في هذه السلسلة يكشف (الموقع بوست) حقيقة ما يسمى بالخرافة السلالية الهاشمية، من خلال (12) حلقة متتالية، توضح كيف تم صناعة هذه الخرافة، و كيف جرى الترويج لها، واقناع الناس بها تأريخيا.
السلسلة تشكل مجموعة ابحاث تأريخية عميقة، استغرقت وقتاً طويلاً في سبيل الوصول الى الحقيقة.
كثيراً ما نجد نقاطاً مشتركة بين مختلف الأديان سواء على مستوياتها الغيبية أو النظامية التشريعية، مما يوحي بأحد احتمالين أو كليهما معاً.
الأول أن الأديان كمحاور مركزية في الثقافات تخضع لما تخضع له الثقافات من تلاقح وتأثر وتأثير، أما الثاني وهو الأسبق في احتمالية حدوثه يشير إلى وحدة مصدر الأديان لاسيما بالنظر إلى قواسم مشتركة في ديانات شعوب بدائية مشتتة في أنحاء العالم. وما يجري على سائر الأديان يجري على الدين الإسلامي الذي أثر في ديانات أخرى وتأثر بها، ولعل المشكلة -إن كانت هناك مشكلة – لا تكمن في حتمية عملية التأثر والتأثير وإنما في انضباط العملية خصوصاً ما يتصل بالتأثر وعمقه ومداه، وما إذا كان التأثر قد تغلغل لحد المساس بهوية وخصائص الدين المعين المميزة له عن غيره.
تشكل الاديان
يمكن القول إن معظم الأديان تتشكل من دائرتين رئيسيتين، إحداهما رمزية تنظم العلاقة بين الإله والإنسان على المستوى الفكري والعملي وتشمل المضامين الغيبية، كماهية الله وبدء التكوين، والمضامين الطقوسية والشعائرية. وتتسم هذه الدائرة عموماً بقدر كبير من الرمزية، ومسألة الإرماز أمر طبيعي في هذا النوع من العلاقة لاختلاف الكينونتين الإلهية والبشرية وحاكمية وعلو الأولى على الثانية، ما يجعل تفسير رموز العلاقة شأناً إلهياً صرفاً يصعب على الكينونة البشرية تأويلها ومعرفة غاياتها دون الوقوع في اختلافات لا طائل منها ولا نهاية واضحة لها. وبحسب المصطلحات الفقهية الإسلامية فهذه الدائرة الرمزية في أغلبها توقيفية لا اختصاص بشري فيها ولا فائدة دنيوية تترتب عليها. فنحن كمسلمين نجهل كنه الحقيقة الإلهية خارجاً عما ذكره القرآن الكريم، ولا نعرف مقاصد وغايات أداء شعائر وطقوس بالكيفيات التي أمرنا بها، فلا اختصاص للإنسان في إدارة هذه العلاقة خارج عملية الامتثال، أما الدائرة الثانية فهي الدائرة الحياتية التي تنظم على وجه الخصوص علاقة الإنسان بالإنسان، وتشمل المضامين الأخلاقية القائمة على الضمير، والمضامين التشريعية والقانونية، وهذه الدائرة من العلاقة تتسم بالوضوح أكثر من الإرماز، ولأنها علاقة بشرية بشرية فهي تتسع لمساحة من الفعل الإنساني في ضوء المؤشرات الإلهية.
لكن الحاصل أن اليد البشرية تدخلت كثيراً في الدائرتين، تجلت إحدى صور هذا التدخل في الاستقاء المتبادل بين الأديان، ما أسهم في صناعة تشققات وانشقاقات داخل الدين الواحد ناجمة عن تغليب مصدر دون مصدر، ومدى السماح للتأثير الوارد في تكوين مساحاته الخاصة.
بتنزيل ماسبق على الدين الإسلامي، يمكن التأكيد مجدداً على وجود قواسم مشتركة بينه وبين أديان أخرى على مستوى الدائرتين، في جوانبها الغيبية والطقوسية، والأخلاقية والتشريعية، ولعل هذا المشترك يمثل النسبة الأكبر – إن جاز إعطاء نسب في هذا الشأن – لاسيما مع الأديان السماوية المعروفة اليوم. ففي الجوانب الغيبية، الله، الملائكة، الشياطين، الجنة، النار، الآخرة (بعض الفرق اليهودية لا تؤمن بالآخرة). والقصص المتعلقة بالسابقين، أو دعونا نقول الأساطير دون أن نعني باللفظ أنها لم تقع.
