهوتها من هناك ولكن معظم بيوت القهوة العالمية تقوم بذلك، لإرضاء أذواق الزبائن الذين يبحثون عن تعديل امزجتهم بالقهوة، وهي أشهر مشروب مستخدم لهذا الغرض.
كان الأصل أن أشرح لأصدقائي الطيبين هذه الفكرة وهم يرتشفون القهوة أثناء تجاذب الأحاديث المختلفة، وكنت فقط أخشى تعكير امزجتهم، لا أدرى إن كان هذا يدخل في باب الغش والخداع لكن أهم شيء "الطعم" وإلى حد ما الفائدة، والأصل في الجلسة هي حلاوة الحديث إلى من نعزهم، وليست القهوة وحدها.
ربما يمتعض "د. مختار أو د. فهمي أو د. صالح أو د. باعظيم" واخرون عندما يقرأون هذه الأسطر، لكن البعض منهم مقتنع أن القهوة تحتاج إلى شريك وهم محقون في ذلك، وهذا ما أكده د. صالح في بداية هذا الشهر، وما قاله أيضا د مختار العام الماضي، مرة أخرى آسف أصدقائي الطيبين على هذا الخبر، وآسف أيضا على الازعاج –غير المتوقع- الذي يصاحب جلساتنا في هذا المقهى الشهير، في بعض الحالات وبعض الفروع يتحول المقهى إلى مصدر ازعاج كبير، كنت أظن أننا الشعب الوحيد الذي يحدث ضجيجا في مقاهيه ومطاعمه الشعبية، لكن وجدت أننا مقارنة بالصينيين رواد ستار بكس وبعض الماليزيين مزعجين أكثر منا، بعض الكبار يجلبون أطفالهم لإحداث موجات صاخبة من الضجيج في المقاهي المخصصة للاستمتاع بالقهوة، ويفترض أنها أيضا للبعد عن الضجيج، لكن ربما العادات هنا هي من فرضت نفسها على المقاهي الراقية.
للأسف تقدم القهوة اليمنية في هذه المقاهي بطريقة بشعة تحت مسمى "موكا كافيه " لا مذاق لها ولا نكهة ولا شيء يدل على أنها "قهوة المخا" أشهر قهوة عالمية منذ مطلع القرن الخامس عشر الميلادي حين اكتشفها "الشيخ جمال الدين أبوعبدالله محمد بن سعيد الذبحاني"، الرجل الذي ترك القضاء والافتاء وسلط طريق للتصوف ولازم شرب القهوة، نقلها المتصوفة اليمنيون إلى الحجاز ومصر والاستانة، فصارت مشروبا عالميا بعد أن كانت مشروبا روحيا يساعد المتصوفة على ذكر الله والقراءة والسهر. يحاول بعض العرب تسمية القهوة بالعربية على أساس أنها منتج عربي عام، لكنها منتج يمني خالص، صحيح أن اليمن أصل العروبة والعرب، لكن هذا منتج اقتصادي ويعد الثاني مبيعا بعد النفط على مستوى العالم، ومصدره اليمن فقط لا غير.
لاقت القهوة تحريما من المشايخ وصنعوا لها حديثا مكذوبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شرب القهوة يحشر يوم القيامة ووجهه أسود من أسافل أوانيها" لكن المتصوفة نشروها بهدوء ومن جربها من الفقهاء أدمنها، فكانت نبيذهم الذي لم يحلموا به يوما ما.
"نبيذ الغيوم" المصطلح الخاص بي الذي أطلقته على القهوة اليمنية الخالصة المضاف إليها الزعفران الإيراني وأشياء أخرى، وكان العزيز وليد العماري قد أخبرني في منتصف 2014 عن زيارة وفد أميركي لمنطقة بني حماد في تعز، وجربوا "القهوة الحمادي" واصيبوا بالدهشة من جودتها، وكان هناك مشروع استثماري لزراعتها وتصديرها اعاقه من أعاقوا كل مشاريع التنمية في اليمن.
نحتاج نحن "اليمنيون" خصوصا إعادة الاعتبار لنبيذنا "موكا كافيه" بالنظر في إمكانية تطوير زراعته، وإعادة انتاجه، وتصنيعه، وترويجه عبر المقاهي اليمنية التي تقدمه بدون غش تجاري كما تفعل بيوت القهوة الراقية في العالم، يخلطونه بالكاكاو والحليب وقهوة سيئة الطعم مجهولة المصدر، ويقدمونه على انه "موكا كافيه" والغريب في الأمر أنهم يجدون له زبائن يحافظون على تناوله بشكل منتظم.
نحتاج إلى إنشاء بيوت قهوة يمنية راقية، تهتم بزراعته وإنتاجه وتجارته وتصديره وتصنيعه وتقديمه عالميا، النفاذ للعالم عبر القهوة سيساهم في إعادة رسم الصورة الحضارية لليمن، بعد أن نجح سُراق الهوية من تشويه صورة اليمن داخليا وخارجيا وإقليما ودوليا، تم إزاحة اليمن أو بالأدق أجزاء مهمة من اليمن ما يقرب من 1200 عام، وهي المناطق الواقعة في شمال الشمال، وتحولت اليمن كلها إلى كارثة بعد عودة الكهنة إلى الحكم باسم القبيلة من السبعينات وباسم المذهب بعد انقلابهم على الدولة في 21 سبتمبر 2014.
عودة اليمن للواجهة ضرورة يمنية، وقضية محلية وإقليمية ودولية، يمن القهوة والحضارة لا يمن الطائفة وأنصار الرب وعيال الرسي آكلي روث الحمير "أمام العدو خزن بروثه”، الباحثين عن تمكين ديني لأقلية دخيلة على الأمة اليمنية العظيمة، وأفكارا سخيفة تقول أن الحكم لهم من دون الشعب، في مهزلة لا مثيل لها، وقد انتهت مثل هذه الأفكار عالميا مع انتهاء القرون الوسطى عند الأوروبيين أيام الحكم الثيوقراطي، والذي لا يختلف في فكرته عن الحكم السلالي، فكلاهما ظل الله في الأرض، ويحكم بشرعه المكذوب على الله والناس.
"اليمن لليمنيين" هذه هي الحقيقة المطلقة في هذا البلد، والتي يجب أن يعمل لها الجميع بكل جد واجتهاد، وهي قضية شخصية وجماعية وتخص كل من في قبله ذرة حب لليمن وأهل اليمن، وبالنسبة للمنتج السحري موكا كافيه، علينا تطويره وليس بالضرورة أن نطعمه للفيلة، لأنها طريقة مكلفة وممكن تجريب اطعامه للأبقار، وهي نفس الانزيمات الموجودة في الفيلة، ومن ثم نقوم بغسله جيدا، وتجفيفه وتحميصه وطحنه بحسب أمزجة من لا يستمتعون بالقهوة المرة، أما من يستمتعون بالقهوة المرة ستقدم بحسب طريقة الشيخ الذبحاني، وكما يقدمها الناس في اليمن ثقيلة ومحمصة -غامق وفاتح- وبنوعيها قشر وصافي، أو على الطريقة التركية وهي اقرب الطرق الصوفية في تقديم القهوة الغامقة بنوعيها المر والحلو، وهذه معركة أخرى تنتظر من يقول أنا لها، وخاصة وأن المخا مع موعد التطهير من بقايا الإمامة والعكفة والمهربين في هذه الأثناء.