تستوطن الأغنية اليمنية اليوم الجزيرة العربية بالطول والعرض، محافظةً على مستوى عال من الذائقة الفنية والجمال والحب في روح الإنسان، محاكيةً فيه الفرح والحزن والألم والهجرة والشوق والبعد والجفاء، ساهمت الأغنية اليمنية في صياغة وجدان الإنسان اليمني من الساحل إلى الصحراء عبر الأودية ومروراً بسلاسل الجبال المرتفعة، متجاوزةً الحدود والسياسيات وكل ما تم وضعه من حواجز مصطنعة، فكلمات يحيى عمر اليافعي المُغَناة كأغنية "يحيى عمر قال قف يا زين" تقف لها القلوب والأسماع من سقطرى في عمق المحيط الهندي إلى شواطئ الأحمدي في الكويت، ومن المنامة إلى تهامة في سواحل كمران.
أغاني كثيرة رُوددت في مختلف المدن الصحراوية والساحلية والجبلية مُؤَدية الوظيفة العاطفية نفسها عند كل محبي الفن اليمني الأصيل، فكم جبرت أغنية "كلمة ولو جبر خاطر" من خواطر في الرياض والدوحة والشارقة والحديدة وعدن، وهي من إبداعات فنان اليمن الكبير محمد سعد عبد الله وغناها فيما بعد العديد من الفنانين الكبار هنا وهناك. وكذلك فعلت أغنية "يا مُنيتي يا سلا خاطري وأنا أحبك يا سلام" وهي من إبداعات القمندان العظيم.
إذاً نحن أمام ثقافة واحدة، وفن واحد، وذائقة جمالية واحدة، وجمهور واحد في تلقي وترديد التراث الغنائي اليمني، بعيداً عن السياسة وتعقيداتها، هذا هو ما نسميه نظرياً في أديباتنا الفكرية بـ "اليمن الثقافي" والذي يُغطي الجزيرة العربية وغيرها من المناطق في العالم، يعود سر انتشار وسعة اليمن الثقافي لعوامل أنثروبولوجية وأخرى ديمغرافية وثقافية، كان للتجارة والاقتصاد والهجرات والتنقلات دوراً كبيراً في هذا الانتشار والتوسع في مختلف الأزمنة.
ونحن نحتفي اليوم مع الأصدقاء من محبي الأغنية اليمنية في مختلف أقاليم ودول العالم، بما اتفق على تسميته "يوم الأغنية اليمنية" نحب أن نذكر أحبتنا في كل مكان أن الأغنية اليمنية منتشرة وتواصل انتشارها بعيداً عن ردات الفعل الآنية على قوى الظلام والجهالة، فالأغنية اليمنية باقية وهذه القوى راحلة وبيننا الأيام وشواهد الحب والفن والشجن التي تطل علينا من حضرموت وتعز عبر أغاني الكبار؛ أبو بكر سالم وأيوب طارش، فالأغنية اليمنية فعل ثقافي في حد ذاتها، فهي في الداخل فعل جمالي سلمي مُقاوم، وفي الخارج هي رسالة حب وسلام ومُساهمة يمنية في رفد الفن الإنساني بالأغنية اليمنية.
الأغنية اليمنية اليوم ذات طابع إنساني كوني تمثل الإنسان أينما كان وترسم ملامحه وتثير شجونه، خذوا عندكم رائعة شاعر اليمن الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح "إن يحرمونا يا حبيبي الغـرام" والتي غناها ولحنها الفنان الكبير أحمد فتحي، هذه القصيدة تنسف خرافات العصبويات العرقية والطائفية والجهوية، ولها دلالتها الواضحة "كلنا في الهوى دم، كلنا أولاد آدم" هي في أساسها أغنية كونية وليس علينا محاولة تحجيمها والاِنزواء بها بعيداً في الداخل بحجة أنها "حقنا". انظروا لجمال الحضور الملفت للأغنية اليمنية في فلسطين الحبيبة، هو تجديد للتراث وتطوير للألحان ويعد حضوراً لليمن الثقافي بعيداً عن لغة السياسة.
منذ سايكس بيكو في 1916 وضعت الحدود السياسية التي قسمت تراب اليمن الكبير إلا أنها لم تستطع تمزيق اللحن والأغنية والكلمة والتراث والعادات والتقاليد والفن وما تركته الأجيال المتعاقبة على هذه الأرض من حضارات وتاريخ وثقافة وتنوع. لذا فإننا بحاجة إلى فهم الفن كونه نابعاً من فلسفة الأمة اليمنية، وهو تفاعل الإنسان اليمني مع الطبيعة الغنية والمتنوعة، محاكاةً لهذه الطبيعة وما يعتمل فيها من حركات طبيعية، وهذا يقودنا إلى سؤال من أين أتت الموسيقى والفن في اليمن؟ من أصوات الطبيعة، من التقاء متقابلين فيها، من وقع المطر على الأرض، من أصوات الصواعق، من ضربات المحراث في عمق التربة، من جريان السيل على الحصى والصخور، من صوت تكسير العمال للحجارة والصخور، من أصوات فؤوس الرعاة التي تقلم أشجار السدر، من كل هذا انبعث الفن والموسيقى اليمنية. ومثلما طوّع الإنسان اليمني الطبيعة وأنتج حضارة المطر والزراعة والتجارة فقد طوّع كل حركة من حركات الطبيعة اليمنية عبر العزف والموسيقى والفن عبر مسارات ايقاعية تشبهه وتشبه الطبيعة المتنوعة من سهول وأودية ومرتفعات وصحاري.
