للعام التالي على التوالي يحتفل اليمنيون بيوم الوعل لما يُمثله من رمزية حضارية مرتبطة بتاريخ اليمن الكبير، قبل عامين لاحظتُ والأصدقاء تزايد الاهتمام بالوعل، لفت نظرنا اهتمام الصديق صلاح النهمي ودعوته ليكون هناك يوماً للوعل وبقيت الفكرة وتزايد الاهتمام بها لاحقاً.
يحتفي اليمنيون بيوم الوعل، وهذا من وعي الإنسان اليمني المتزايد بحضارته، لكن هناك بعض التحديات في طريق الوعي بأهمية الرموز الحضارية اليمنية، الوعل وغيره من أثار ومنحوتات ونقوش يمنية عريقة.
نختلف اليوم سياسياً لكن الخلافات حتماً ستزول، فلا نستعدي أي يمني أو مكون مجتمعي ليُعادي الحضارة اليمنية ورموزها. لذا فمن الأهمية بمكان الحفاظ على عفوية الاحتفاء والنشاط الثقافي المجتمعي دون توظيفه في الصراع، ليستمر كعمل ثقافي، دون تحشيد عاطفي ومنح الناس أحلاماً وردية غير واقعية، وكذلك عدم جرّ المجتمع لصراعات عدمية وماضوية بسبب اللحظة القاتمة. الحضارة والتاريخ وتنوع الموروث الثقافي ملك للجميع دون استثناء، وهي من المشتركات بين سكان اليمن الكبير الممتد في كل أرجاء شبه الجزيرة العربية. الحفاظ على هذا المشترك سيُساعدنا في إحلال السلام والاستقرار في المنطقة، بدلاً من تحويله إلى مشكلة إضافية فوق ما لدينا من مشكلات. لدينا في الجمهورية اليمنية قضية سياسية أساسية، والحفاظ على الجمهورية مُقدّم على ما سواه، فبدون هويتنا السياسية "الجمهورية اليمنية" لا معنى للاحتفاء بحضارة ولا بتاريخ ولا بموروث ثقافي. جمهوريتنا هي الأصل، فبحسب المثل اليمني: "حفظ الأصول أهم من المحصول".
بدأ هذا العام محفوفاً بالصمت والريبة من أوله، إلا من أقاويل هنا وهناك عن عملية سلام لا يعرف كُنهها أحد وتُدار من خلف الكواليس. لا الساسة يوضحون للناس ما يجري ولا قادة لدينا يتحملون مسؤوليتهم في هذه المرحلة، ومن يدّعون صناعة الوعي بمختلف مشاربهم يقفون عند صغائر الأمور، والنقاش العدمي لا يصنع الوعي.
يعاني الشعب من ظروف الحياة القاسية التي خلفتها الانقلابات والحروب. ويحتاج إلى الماء والخبز والدواء والأمن والاستقرار والعيش بكرامة في وطنه. هناك أولويات يعلمها الجميع، خاصة النخب بمختلف مستوياتها ومسمياتها، من صرفت عليهم الجمهورية اليمنية أموالها، وأنفقت، عليهم حتى صاروا نخبة؛ مدنيين، وعسكريين، سياسيين، وإعلاميين، ومثقفين، وأكاديميين...إلخ. فإذا ابتلي البلد بضياع عقول الساسة فأين عقول بقية النُخب؟
يعتقد بعض من يدّعون صناعة الوعي أنهم يجب أن يقولوا كلمة حق في اتجاه واحد، ويتجاهلون بل يتهربون من انتقاد الجهات الأخرى ذات السلطة والقوة على الأرض، وإن تم تجنيدهم فسيسعون عبثاً لتجنيد المجتمع اليمني والنشطاء خلفهم، لا تعنيهم الثوابت كالجمهورية والوحدة والديمقراطية، فقط يحشدون العبارات الرنانة ضد جزء من المشكلة وغير معنيين ببقية القضايا.
في اليمن اليوم لدينا مشكلة تعدد السلطات والقوى على الأرض بدعم جهات مختلفة، لذا لابد من وعي يجمع كل أجزاء المشكلة ويقرؤها جيداً، مع مراعاة الفوارق والأدوار التي تقوم بها كل سلطة على حدة، لا ندعو لمواجهة شاملة إلا مع أعداء هذه الثوابت، فمعركتنا معركة وعي، ولا نريد للشباب ولا لهذا الجيل أن يتحول إلى مجرد حشود تمارس دور النخب الوظيفية الانتهازية المتهالكة على الفتات، والتي تعمل على التحشيد العاطفي لهذه السلطة أو تلك.