وفي النواحي الطقوسية الصلاة والصيام والحج، والتلاوة، والقرابين، ومن النواحي التشريعية أو القانونية القصاص وبعض الحدود والعقوبات.
الخصوصية الاسلامية
أما ما يعطي النقاط المشتركة خصوصيتها الإسلامية فهو مجيئها عبر النبي محمد عليه الصلاة والسلام من خلال القرآن والسنة.
وبذلك لا يمكن القول إن تحديد عدد الصلوات يومياً بخمس مرات وبوضوء أو طهارة تسبقها مستقاة من الديانة الزرادشتية الفارسية، أو الديانة الصابئية، أو أن قصاص النفس بالنفس، والسن بالسن أتى من تشريعات العهد القديم أو من الديانة اليهودية، أو حتى الديانة البابلية الحمورابية، أو أن الطواف حول الكعبة بقايا طقوسية وثنية. وغيرها من الأمثلة التي لا يمكن القول بها وتجريدها من سمتها الإسلامية. أما السبب فيكمن في أنها اكتسبت خصوصياتها وهويتها الإسلامية ومن ثم مشروعيتها بوصولها إلينا من خلال نبينا. فيكون هو الضابط والمرجعية البشرية الوحيدة بالنسبة لنا كمسلمين في إكساب المواقف الفكرية والعملية مشروعيتها الإسلامية.
وبانقطاع النبوة بوفاته عليه الصلاة والسلام تبقى أي مواقف تالية بما فيها الاستقاء من الأديان الأخرى حالات اجتهادية لا ترتقي لأي مستوى من القداسة، وتظل خاضعة للنقد في ضوء التعليمات الإلهية الواردة إلينا عبر نبينا والمدونة بشكل يقيني في القرآن الكريم، وبقدر أقل يقينية في كتب السنة.
على خلاف أديان أخرى بدأ الشقاق في المجتمع الإسلامي على أساس سياسي تمخض عن نشوء ثلاث فرق أساسية هي السنة، والشيعة، والخوارج. مع الإشارة إلى أن اكتمال بنياناتها الفكرية أخذ بالمجمل ثلاثة قرون من الهجرة إلا في ما يخص إلى حد ما الفرقة الخارجية. وكان منشأ افتراقها الموقف من استحقاق خلافة النبي. وفي سعي كل منها لبناء هوية خاصة لجأت كل فرقة إلى الاستعانة – بوعي أو بدون وعي – بأدوات فكرية تقع خارج المربع الإسلامي، ومن ثم أسلمت هذه الأدوات لتحظى بالقدسية و المشروعية. بيد أن درجات الاستقاء من المصادر الخارجية تفاوتت بين هذه الفرق، بل وبين المذاهب المتفرعة من كل فرقة.
الفكر الشيعي
وعلى العموم يمكن القول إن جميعها تأثرت في النواحي الغيبية العقائدية، والطقوسية، والنظامية التشريعية، إلا أن الفكر الشيعي تميز باختزال قضيته الدينية في المسألة السياسية التي أعاد تدويرها في نطاق مقدس من خلال فتح الباب على مصراعيه لتأثير الأديان الأخرى وتحديداً الديانات الفارسية في مساحات مهمة في الدائرة الغيبية الرمزية في مجالاتها العقائدية والطقوسية الشعائرية، والأسطورية. لكن لماذا الديانات الفارسية الأكثر تأثيراً في الفكر الشيعي.؟ ويرتبط بهذا سؤال آخر، لماذا الفرس من أكثر الشعوب تفاعلاً وتقبلاً للفكر الشيعي.؟
في صدد الإجابة عن السؤال الأول ينبغي الإشارة إلى مفهوم الديانات الفارسية الذي لا نقصد به هنا دينا بعينه، كما لا نقصد بفارس بقعة الأراضي الجغرافية الواقعة داخل حدود الدولة الإيرانية اليوم، ولا بالفرس ذلك العرق المنتمي في أصوله إلى الشعوب الآرية، فعندما نتحدث عن الفرس وفارس فإن المقصود هو نطاق ثقافي لا ينحصر داخل حدود الدولة الإيرانية، وإن كانت تمثل مركزه راهناً، ويتعدى العرق الفارسي الآري – غير النقي بطبيعة الحال– وبطريقة مشابهة فالمقصود بالأديان أو الدين الفارسي هنا مجموعة التفاعلات الثقافية والدينية التي أنتجت ثقافة فارسية مركزها الدين، وأسفرت عن ديانة فارسية شديدة التمازج بديانات أخرى أملتها الخلفية الحضارية والموقع الجغرافي لفارس. أما الخلفية الحضارية فكون فارس كمجال حضاري تترابط عضوياً بحضارات العراق القديمة من سومرية وبابلية وأشورية قبل أن تكون وريثتها منذ القرن السادس قبل الميلاد، إضافة إلى أن الإمبراطورية الفارسية التي أسسها كورش تحددت في نطاق حضاري واسع يشمل الشام بمكوناتها الدينية والثقافية من آرامية وكنعانية بوليديها الفينيقي والعبري، وحتى مصر.