إيقاع الأغنية اليمنية لا يختلف عن صعوبات العيش ووعورة الطبيعة والكفاح من أجل زيادة الموارد، لذا كانت الموسيقى أقرب للحزن منها للفرح، فالإنسان الذي يُغالب الطبيعة والمجتمع وصراعته لأجل الحياة بالبقاء تارة وبالبعد والهجرة والرحيل تارة أخرى، وفي مختلف مراحل حياته يظل باحثاً عن الزاد والرفيق والاستقرار والحياة فمن الطبيعي أن ينعكس عليه ذلك حزناً يعالجه بالموسيقى بالفن والكلمات المغناة، إما لتخليد ذكرى حزينة، أو تخليد عاطفة لم تبلغ الاكتمال.
مَجدت الفلسفات المختلفة الموسيقى والغناء يرى شوبنهاور أن الموسيقى مدخلاً لفهم أسرار الحياة، ويرى نيتشه أن الموسيقى سهلت التواصل بين البشر. وتعمل الأغنية المموسقة على رفع منسوب التسامح وعلاج ويلات الأحداث وتسهم في نسيان الماضي، بل يرى الفيلسوف الكندي -نسبة إلى كندة اليمانية وليس إلى كندا- ما هو أبعد من ذلك فكونه فيلسوف وطبيب وفقيه ومترجم من اللغة السريانية والإغريقية إلى العربية يرى أن الموسيقى علاج لكثير من أمراض جسم الإنسان، قال ذلك في القرن التاسع الميلادي.
فالأغنية جزء من المفهوم الكلي للفن أو إحدى مخرجاته، وُجدت في الأساس من أجل الإنسان للإبحار به نحو عوالم من الحب والشغف والمعرفة الإدراكية التي تجلبها الموسيقى والألحان المتسقة مع الكلمات المغناة، لذا يجب أن تظل باقية لأجل الحب والحياة والسلام، لا من أجل صراع الأيدولوجيات، الأغنية من كلمة وموسيقى تعمل على تهذيب شخصية الفرد وتضفي عليها حب الحياة والجمال والذوق. وهنا يمكننا القول أن الأغنية اليمنية اليوم لم تأت من فراغ بل هي نتاج فلسفة الإنسان اليمني المُكافح المُحب للحياة، المُتغلب على الطبيعة وتقلبات السياسة، فلسفة العمل في حقول الإنتاج الزراعي والرعي في الجبال والوديان والصيد البري والبحري، فلسفة الإنسان المُستقر أحياناً في موطنه، والمُتنقل أحياناً بين البلدان للتجارة والعمل وفتح الأسواق الجديدة.
الأغنية اليمنية هي نتاج قائم على ستة أسس؛ الشاعر، الفنان، المُلحن، المُنتج، الجمهور المتلقي، والناقد الفني. ولكلٌ دوره في رسم ملامح الفن الغنائي، الشاعر هو من يصوغ مشاعره وخيالاته ومشاهداته وتوقعاته في كلمات وأبيات تصويرية تشبه الواقع وتجسده، وترسم المشاعر التي لا تُرى بالعين، تجسد الفرح والحزن والخوف والأمل. يقوم الفنان بدوره في تلقي هذه المعاني والصور والأخيلة والتجربة الشعرية، ليضيف عليها أحاسيسه ويغمرها بعاطفته، ويغنيها بعقله وقلبه قبل أن يقف أمام الميكرفون والجمهور. يكون الملحن قد رسم سمفونية فريدة أضاف إليها من روحه وعذوبة مشاعره، ويوفق بين عالمي الشاعر والفنان مُكوناً عالماً جديداً يخلقه على غير مثال. المُنتج هو المُمول للثلاثة السابقين، يُوفر لهم بعض ما يستحقونه حتى لا ينشغلوا عن العمل الفني بغيره، ويقوم بعمليات معقدة من الإنتاج والتسويق والتوزيع ودراسة الجمهور المتلقي. والجمهور هو غاية لمن سبق فهم يريدون سد رغباته واسعاده والتخفيف عنه وترويضه على تقبل متغيرات الحياة وتقلبات العاطفة، وهو حسّاس ومُتذوق ومزاجي ومتقلب وهو الحكم ومنه تصدر الأحكام على هذه الأعمال الغنائية جيدة ورديئة. أما الناقد الفني فهو ميزان حساس ويقع بين فكي كماشة المنتج والفنان والمُلحن من جهة، والجمهور من جهة أخرى لا يستطيع تجاوز الجمهور وذائقته ورضاه، وهو الكاشف عن سر الإبداع وعن هفوات الكلمات والألحان والأداء ولذا تقييمه هو الأهم بالنسبة للمنتج والفنان.
