يقارن الدكتور والروائي مروان الغفوري بين الكنيسة في أوروبا والقبيلة في اليمن، ويقول بأن الأولى تمثل التجسيد الواقعي للثانية، وذلك في إطار تشخيصه للوضع الذي يعيشه اليمنيون في الوقت الراهن.
وفي نظرته للوضع التفصيلي لما يجري في اليمن، يرى الغفوري -وهو طبيب يمني يعمل في ألمانيا- أن سيطرة الإمارات على الجنوب أفقدته بوصلته، فلم يعد جنوباً يمنياً ولا جنوباً جنوبياً، وصار أرضاً بلا ملامح، وأصبحت قضايا الجنوب التاريخية وسيلة بيد دولة الإمارات العربية المتحدة كقوة دولية صاعدة تستخدمها بحسب حاجتها.
وبالنسبة لجماعة الحوثي فيراها مشكلة دينية وتاريخية، والمخلوع صالح مشكلة سياسية واجتماعية، في حين يبدو هادي معضلة أخلاقية ونفسية في الأساس، وفق حديث الغفوري مع "الموقع بوست".
إلى الحوار:
* في التاريخ الحديث لليمن نلحظ وجود حلقات متصلة من الأزمات التي تبدو وكأنها عصية على الحل.. برأيك أين تكمن مشكلة اليمن، في ساستها أم مثقفيها أم علماء الدين أم المشيخ أم في خليط من كل ذلك؟ بطريقة أخرى: كيف يمكن تشخيص الأزمة اليمنية؟
** يمكن قول الكثير عن أصل المشكلة اليمنية، بشكل عام نحن أمام معضلة تاريخية، بكل الأبعاد التي للتاريخ: من الثقافي إلى الاجتماعي، ومن الديني إلى الجغرافي، فالحوثي مشكلة دينية وتاريخية، لكن صالح مشكلة سياسية واجتماعية، في حين يبدو هادي معضلة أخلاقية ونفسية في الأساس.
* الملاحظ أن المجتمعات الراقية لم تبن تقدمها إلا إثر حروب وصراعات دامية.. هل برأيك أن اليمن ستتعافى وستبني نهضتها بعد انتهاء الحرب الحالية، أم أن للنهضة عوامل أخرى لا تزال غائبة في اليمن ما يعني أن نهضة وتقدم اليمن لا تزال بعيدة المنال؟
** في كتابه الأخير "النظام العالمي"، تحديداً في الفصل الذي أفرده للإسلام والشرق الأدنى، عاد كيسنجر إلى حرب الثلاثين عاماً الأوروبية، وهي الحرب التي انطلقت في 1618 ولم تضع أوزارها إلا في العام 1648.
يعتقد كيسنجر أن اكتشاف الأوروبيين لقانون "ما لله لله وما لقيصر لقيصر" وضع حداً لحروب أوروبا الضارية وساعد على نشوء الدولة الحديثة، في الصورة اليمنية لا توجد كنيسة، هناك القبيلة، وهي المقابل التاريخي للكنيسة، إذا اكتشفنا الخطوط الفاصلة بين الدولة والقبيلة سنساعد فكرة الدولة على امتصاص حقيقة القبيلة شيئاً فشيئاً، يحدث الآن العكس.
ثمة شيء نافع ووحيد في الخراب الراهن: لقد جرب اليمنيون طريق الآلاف، ولم يسبق أن جربوه بشكل جماعي وبهذه القسوة، وهم الآن، تحت ضغط كبير، يدركون جيداً أن الخيارات السياسية التي تعاملوا معها باستخفاف أو احتقار كانت هي طريق السلامة.
* بعد طول أمد الحرب هل تتوقع أن اليمنيين سيقبلون بتسوية عرجاء تفرض حلولا سياسية لا تحقق الحد الأدنى من مطالب الشارع طالما هذه التسوية ستنهي الحرب؟
** لم يعد هناك من حدود لما يمكن القبول به أو رفضه، ثمة رغبة عامة وحيدة تتمثل في صيغة قادرة على إيقاف الحرب واستعادة شكل ما للدولة قادر على إدارة ما بعد الحرب.
ولن تكون الصيغة تلك ذات معنى ما لم تفضِ إلى نزع السلاح عن الشعب واحتكار الدولة لقوة القهر، لا بد من صيغة سلام تفضي، فوراً، إلى تلاشي المقاومة والمليشيات معاً، وعودة القوانين إلى العمل، كما ترى فهذا طموح لا يحوي حداً أعلى أو أدنى، ولا يمكن أن تقف الحرب إلا بمثل هذه الصيغة، ولا يمكن القول إنها مشروع غير كاف أو أعرج إلا في حالة واحدة: أن يكون جيش الجمهورية اليمنية قادراً على هزيمة قوى الانقلاب ودحرها، وهو جيش غير قادر لأسباب معقدة، فالجيش الذي أشرف على تأسيسه رجال صالح السابقون من غير المتوقع أن يدحر صالح.