ثم الاحتكاك اليوناني فالروماني بمكونهما الديني بما فيه المسيحية.
الموقع الجغرافي
أما موقعها الجغرافي فقد أتاح لها مجال احتكاك آخر مع الديانات الهندية. ما جعل الدين الفارسي بمدييه الغيبي الرمزي والحياتي خليطاً متأثراً – ومؤثراً كذلك – بالديانات الهندية من هندوسية وبوذية وجانتية، والعراقية القديمة، والشامية من يهودية ومسيحية، والفارسية المنشأ وبمقدمتها الزرادشتية وتفرعاتها المانوية، والمزدكية كخليط من الزرادشتية والمسيحية.
وفي الإجابة عن السؤال الثاني الخاص بعوامل الانخراط الفارسي في الحالة التشيعية من الملائم التنويه إلى أن التشيع ظهر في العراق، وتحديداً الكوفة التي كانت حاضرة الشرق الإسلامي الذي كان بصورة أو بأخرى مرادفاً لفارس. حتى في صيغة المكون العربي للكوفة في أوائل عهدها الملاحظ أنه كان من القبائل اليمنية – بعكس البصرة التي قطنتها قبائل مضرية – ومن المعروف أن اليمن كانت موطن ديانات مختلفة بينها اليهودية والمسيحية، وكانت موطن احتكاك أساسي بالمجال الفارسي عبر خضوعها للسيادة الفارسية لعدة عقود، وبالتالي توافرت في قبائل الكوفة اليمنية قابلية الامتزاج بالثقافة الفارسية.
بعد أن أصبحت الكوفة وعادت العراق عموماً مركزاً للثقافة الفارسية – كما كانت لقرون سابقة– بدأت مكونات الفكر الشيعي تنبت وتتطور هناك بفعل عدة عوامل. قد يقال إن منبت التشيع لعلي كان في المدينة ومنذ عهد النبي وبشكل أبرز عقب وفاة النبي بخلق مجموعة من الصحابة حوله وتأييدهم لاستحقاقه الخلافة. وهذا الأمر صحيح إذا كنا نتحدث عن صداقات ومواقف من الطبيعي أن تظهر مع هذا أو ذاك غير أن التشيع المقصود هو المنظومة الفكرية والإيديولوجية.
قضية الزواج
من أهم التفسيرات للتشيع الفارسي الذي يصر عليه السنة وينكره الشيعة رواية تتحدث عن زواج إحدى بنات يزدجر أخر أكاسرة فارس بالحسين بن علي وبقاء عقب الأخير منها فقط تمثلاً في زين العابدين علي بن الحسين.
الشيعة عموماً لا تنكر حادثة الزواج بل تضيف عليها قصصاً أسطورية، ما تنكره هو أنها أساس تشيع الفرس باعتبار أن الأمر لو كان كذلك لانقسموا في تشيعهم بين علي، وعبدالله بن عمر، ومحمد بن أبي بكر – جد جعفر الصادق – كونهم جميعاً تزوجوا من ثلاث بنات ليزدجر أسرن عند فتح المدائن أوائل السنة السادسة عشرة للهجرة.
وتكمن أهمية القصة في مكونها السلالي حيث تفترض أن النطفة الرفيعة الساسانية تمازجت مع النطفة الرفيعة العربية، وبالتالي استمرارهما معاً في زين العابدين وذريته.
قصة التزاوج هذه أنكرها المفكر الإيراني الشهير علي شريعتي الحاصل على شهادتي دكتوراه في التاريخ والاجتماع، على أساس أن شهربانو بنت يزدجر أنجبت زين العابدين بعد عشرين سنة من زواجهما المفترض.
