لأن مخاطر التدخل الإيراني في شؤون الإقليم العربي، وفي القلب منه منطقة الخليج، باتت واضحة القسمات وليست بحاجة إلى أدلة أو براهين بعد أن تعددت في السنوات القليلة الماضية، فإن التصدي لهذا التدخل ووقفه كان هو الموضوع الرئيسي في الخلوة الأولى لوزراء الخارجية العرب التي عقدت في أبوظبي يوم الاثنين الماضي برئاسة سمو الشيخ عبدلله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية الإماراتي، كما أنه كان الملف الأوحد الذي طرح على اللجنة الرباعية التي شكلها مجلس الجامعة العربية في اجتماعه الطارئ، الذي عقد في العاشر من يناير/كانون الثاني بحضور كل من وزراء خارجية الإمارات والبحرين والسعودية ومصر، ومشاركة الأمين العام لجامعة الدول العربية.
صحيح لم ترشح نتائج محددة عن الخلوة واللجنة، فقد جرت الوقائع فيهما بمنأى عن الوسائط الإعلامية المختلفة وغلب عليها خاصة في الخلوة طابع النقاش المفتوح غير الرسمي، ما أتاح الفرصة للتعبير عن كل الاتجاهات والمواقف من دون تحسب ولكنها - وفقاً لما أكده مسؤول عربي رفيع المستوى ل«الخليج» وضعت في اعتبارها خطورة استمرار السياسات العدوانية تجاه المنطقة، والتي بلغت ذروتها بالاعتداء على سفارة المملكة العربية السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد، الأمر الذي يستوجب وقفة صلبة مع هذا الجار الذي لا يتحسب لمحددات حسن الجوار أو قواعد القانون الدولي، التي تمنع التدخل في الشؤون الداخلية للأطراف الأخرى، فضلاً عن أنه يتجاوز الرابطة الإسلامية التي من المفترض أن تجعله قيمة مضافة لصالح القضايا العربية والإسلامية، وليس خصما من رصيدها مثلما يحدث في المرحلة الراهنة، لاسيما بعد تداعيات ما يسمى «الربيع العربي» التي عمل على توظيفها لتحقيق مصالح ضيقة له، متكئا على مفهوم راسخ لدى قياداته الدينية والسياسية وحتى البرلمانية بأن طهران تشكل المرجعية الأولى لطائفة محددة في دول المنطقة بينما ذلك غير صحيح. فالمواطنون «الشيعة» هم مواطنون بالدول التي ينتمون اليها بالأساس وليسوا تابعين بأي شكل من الأشكال لمرجعية قم، إلى جانب أن طهران فرضت رقمها على عدد من الأزمات الإقليمية استنادا إلى هذا المنطلق الطائفي، وتجليات ذلك سافرة في كل من العراق ولبنان وسوريا واليمن بل إن كبار مسؤوليها باتوا يعلنون شعورهم ب «الفخر» بأن عواصم هذه الدول العربية باتت تخضع للنفوذ الإيراني، الأمر الذي أخذ يشهد المزيد من التمدد والتعاظم مع إبرام الاتفاق النووي مع مجموعة 5+1 في شهر يوليو/تموز المنصرم والذي يرى البعض أنه استند إلى صفقة من نوع ما تقوم على توسيع قاعدة النفوذ الإقليمي لطهران، مقابل فك ارتباطها بالقنبلة النووية وهوما يحقق مصلحة الطرفين الموقعين على اتفاق فيينا.