الحقوق الفكرية
من المُلَاحظ اليوم في سوق الأغنية اليمنية ضياع الحقوق الفكرية لكثير من تراث اليمن وفنه الغنائي، في عالم الميديا والانترنت صار من المهم أن يكون لكل فنان قنواته الخاصة التي تحفظ حقوقه وحقوق شركات الإنتاج، يحتاج نتاج كل فنان يمني أن يُعاد ترتيبه كمحتوى على اليوتيوب، ليستفيد الفنان وورثته من هذا المحتوى، على الجمهور أن يكون واعياً بأهمية التعامل مع المحتوى على أساس أن هناك حقوقاً فكرية للفنان والمنتج.
يُعد تقليد الأغاني ابتذال وسرقة، إذا لم يُراع نسبة هذه الأعمال الفنية لأصحابها الأصليين، وتجديد وتطوير الألحان دون الخروج عن الإيقاع والسلم الموسيقى. فالتراث الغنائي بحاجة إلى تجديد لا الاكتفاء بالتقليد. مع العلم أن كل مُقلِد ناقص، إن استطاع فنان تقليد فنان في الصوت والكلمات واللحن والموسيقى والتسجيل، لكنه لن يستطيع نقل توليفة المشاعر والأحاسيس الكامنة في العمل الأصلي. لذا الفن هواية ومهنة وحقوق فكرية وإبداع وليس مشاع ومسروق ومُقلَد، هو تتلمذ الجديد على يد القديم لا أكثر، ومن المهم أن يكون لكل من سلك طريق الغناء أعماله الإبداعية الخاصة بدون الاستمرار في التقليد. اللحن التراثي للجميع، المقامات للجميع، لكن الكلمات لقائليها والألحان لملحنيها والأغاني لمغنيها هذه حقوق وليست عبث.
عالمية الأغنية اليمنية
يجب أن تنتقل الأغنية اليمنية إلى الفضاءات الأوسع فالأوسع، إن لم تفعل ذلك ستموت وتنقرض، قد لا يكون اليمن المعروف اليوم قادر على دعم الفنانين والقيام بعملية الإنتاج لقلة المُنتجين والمُستثمرين في هذا المجال، لكن يمكن مُعالجة ذلك بالتوقيع على البرتوكولات الثقافية والتجارية مع شركات الإنتاج في دول الجوار العربي، حيث يتشارك الناس هنا وهناك التراث والثقافة والألوان الغنائية والايقاع، وهنا يحصل التكامل في إطار إنتاج الاغنية اليمنية بين جمهورها الأصيل أولاً لتنتقل بعد ذلك للكونية والإنسانية بأداء جيد وتسويق محترف.
الأغنية اليمنية عمل فني والفن مثل أي مهنة يُتعلم ويُحترف ويُعتزل، علينا حذف مفردة "التوبة" من قاموس أجيالنا القادمة في الدولة اليمنية القادمة، فالفن فلسفة مجتمع ومحاكاة طبيعة وعمل ملتزم بقيم المجتمع، وليس مادة للأيدولوجيات ولا مادة لتقول الوعاظ، الفن علاج للمهموم ومسح على رؤوس الوحيدين والمحرومين في هذا العالم، وتقويم لسلوك الفرد في مختلف مراحل حياته.
الأغنية اليمنية في المستقبل
في الدولة اليمنية القادمة حيث يكون مدمني الحروب قد اكتفوا من الدم والموت، لابد من قوانين ولوائح تعمل على تدريس الفن في المدارس والجامعات لابد من تربية موسيقية للجماهير تبدأ بحصة الموسيقى في رياض الأطفال والمدارس. إن أردنا إنهاء حالات التشوه النفسي والسلوكي لابد من قيام مدراس وأكاديميات ومعاهد وكليات للفن والغناء، نقترح على من سيحكم مستقبلاً إقامة أكاديمية أبو بكر سالم بلفقيه للغناء والموسيقى - جامعة حضرموت. ومعهد محمد سعد عبد الله للفنون- جامعة عدن. وكلية أيوب طارش عبسي للفنون والتراث الغنائي – جامعة تعز. ومعهد أحمد فتحي للدراسات الموسيقية -جامعة الحديدة. وأكاديمية علي الآنسي للعلوم الموسيقية – جامعة ذمار. ومعهد أحمد السنيدار للدراسات الفنية – جامعة صنعاء. هذه مجرد أمثلة من الامنيات المستقبلية لا أكثر.