[ تتضمّن الأهازيج تذكيراً للحاج بجلب الهدايا معه (العربي الجديد) ]
عرف اليمن موروثاً من الأهازيج الغنائية والأناشيد المصاحبة للأعياد، أبرزها غناء "المدرهة"، وهي طقوس قديمة مُرتبطة بوداع الحُجّاج واستقبالهم، لا يُعرف متى بدأت بالتحديد. لكنّ طابعها، خلافاً لفرائحية العيد، فيه مسحة لحنية من الخوف والحزن. يعود ذلك إلى موروث يمتد مئات السنين، عندما كان سفر الحُجاج يتسم بالمشقة والمخاطر. بهذا، حين يمضي أحدهم إلى مكّة، تنصب عائلته أرجوحة أو مدرهة، دلالة على أن أحدهم غائب لأداء مناسك الحج. تصبح هذه المدرهة محط رجاء أهله وجيرانه وأصحابه بسلامة عودته. وكل هؤلاء يتناوبون على صعودها، ويشمل الطقس الرجال والنساء، وبدرجة أقل الأطفال. ومع حركة المدرهة، يتردد غناء الأهازيج والابتهالات الدينية، لكل منها لحن مختلف، لكن قواسم مشتركة تتقاطع، سواء بتقارب هذا اللحن مع طابع الإنشاد الديني الصنعاني، أو من جهة مسحته الطقوسية المتسمة بالرجاء.
ولا تقتصر تقاليد المدرهة على الغناء، بل تشمل رقصات تقليدية مثل البرع، والذبائح والأدعية. وغالباً ما تُنصب هذه الأرجوحة في فناء منزل الحاج، أو أحد جيرانه، أو حتى في ساحة عامة قريبة من الحي. ودائماً تكون الأرجوحة كبيرة، ويُصنع عموداها من أشجار مثل الطلح، وهو نوع من الأكاسيا العربية، وتُوثّق بحبال قوية مصنوعة من شجيرات صبارية. وينبغي على أقارب الحاج التأكد من كونها موثقة بإحكام، خشية انقطاعها لأن ذلك يُنذر بالشؤم وفقاً للمُعتقد، وقد يشير إلى أن الحاج في خطر.
تعزز تلك الطقوس الروابط بالحاج، من خلال تزيينها بكسوة تُعرف بـ"كسوة الحج" تيمناً بملابس الإحرام. وهي عبارة عن كل ما يتعلق بملابس الحاج، وتُنشر على أعمدة المدرهة مع أدوات زينته، مثل العمامة والجنبية (الخنجر اليمني التقليدي). وبالنسبة للمرأة الحاجة، تُحزم الأعمدة بملابس عرسها، إضافة إلى زينتها من مصوغات فضية أو ذهبية، وكذلك توشّى بالورود والريحان.
كانت صنعاء القديمة تشهد فعاليات تُميز موسم الحج، فتُنصب الأراجيح وتُقام الفعاليات. لكن تلك العادة تراجعت، خصوصاً مع سهولة السفر مقارنة بالماضي. لكنها في بعض الأوقات، تشهد شكلاً من الإحياء ضمن فعاليات عامة، أي بمعزل عن شكلها الطقوسي المرتبط بمعتقدات متوارثة منذ زمن بعيد.
يمتاز غناء المدرهة بطابع لحني عتيق، يشبه مناجاة الرُعاة العرب في الصحراء. لكنه يتخذ طابعاً يمنياً، وعلى وجه التحديد صنعانيا. وربما يستدعي بأسلوبه جذوراً طقوسية على صلة بمعتقدات دينية قديمة، لا يمكن الجزم بها. لكنها تبث صلة عميقة بين الإنشاد الديني اليمني بطابعه المعروف اليوم، والغناء الديني القديم. واللافت في أسلوبه مسحة الندب العميق، كما لو أنه نشيج مُكحّل باللحن. فالكلام أيضاً يُعزز هذا المنحى اللحني، إذ يصف شعور العائلة والأطفال بالحزن على فراق الحاج. في إحدى هذه المناجيات، يقولون: "لو تبسرونا ياهلنا حين طرق، الباص في الباب، حسيت قلبي رجف ودمعتي سيالة". وفي غناء آخر يُقال: "لو تبسرونا ياهلنا حين طلع الطيارة"، ما يعني أن هذا العُرف ظل قابلاً للتبدل وفقاً لتغير العصر، وما يوفره من وسائل ركوب للسفر، مع الإبقاء على المحتوى العام للأهزوجة. قبل ظهور وسائل النقل الحديثة واستخدامها لسفر الحُجاج، كان يُشار إلى شيء آخر.