وبمقارنة التواريخ أسوة بطريقة شريعتي يورد مؤرخون أن يزدجر قتل عام 31 هجرية عن عمر 28 سنة، وعليه تكون ولادته في السنة الثالثة أو الرابعة للهجرة، وإذا كانت المدائن فتحت أوائل السنة السادسة عشرة فإن سن يزدجر حينها يكون 13 أو 12 سنة وهو سن دون البلوغ الجنسي الذي يمكنه من الإنجاب، فكيف أنجب عدة أبناء بينهم الثلاث الأسيرات. إلى جانب ذلك لم يكن الإمام الحسين وقتها قد بلغ سن الزواج. للخروج من إشكالية سن الحسين قيل أنه تزوجها في السنة الثامنة عشرة وعمره 15 سنة، وهذا يناقض الروايات التاريخية التي توحي بأن الزواج كان حلا اقترحه الإمام علي بن أبي طالب للخليفة عمر بن الخطاب بأن لا تعامل بنات الملوك كغيرها من السبايا – الواصلة من الخمس – ببيعهن لصالح بيت المال.
رغم أن أحد مؤشرات اختلاق الرواية ما عرف عن الإمام علي من إيمانه وانتهاجه مبدأ المساواة.
قصة الزواج، مع ما أعطي لها من أهمية عند الشيعة والسنة تتلاشى أمام النقد العلمي والتاريخي.
سلمان وعلي
ربما قد يكون تشيع الفرس ناجماً – كأحد العوامل – عن العلاقة الخاصة المفترضة بين سلمان الفارسي والإمام علي واعتبار سلمان من أوائل المتشيعين لعلي، ما أدى لاختلاق أحاديث تمجد سلمان بينها "سلمان منا آل البيت"، والموقع المهم لسلمان في الفكر الشيعي لدرجة أن بعض فرق الشيعة المتطرفة اعتبرته أحد أضلاع الصبغة الإلهية إلى جانب النبي والإمام علي.
وقد يكون أحد أسباب التشيع الفارسي ما نسب للإمام علي من عدم تفريق بين العرب والموالي مقارنة بمن سبقه من الخلفاء، وهذا الأمر طبعاً غير صائب على إطلاقه.
وقد يكون من عوامل التشيع الفارسي نقل الإمام علي عاصمة الخلافة من المدينة إلى الكوفة حاضرة الشرق الفارسي في العهد الإسلامي.
سبب رئيسي
غير أن من أهم الأسباب وراء التشيع الفارسي هو تفاعلات المقاومة الفارسية للإسلام سواء في عملية الفتح التي استغرقت سنوات أو في انتفاض الكثير من المدن الفارسية على الإسلام مراراً خصوصاً بعد استشهاد عمر بن الخطاب. ثم انتهاء الخلافة إلى الأمويين الذين اعتمدوا على العرب في الحكم وإدارة الدولة الإسلامية على حساب الموالي وبينهم الفرس الذين مالت نفوسهم لمعارضة الحكم الأموي لاسيما بعد أن كان الإمام علي وأبنائه رمزاً لمواجهة البيت الأموي، إلى جانب الخوارج، وبعد أن أخذ الصراع بُعدا إقليمياً، الشاميين والعراقيين فكان الأولون قاعدة الحكم الأموية وكان الآخرون قاعدة معارضة هذا الحكم، وكانت العراق حضارياً معظم التاريخ تعني فارس، وفارس تعني العراق.
اللافت في ميول الفرس للمعارضة أنهم مالوا للتشيع أكثر من ميلانهم للخوارج مع أن المنطق السياسي يفترض انخراطهم في الحركة الخارجية لا التشيعية، كون الفكر السياسي الخارجي يساوي في استحقاق الخلافة بين القرشيين وغير القرشيين، والعرب وغير العرب، خلافاً لبذور الفكر الشيعي التي تختزل قرشية الفكر السني إلى حصر استحقاق الخلافة في البيت العلوي الفاطمي خصوصاً.
وهو بواقع الحال بيت قرشي عربي، ومن ثم إذا كان الصراع مع الأمويين بالنسبة للموالي قد أخذ بُعداً قومياً – إذا جاز إسقاط التعبير على ذلك الوقت – فكان الفكر الأقرب للتمكين من نزع السيادة العربية هو الفكر الخارجي لا الشيعي.
وهنا يأتي السبب الجوهري في الميل الفارسي للتشيع ألا وهو تأثير المخزون الديني الثقافي الفارسي، الذي يمكن معه وصف الفكر الشيعي عموماً بأنه النسخة الفارسية للإسلام.
لمتابعة الحلقات السابقة على الروابط التالية:
الحلقة الاولى.
الحلقة الثانية.
الحلقة الثالثة.
الحلقة الرابعة.
الحلقة الخامسة.
الحلقة السادسة.
الحلقة السابعة.
الحلقة الثامنة.
الحلقة التاسعة.
الحلقة العاشرة.