لم تكن عمارتها تستجيب لقوانين الجاذبية الأرضية. كانت بناياتها تطير. المرأة التي اكتشفت الرياضيات في وقت مبكر من حياتها عرفت أن للأرقام أسراراً لا يمكن البوح بها إلا من طريق البصر الخاطف. وهو بصر يفكك الأشياء حين يعيدها إلى أصولها، الجذور التي تمتد إليها داخل الأرض وخارجها على حد سواء. هناك دائماً ما يقع مختلفاً ليجد أسباباً لانسجامه الكوني. بالنسبة إليها كانت العمارة كائناً حياً يختلف مع نفسه ليتحالف سعيداً مع نقيضه من أجل أن يكون الجمال ممكناً.
زها حديد (1950- 2016) كانت أسطورة عصرنا. تمكنت من أن تبعث الحياة في خرافاتها على هيئة أجساد مشيدة من مواد لم نعد نتعرف إليها بعد أن لمستها يداها. كانت لها سطوة على الحجر والزجاج والأسمنت والحديد ليكون كلَّ شيء سواه. يكون نقيضه. فترى الحديد ليناً، والحجر هشاً، والزجاج صلباً والأسمنت شفافاً. امرأة خلقت من مادة أنوثة مختلفة. لا أحد في إمكانه أن يشك برقتها وحنانها وشاعريتها، غير أنها كانت المرأة الأقوى في عصرنا، وفق الأوساط المعمارية.
على رغم أنها تعلمت الشيء الكثير ممَن سبقها من كبار المعماريين، فإن ما فعلته زها لم يكن يشير بطريقة مباشرة إلى تأثرها بأحد منهم. استوعبت درس العمارة في سياق المدرسة التفكيكية التي تلجأ إلى هدم البنية التقليدية والعمل من بعد ذلك إلى تجميع الأجزاء المتشظية في بنية إيقاعية جديدة. وبرغم أن تلك المدرسة كانت ظهرت عام 1971 فكان عليها أن تنتظر ظهور الفنانة البريطانية العراقية الأصل، لتكتسب كامل أبهتها ولتقدم براهين معجزاتها الجمالية.
وإذا كان كثيرون من المعماريين أظهروا استغرابهم أمام ما تفعله زها بالعمارة من هدم وإعادة بناء على أسس جديدة غير متعارف عليها مدرسياً، فإن أحداً لم ينكر الطابع الإبداعي الخلاق الذي تتميز به بناياتها التي تبدو كما لو أنها منحوتات متخيلة، قادمة من كوكب آخر، فالليونة التي تميزت بها إنشاءاتها ليست ممكنة إلا في خيال موسيقي أعمى. أما وقد تحولت الموسيقى إلى بنايات مشيدة بالحديد والحجر، فإن ذلك يعني ظهور حساسية شعرية جديدة، صار في إمكانها أن تضع المواد في قوالب جديدة تصلح لأن تدوزن، مثلما هو الحال مع الإيقاعات الموسيقية.
كاتدرائيات الحداثة
بسبب اختلافها الذي يشف عن تمردها وعصيانها ورغبتها في أن ترى العالم مشيداً بطريقة سحرية صادمة، فقد تعرضت زها حديد للكثير من الهجمات والانتقادات، وحتى السخرية مما سماه البعض بالخروج على الجاذبية الأرضية، غير أنها تقدمت بنجاج وبقوة إرادة استثنائية، ونالت من صور التكريم ما لم ينله معماري من قبل. لم تهن عزيمتها أمام بعض المؤامرات الصغيرة التي كانت تؤدي في بعض الأحيان إلى إيقاف مشاريعها الفائزة في المسابقات الدولية. في تلك الأحوال كانت تكتفي بسحر ما أنجزته على الورق من تصاميم، ستذهب إلى خزانة العمارة الكونية لتكون رصيداً لخيال أجيال من المعماريين الذين سينظرون في المستقبل بامتنان إلى ما فعلته ابنة وزير المالية العراقي محمد حديد بين عامي 1958 و1963، الحاصلة على وسام التقدير من الملكة البريطانية.
وبسبب عزيمتها الجبارة، كان نقاد الفن والمعماريون يشبّهونها بالعاصفة التي تكمن قوتها في داخلها. وبالفعل، فقد عصفت زها حديد بالعمارة، قلبتها رأساً على عقب وكتبت لها تاريخاً جديداً، حين انتقلت بفكر ما بعد الحداثة من الورق إلى الواقع وجعلته ممكناً وصالحاً للاستعمال اليومي، من خلال منشآت عملية هي في الوقت ذاته أشبه بالمزارات الجمالية، فأبنية حديد هي اليوم أشبه بالكاتدرائيات التي تفخر المدن بوجودها الطاعن في الزمن.
فنانة الترف المتعالي
على خلاف المعماري الفرنسي لوكوربوزييه، عملت زها حديد على العمارة باهظة الثمن. وهو ما جعل جهات كثيرة في العالم تتردد في التعامل مع مشاريعها المعمارية. كان الجمال بالنسبة إليها هو ذلك الشيء الغامض الذي يبقى.
وهنا تعود حديد إلى الرمزية التي ينطوي عليها الكثير من المنشآت العبثية عبر التاريخ، الأهرامات على سبيل المثال. في عمارتها مقدار لا يخفى من الترف المتعالي، وهو ترف لا يستجيب لمتطلبات الواقع بخياله الفقير.
ولأنها تعتقد أن البشرية في حاجة مستمرة إلى أن تتفوق على واقع العيش اليومي، فإنها شاءت أن تترك بصمات نفيسة في أماكن مختلفة من العالم تشير إلى مرورها الحافل بطلاسم أمم انقرضت غير أنها خلفت وراءها علامات تفوقها على الزمن.
وفي سياق ذلك الترف الجمالي، قدمت حديد تصاميم لأثاث وحلي وأدوات منزلية سيكون كل واحد منها بمثابة درس مستقبلي في العلاقة الجمالية التي تربطنا بمفردات حياتنا اليومية. في تلك التصاميم استلهمت الفنانة رؤيتها في العمارة باعتبارها أسلوب حياة يومية. الجمال الذي رأته زها حديد قليلاً سيكون أقل بعد غيابها.