مرّ اليمن بمراحل تاريخية اقتضت كل مرحلة توسعاً أو انكماشاً في جغرافيته، وفي انتشاره الديمغرافي والثقافي والاقتصادي، لدينا يمن حضاري، ويمن ثقافي ويمن ديمغرافي، ويمن جغرافي. في الخلاصة ما تبقى لنا اليوم من اسم اليمن هو اليمن المتمثل في الجمهورية اليمنية، وشعب يحمله اسمه وجنسيته وهويته السياسية هو شعب الجمهورية اليمنية، والجمهورية اليمنية هي هويتنا السياسية التي يجب ألا نفرط فيها مهما كانت الظروف.
اليمن الكبير يشمل الجزيرة العربية كلها بكل دولها اليوم وسكانها، وكل سكان هذه المنطقة هم يمنيون اقحاح، لكن هناك من ينكر يمنيته وهويته الحضارية والثقافية لأسباب كثيرة، ولا عتب لنا على أحد، لكن العتب على من يشاركونا في الانتماء للحضارة اليمنية ومقتنياتها وأثارها وزراعتها وثقافتها وتراثها، ويريدون إضفاء صبغاتهم المحلية المُحدثة عليها والاستئثار بموروثها الثقافي، كما أن العتب موصول لمن لا يريدون من الآخرين أن يفخروا بالزي والأغنية واللحن والبن والجنبية والخبز. وعلى من يرون أنفسهم أهلاً للوعي أن يقنعوا هذا الشعب الكبير في اليمن الكبير بواحديته بغض النظر عن الوضع السياسي لأي بلد، أقل القليل فيما يتعلق بالوضع الاجتماعي، وأخوّتنا وتشاركنا في النسب والعادات والقيم والدين واللغة والثقافة ووحدة المصير، أتحدث عن الاقناع الثقافي لا الجدل العصبوي المرتبط بالسياسة ومصالح الأنظمة الحاكمة في شبه الجزيرة العربية.
إن إعادة الاستقرار لليمن هي السبيل الوحيد لاستقرار شبه الجزيرة العربية والقرن الإفريقي، والسعي نحو سلام عادل وشامل هو الطريق الوحيد لبقاء الجمهورية اليمنية. هذه الحرب الأهلية لا مُنتصر فيها كسابقاتها. المُنتصر في كل الحروب الأهلية هو العدو وحده، فبناء السلام في اليمن هو أول أولويات صناعة الوعي بدلاً عن صناعة الخصومات، هذا السلام يجب أن يشمل الحفاظ على مصالح شعبنا وجمهوريته وديمقراطيته وسلامة ووحدة أراضيه. إن أردنا وعياً علينا أن ننتصر لليمن وللإنسان اليمني الخاسر في هذه الحروب، لا أن ننتصر لمشاريع طائفية أو جهوية، وبالتالي فنحن نحتاج حكومة واحدة تحكم اليمن باسم الشعب اليمني.
للوعل رمزية حضارية يمنية وليس مادة جدل وخصام وتحيز عاطفي وردّ فعل مقابل استحضار الحوثيين للسلالة. إنه أحد روابط جمع اليمنيين بمختلف مشاربهم، وهذا الاستحضار التاريخي يسعى لتأطير اليمنيين باتجاه الفعل بدلاً عن رد الفعل عبر تقدير الرموز الحضارية الجامعة، ما سيعزز الانتماء الوطني ويدفع باتجاه البحث والاستلهام من الحضارة اليمنية.
تضيع رمزية الوعل بين من يبالغ في تقديسه أو يسخر منه، وبين من يتخذه موضوعاً لمعارك كلامية ومادة جدل سطحي عن التحليل والتحريم من قبل وعاظ العوام أو عوام الوعاظ بجهل أو بتطويع لنصوص دينية، وكذلك من يطارده في الجبال والأودية بالصيد الجائر لكائن أصيل معرض للانقراض. فعندما وصلت البندقية في بداية القرن الماضي إلى أيدي بعض قومنا أعلنوها حرباً على الطبيعة من طير وحيوان وأشعلوها معارك صيد عبثية فهربت معظم الحيوانات البرية في البلاد واتجهت في امتداد اليمن الكبير نحو جبال السراة وعلى رأسها الوعل رمزنا الحضاري.