وللتاريخ، فإن الأصابع الخفية الإيرانية وبالذات في منطقة الخليج ليست وليدة اليوم ولكنها تمتد - كما يقول الدكتور عمر الحسن رئيس مركز «الخليج» للدراسات الاستراتيجية ل«الخليج»إلى العهد الشاهنشاهي، فقد ظهرت أطماع إيران، بوضوح صبيحة الانسحاب البريطاني من المنطقة وظهرت دلائلها من موقف إيران من استقلال البحرين واحتلالها الجزر الإماراتية الثلاث في مطلع السبعينات.. ولقد استمرت تلك الأطماع بعد قيام الجمهورية الإسلامية، في أعقاب قيام ثورة عام 1979، تلك الثورة التي جاءت معها بأفكار تعكس الرغبة في الهيمنة على المنطقة مثل «تصدير الثورة» وظهرت تجلياتها بوضوح من خلال تدخلاتها الفجة في الشؤون الداخلية لدول المنطقة من خلال سياسات ومواقف معينة أخذت منحاً عدائياً، فضلاً عن استمرار موقفها المتصلب حيال أزمة الجزر مع الإمارات.
وبطبيعة الحال فإنه من الصعب فصل سياسة إيران التدخلية في دول الخليج العربية عن مجمل رؤيتها للمنطقة ودورها فيها، تلك الرؤية التي لم تختلف سواء في عهد الشاه أو عهد الجمهورية الإسلامية، وهي رؤية تقوم على اعتبار إيران قوة إقليمية مهيمنة، وأن منطقة الخليج ودولها تدخل في نطاق نفوذها، وترتبط ارتباطًا مباشرًا بالأمن القومي الإيراني، ويساعد على تبني هذه الرؤية السعي إلى تحقيق جملة من الأهداف منها:
* استعادة مجد الإمبراطورية الفارسية وإقامة دولة طائفية كبرى تضم معها مناطق خليجية، وكذلك جنوب العراق وسوريا ولبنان وهو ما اصطلح على تسميته ب «الهلال الشيعي».
* السيطرة على سوق الطاقة الدولية وهو ما لن يتحقق إلا بالسيطرة على الثروة الخليجية من النفط والغاز، خاصة وأنها تمتلك حوالي 10% من احتياطي النفط العالمي وتجيء ثانية في الاحتياطي العالمي للغاز ودول الخليج، كما ذكر آنفاً تمتلك 40% من الاحتياطي العالمي للنفط و20% من احتياطي الغاز.
* إضعاف المنافسين الإقليميين في المنطقة ولاسيما السعودية التي تنافسها على قيادة العالم الإسلامي، حيث تحاول إيران خلق المشاكل للمملكة سواء من خلال إثارة القلاقل الداخلية أو إشعال الأزمات بالقرب من حدودها كما حدث في اليمن وكان آخر مظاهر ذلك انتقادات نخبها الدينية والسياسية لإعدام مواطن سعودي رغم أنه كان ضمن مجموعة تضم 46 شخصاً من المدانين بالإرهاب وهو ما أشعل المظاهرات لدى نفر من الإيرانيين الذين سارعوا باقتحام وحرق كل من سفارة المملكة فى العاصمة طهران وقنصليتها في مشهد الأمر الذي ترتب عليه ردة فعل سعودية قوية تمثلت فى سلسلة من القرارات بقطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية مع إيران وساندتها الدول العربية والخليجية بإجراءات مماثلة.
* التأثير في سياسات دول المنطقة وذلك بوضعها دائماً تحت ضغوط، من أجل جعلها تحجم عن اتخاذ مواقف أو نهج سياسات معينة قد ترى فيها طهران إضرارا بمصالحها أو تهديدًا لأمنها القومي، وذلك من قبيل وضع العراقيل أمام حل القضايا موضع الخلاف بين الجانبين، واستخدام سياسة التهديد بضرب حقول النفط أو إغلاق مضيق هرمز .