* هل أنت راض عن دور المثقف والإعلامي اليمني الذي لعبه في الحرب؟ وعلى ماذا تبني موقفك من ذلك؟ وما الدور الذي يجب أن يلعبه المثقف في زمن الحرب؟
** لا أملك نصيحة معينة للمثقف في الحالة اليمنية، في الأخير لا يوجد مثقف مستقل فكل مثقف هو مثقف داخل جماعته، فالمثقف الحوثي هو مثقف يدافع عن المشروع الحوثي، والمثقف الجمهوري هو مثقف يدافع عن الجمهورية التي يتخيلها.
وكما أن المثقف الحداثي هو ذلك الذي يصوغ معادلاته المتعلقة بالتكنولوجيا والسياسة والأخلاق من وجهة نظر تأخذ المستقبل في الاعتبار، فإن المثقف الديني هو الذي يضع وجهة النظر التاريخية أمامه عندما يتحدث عن القضايا نفسها، وبالتالي فهو مثقف داخل قطاع خاص من المجتمع، توزع اليمن أفقياً وصار لدينا جمهوريات وشعوب يمنية، ولكل جمهورية وشعب مثقفوها.
* يوصف اليمني أنه يعاني من "العقدة اليزنية" وهو دائما ما يستنجد بالخارج، برأيك كمثقف وقارئ للتاريخ، ما أسباب هذه العقدة التي باتت تاريخية؟ وهل تجدها في الأزمة الحالية؟
** أزعم أن العقدة اليزنية توشك أن تكون عقدة كل الشعوب.
* أزمات اليمن متكررة ومتشابهة خلال فترات زمنية متقاربة، مثلا الأزمة الحالية والتي جاءت نتيجة الانقلاب على مخرجات الحوار الوطني متشابهة مع أزمة حرب 1994 والتي جاءت نتيجة الانقلاب على وثيقة العهد والاتفاق، فهل نستطيع القول إن السياسي اليمني لا يقرأ التاريخ ولا يستفيد من أخطاء التجربة؟
** السياسي اليمني هو الشخص الذي يقضي حياته في صنعاء منصرفاً إلى الدسائس من جهة، وتحويل المواقف إلى مصدر للدخل من جهة أخرى. وهذا اللون من السياسي غير السياسي يقع خارج كل السياقات ولا يمكننا أن نسدي له نصيحة معينة عن المعرفة والعبرة، كما من غير الممكن عملياً أن نأخذه على محمل الجد.
* هل الوحدة اليمنية مهددة اليوم أكثر من أي وقت مضى؟ نريد قراءتك لعوامل القوة وعوامل الضعف في الوحدة اليمنية؟
** الوحدة اليمنية كانت على مر الأيام تحت تهديد مزمن، وأحياناً يصبح التهديد حاداً كما يجري الآن، وحدث، كما يقول المؤرخون، إن كان اليمن الذي نعرفه الآن موحداً فقط لـ150 عاماً في الألف عام الأخيرة، مع تحول شمال اليمن إلى "جمهورية عاشوراء"، بأبعادها الطائفية الانتحارية، فإن الوحدة اليمنية تصبح مسألة صعب المنال.
ثمة أسباب أخرى ذات طبيعة تاريخية تدفع الوحدة اليمنية إلى المعاناة، مع سيطرة الإمارات على الجنوب فقد الجنوب بوصلته، فلم يعد جنوباً يمنياً ولا جنوباً جنوبياً، صار، ببساطة، أرضاً بلا ملامح، وأصبحت قضايا الجنوب التاريخية وسيلة بيد قوة دولية صاعدة تستخدمها بحسب حاجتها.
صرنا نشاهد قادة جنوبيين يرسلون إشارات وحدوية عندما تكون تلك الإشارات في صالح الموقف الإماراتي، وإشارات انفصالية عندما يرى التدبير الإماراتي أن تلك الإشارات ضرورية، ثم يختفون عن المشهد عندما تستغني الإمارات عن خدماتهم.
في العامين الماضيين اشترت الإمارات لفيفاً من الساسة في مقاطعة صومالي وهؤلاء باعوها موانئ بحرية متجاهلين الدولة الصومالية، فضعف الدولة الصومالية لا يعطي أمراء المقاطعات الحق في بيع الأرض التاريخية.
تجري الصورة نفسها في الجنوب، المشروع الإماراتي في الجنوب يتطلب بقاء الأوضاع الراهنة لسنوات طويلة، على أن تفضي هذه الأوضاع إلى ما يشبه صومالي لاند في الجنوب، وما يماثل مقديشو المحاصرة والهشة في الشمال.
* كيف ترى مستقبل اليمن وفقا للمتغيرات الحاصلة اليوم؟ وأين تكمن برأيك بارقة الأمل التي يجب على اليمنيين التمسك بها للخروج من النفق المظلم؟
** ثمة بارقة أمل، وهناك دائماً بارقة أمل. مرت شعوب كثيرة بفوضى وحروب وزعزعة استقرار لتصل إلى طور من الاستقرار، سنعاني كيمنيين كثيراً قبل أن تصبح المعاناة شيئاً من الماضي، وهذا ما سيقوله التاريخ أننا كنا الجاني أيضاً.