نحن في "يمنيون" نفخر أن لنا الأسبقية باتخاذ الوعل شعاراً لنا منذ 2015م، وحولناه من مجسم إلى أيقونة أظهرناها في مختلف فعالياتنا، ووضعنا له اللون الأزرق ويرمز لمياهنا الإقليمية، واللون الذهبي ويرمز لتربة أرضنا الخصبة، وهو رمز مثل غيره من الرموز، كالطير الجمهوري رمز جمهوريتنا، وحصان المؤتمر، وشمس الإصلاح، وهلال ونجمة الناصري، ونجمة وسنبلة الاشتراكي، وحاشا أن نكون رفعناه لنعبده من دون الله كما يحلو للسذج القول، بل لتعزيز يمنيتنا وهويتنا برمز من رموزنا الحضارية، وكذلك استخدمه غيرنا من محبي اليمن بمختلف أشكاله ومجسماته كرمز حضاري مع الفارق في تقديمه وعرضه.
ظهر الوعل في اليمن في الألف الثامن قبل الميلاد في اللوحات النذرية، وزاد استخدامه في الحضارة اليمنية منذ الألف الأول قبل الميلاد وارتبط بطقوس دينية مثل الصيد الشعائري وطقوس الخصب بحسب الباحث محمد مرقطن. وكما يشير مرقطن المتخصص في الآثار في محاضرة له عن الوعل، إلى أنه لا يوجد أي نقش أو شاهد يدل على أن الوعل قد استُخدم في الحضارة اليمنية كإله، والآلهة في اليمن لم يكن يتم تجسيدها، وقد قُدم كقربان للإله "حوكم" كما يشير النقش على منحوت الوعل الذي بحوزة أمير قطر السابق. وفي أحد منشورات الباحث مرقطن الذي ترجم النقش الموجود على هذا الوعل: "(أعضاء) قبيلة ذو مَرْيَمت، القاطنون في مدينة تُبْناو، قدّموا (هذا الوعل كقربان (للإله) حَوْكم". وكان هذا الوعل في الأصل مثبتاً في معبدٍ مكرّس للإله القتباني حوكم، وتم تقديمه كقربان للإله حوكم من قبل مجموعة من مواطني مدينة مَرْيَمت وهي مقر قبيلة مَرْيَمت في وادي حريب الواقع جنوب مأرب.
وسواءً قدم الوعل قرباناً للإله "حوكم"، أو للإله "رحمنان"، أو للإله "سمع" أو للإله "شكر" وهي أسماء لآلهة انتشرت عبادتها في اليمن القديم، وهذه الآلهة المذكورة تشير إلى أسماء الله الحسنى، والتي جمعها الإسلام وجعلها إلهاً واحداً، أو قدم قرباناً لغير هذه الآلهة مثل إله "ألمقة" المسمى "عثتر، عثتار، عشتار" يظل الوعل مجرد قربان، وليس إلهاً في حد ذاته.
وقد ورد هذا القربان (الوعل) في الفداء المُقدم من النبي إبراهيم بدلاً عن ذبحه لابنه عليهما السلام فيما أورده القرطبي في تفسيره أنه فُدي بوعل، وهو الوارد في معنى آية الذبح، فيما تم نقله عن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله في تفسير (وفديناه بذبح عظيم) قال: وعل. ولذا ظلت رمزية الوعل تتراوح بين الرمزية الدينية كقربان، وبين الرمزية الحضارية كمنحوت وجد في النقوش اليمنية المنتشرة في مناطق مختلفة من اليمن كحضرموت ومارب وشبوة والجوف. وقد نُقش رسم الوعل على المباخر، والمسارج، والمذابح اليمنية القديمة، وظهر كعنصر بنائي في تزيين بعض معابد الجوف، وفي اللوحات النذرية التي يعود تاريخ بعضها إلى القرن الثامن ق.م. وهناك الكثير من المنحوتات والتماثيل الحجرية والبرونزية التي تجسد الوعل في كافة الممالك السبئية، بحسب ما ورد في محاضرة الباحث مرقطن عن الوعل.
احتفاؤنا بيوم الوعل هو احتفاء بحضارتنا العريقة ودعوة للحفاظ على الموروث الثقافي والحضاري والاجتماع حول هذا المشترك الحضاري.