* العمل على إفشال التجربة الوحدوية الخليجية، إذ ليس من مصلحة إيران وحدة دول الخليج العربية لأنها ستزيد من قوة هذه الدول سواء الاقتصادية أو العسكرية، لأن معنى ذلك خلق كيانا أو قطبا خليجيا مناوئا لإيران بالقرب من حدودها، ومن هنا كان رفضها من البداية لفكرة إقامة مجلس التعاون الخليجي بدعوى أنه موجه ضدها، كما أظهرت رفضا لمقترح العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبدالعزيز بإنشاء الاتحاد الخليجي، وأعلنت بصورة واضحة رفضها لانطلاق هذا الاتحاد مبدئياً بين المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين
* العمل المتواصل على إضعاف دول المنطقة ليسهل السيطرة عليها وذلك بالعمل على تمزيق وحدة نسيجها الوطني بإثارة النعرات الطائفية أو العمل على نشر أنماط معينة من الجريمة كتهريب المخدرات وغيرها.
وبالطبع فإن إيران سعت إلى تحقيق هذه الأهداف وظهرت تجليات ذلك في العديد من السياسات والممارسات والأزمات التي افتعلتها، وكان من بينها ما يلي:
- النشاط الاستخباراتي والتجسسي، فاستنادا لتصريحات دبلوماسي إيراني فإن الاستخبارات الإيرانية تقوم بتدريب شبكات سرية من العملاء عبر دول الخليج العربية، لإثارة الاضطرابات حال توجيه ضربة عسكرية ضد برنامجها النووي، وتشير تقارير استخباراتية إلى أن الخلايا الإيرانية في الدول الخليجية تنشط في جمع المعلومات عن المنشآت الاقتصادية والعسكرية والبنية التحتية ولعل كشف أحد كبار مسؤولي الحرس الثوري مؤخراً عن القيام بتدريب 200 ألف مقاتل إيراني ودفعهم إلى دول المنطقة وغيرها من الدول التي تشهد أزمات يعزز هذه الحقيقة بصورة قوية.
- تعليق إيران القضايا الخلافية، فطهران ما زالت ترفض حل القضايا الحدودية العالقة مع دول الخليج، وتستغلها لإثارة الخلافات معها، بدليل قضية الجزر الإماراتية التي ترفض أي مقترحات من جانب الإمارات لحلها بالطرق الدبلوماسية، وكذلك قضية الحدود البحرية مع قطر والكويت والسعودية والبحرين، فرغم أن هذه القضية في متناول اللجان الفنية للبت فيها، إلا أنها تواجه عثرات مصدرها إيران.
- إغراق دول الخليج بالمخدرات، حيث أحبطت الدول الخليجية العديد من محاولات تهريب المخدرات القادمة من إيران، كان آخرها إحباط السلطات الإماراتية في نوفمبر/تشرين الثاني 2011 عملية تهريب 213 كيلو جراماً من المخدرات قادمة من إيران، وإعلان الأمن السعودي في 2 ديسمبر/كانون الأول 2012 عن إحباط عملية تهريب 500 كيلو جرام من مخدر الحشيش تقف وراءها شبكة إجرامية تتخذ من إيران محطة انطلاق لها، فضلاً على إعلان مسؤول بإدارة مكافحة المخدرات بالبحرين في 29 ابريل/نيسان 2012 عن إحباط عمليات تهريب لأكثر من 100 كيلو جرام من الحشيش متورط فيها ستة من الإيرانيين.
- التورط الإيراني في اليمن، حيث كان لطهران دور في دعم حركة التمرد الحوثي، وذلك من أجل خلق مصدر قلق أمني بالقرب من الحدود الجنوبية للسعودية، مما تسبب في أزمة طاحنة في اليمن بعد أن تمكن الحوثيون من السيطرة على العاصمة صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014 ثم تمددها جنوبا حتى وصولها إلى عدن لفرض معادلة سياسية جديدة على البلاد بالتحالف مع الرئيس المعزول علي عبدالله صالح، لكن تشكيل التحالف العربي بقيادة السعودية والعضوية النشطة لدولة الإمارات والبحرين والكويت وقطر فضلاً عن الدول العربية المؤثرة كمصر والسودان والمغرب والأردن أجهض المخطط الإيراني في اليمن وتحققت تحولات نوعية باتت على إثرها قوات الشرعية على أبواب العاصمة صنعاء.