ومن الواضح أن هذا العُرف زال مع ظهور أجيال جديدة لم تعد ترى مشقة في رحلات الحج، كما كانت في السابق، إذ كان غياب الحُجاج يستمر 120 يوماً حتى عودتهم.
وللوهلة الأولى، قد يبدو لحن الأهازيج غير متسق تعبيرياً مع المحتوى الكلامي، فيتسم بنوع من السرد والتوصيف. مثلاً، تقول الأهزوجة: "لو تبسروا يا حاضرين كيف خرجت الحجاجي.. لو تبسروا يا الأصدقاء كيف خرجت الجمالي.. رجع من الشارع يقل في ذمتش جهالي.. في ذمتش زرع الكبد عاد الصغير غاوي"، أي أن ما يصفه اللحن من حُرقة وحزن، لا تعكسه صور الكلام. لكنه يتتبع الطابع لسرد النساء كالزوجات أو الأمهات، ويتسم بأسلوب رتيب، يخلطه تهدج وربما نشيج
وإذا عدنا إلى طقوس المدرهة، فإنها تبدأ بشعائر رمزية، مثل طلاء المباني بـ"النورة البيضاء"، وهي مادة كيمائية بيضاء اللون، كما تقيم أسرة الحاج وليمة، ينبغي أن تشهد ذبح كبش، كما تعتمد بعض الأسر على مُنشدين يؤدّون الموشحات الدينية، ويقرؤون سورة الفاتحة أثناء وداع الحاج. وهكذا يتحول طقس الوداع إلى شعائر دينية واجتماعية.
ومع تنصيب المدرهة، تصاحبها أهازيج وابتهالات دينية ورقص شعبي ومزامير وقرع الطبول. مع ترديد: "يا مدرهة يا مدرهة مال صوتش واهي.. قالت أنا واهية وما حد كساني".
تتعدد الأنواع والأشكال التعبيرية المرتبطة بالحاج، بما في ذلك وصفه. ولا نغفل مخاطبة المؤدي للحمامة مطالباً إياها بتذكير الحاج بعائلته وأحبائه وأولاده، وألا ينساهم. وهذا يعني أنها تشمل في تعبيرها مخاوف عائلته من عدم عودة الحاج لأسباب أخرى غير الموت. فهناك بعض الحُجاج من غادروا ولم يعودوا.
هناك أيضاً نوع آخر من الغناء، هو ذلك المرتبط بالإنشاد الديني، ويكثر فيه الابتهال والدعاء للحاج. وفيه الكثير من ذكر الله. ويختلف طابعه اللحني بخليط من الكآبة والجلال، كما يتسم بالخشوع وصدوح الصوت. ويشبه طابعه العام التواشيح التي تسبق صلاة الفجر، وما زالت المساجد ذات المذهب الزيدي تحتفظ بها.
وبالنسبة للأطفال، فإن صعودهم الأرجوحة يصاحبه غناء لأهزوجة يُلائم لحنها وموضوعها العام أعمارهم. وهي عبارة عن أهزوجة لحنها ذائع ومعروف في الحجاز. وتُعرف في اليمن بمطلعها "هالسيبة سودي نودي، سلمي على سيدي، وسيدي سافر مكة". لحنها العام ذو طابع بسيط وسهل يناسب الصغار.
المثير في غناء المدرهة هو ذلك التغير المستمر في كلام بعض الأهازيج، مع احتفاظها بلحن واحد. فما إن تنتهي مواسم الحج يتخذ الغناء أو طقوس المدرهة نمطاً جديداً يطالبه بسرعة العودة، مثل "يا حجنا قوم اقطب (بمعنى عجل) الشدادي، وقل لمكة خاطرش شاسير لي بلادي"، إلى أن تصل لمطالبته باصطحاب الهدايا. ومع عودة الحُجاج، يُستقبلون باحتفاء مُبتهج، وتُنثر زهور الفل والياسمين، وتحضر الأهازيج ورقصات البرع، وزغاريد النساء. كل هذا الفرح لأنه عاد سالماً.