يضرب كثير من المحللين والسياسيين العرب تونس نموذجًا لحل الأزمات في عدة دول عربية، خاصة تلك التي تشهد نزاعات مسلحة، فهي التي نجحت إلى حد ما في تجاوز مخاطر الانتقال الديمقراطي التي كادت تعصف بالبلاد بعد ثورة يناير 2011 التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي وهنا وجب التدقيق أن النظام لم يرحل برمته بل بقيت رموزه وعادت أغلبها إلى المشهد السياسي وتقلدت مناصب في الحكم.
يستند هؤلاء السياسيون، وهم كثر بتونس، لإقناع خصومهم بأن إرادة التغيير الشعبي أقوى من استبداد الحكام مهما طال أمد طغيانهم، فتونس أرست ثقافة جديدة تقوم على التوافق السياسي بقطع النظر عن اختلاف التوجهات والخلفيات الأيديولوجية، إذ إن حركة النهضة الإسلامية التي تمثل امتدادًا للإخوان المسلمين قبلت التحالف مع حركة نداء تونس العلمانية، رغم أن الأخيرة تقول إنه تحالف فرضته الضرورة نظرًا لأن الانتخابات الأخيرة لم تمنح الحركة الأغلبية المطلقة، بالتالي كان لا بد من التعايش، بحسب تعبير زعيمها الرئيس التونسي الحالي الباجي قايد السبسي.
لا أحد من نداء تونس تصور ذلك التحالف حتى في أسوأ كوابيسه؛ فحركتهم كانت منافسًا شرسًا للنهضة التي يتهمها قياديوها بأنها متواطئة في تسهيل عمليات تسفير آلاف الشبان التونسيين للالتحاق بالمجموعات المسلحة في كل من سوريا وليبيا والعراق، ويتهمونها أيضًا بالضلوع في اغتيال المعارضين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي بعد الثورة، فضلًا عن اتهامهم بأنها تحاول السيطرة على مفاصل الدولة خلال حكمها وتهيئة الظروف لتحويل البلاد إلى دولة إسلامية استنادًا إلى نظرية مؤسس جماعة الإخوان سيد قطب.
تجاوز الحزبان تلك الاتهامات بعد لقاء باريس بين زعيمي النهضة ونداء تونس ففي السياسية كما في الحياة هناك لقاءات تغير كل شيء، وفعلًا كان هذا الاجتماع التاريخي نقطة تحول في تاريخ تونس بالرغم من تأثير تلك الصراعات بينهما على مسيرة النهضة السياسية، إذ دفعتها إلى مغادرة الحكم تحت مظلة التوافق ومصلحة البلاد بعد أن وصلت إلى السلطة بانتخابات شهد المجتمع الدولي بنزاهتها، فأصبحت إذًا مصطلحات التوافق والمصلحة الوطنية والحوار حججًا للسياسيين والمحللين في دول عربية لإبراز مدى أهمية هذا النهج السياسي التونسي والتذكير بمميزاته في كل المحافل الدولية كبديل عن الصراعات المسلحة بين أبناء البلد الواحد والنزاعات الطائفية التي نخرت اقتصاد وتاريخ هذه الدول كليبيا، العراق، سوريا، واليمن.
من يتعمق قليلًا في واقع هذه الدول أو ما تبقى منها التي تنزف دماءها يوميًا تحت حجج مختلفة يعي أنهم فعلًا أصابوا في الدفاع عن النموذج التونسي ضد مزاعم المؤمرات لوأد أي تحرك شعبي، لكن النموذج التونسي ليس مَن يراه من خارج البلاد كما يعايشه من الداخل، فالبلد في أزمة إقتصادية خانقة إذ وصلت نسبة النمو إلى أقل من 0.5% كما تراجعت إيرادات السياحة مطلع سنة 2016 بنسبة 54%، وذلك بسبب المخاوف من الوضع الأمني بعد تكبد البلاد منذ 2015 أربع هجمات مسلحة راح ضحيتها عشرات السياح والأمنيين والمدنيين، فضلًا عن تزايد الاحتجاجات العمالية إذ بلغت خلال الـ3 أشهر الأولى هذه السنة 2620 تحركًا احتجاجيًا بحسب المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
وضع حرج تمر به تونس يهدد استقرراها المجتمعي كما حذرت منه صحيفة واشنطن بوست التي قالت في مقال مؤخرًا، إنه يتوجب على المجتمع الدولي مساعدة تونس لإنقاذها من السقوط الأخير، هذه الدعوات ترجمت في تقديم بعض المساعدات الدولية، كان آخرها موافقة صندوق النقد الدولي على منح تونس قرض بقيمة 3.8 مليار دولار واطلاق البنك الدولي خطة استثمار لتونس بقيمة مليار دولار سنويًا على مدى 4 سنوات.
مؤشرات تنذر بالقلق على مستقبل الديمقراطية الوليدة في تونس رغم ذلك تبقى نموذجًا يجب أن يفخر به العالم الغارق في أزماته الداخلية.