عند تقدير وضع الأقليم العربي سنكتشف ان الكثير من الامور قد تغيرت في العقود الماضية، فإقتصاديات النفط الهائلة التي سبحت على أمواج من الأموال والتي أدت لفرص تعليمية و بنى تحتية لم تعد بنفس القوة والزخم عام 2018. تلك الطفرة النفطية التي إمتدت أثارها لكل الدول والمجتمعات العربية ساهمت في تجميد السعي للتغير والتأقلم والإصلاح والديمقراطية في الدول العربية، لقد خلقت الطفرة النفطية منذ سبعينيات القرن العشرين حالة وهمية حول العمل وشروط النجاح الإقتصادي في معظم الدول العربية.
وعلى مر العقود تضاعف عدد السكان في الرياض كما وفي القاهرة و دمشق وبغداد وبقية المدن العربية، بينما الشعوب التي كانت بالأساس في معظمها من سكان الريف و الصحراء والبادية فقد زحفت أعداد كبيرة منها نحو المدن مما أدى للتكدس السكاني في كل الحالات والى إنتشار أحزمة فقر وبؤس في عدد كبير من العواصم والمدن العربية.
يكفي أن نستذكر بأن العرب في العام 1967 لم يتجاوز عددهم المائة مليون، واذا بهم اليوم في 2018 أكثر من 425 مليونا. لقد تغيرت طبيعة سكان الإقليم العربي الذي إزداد تنوعا بحكم المدنية والإختلاط والتعليم والتغيرات الإقتصادية. بمرور الوقت والعقود تغيرت تركيبة المجتمعات وهو ما إنعكس على تكوين الفئات والطوائف والطبقات والعلاقات بين الناس وخاصة بين من يملكون القوة السلطة ومن لا يملكونها.
هذا التغير الكبير في إقتصاديات المنطقة وطريقة الحياة ومستويات التعليم لم يقترن على الاطلاق بتغير في أسلوب القيادة و السياسة. إذ لازالت السياسة لدى العرب تقوم على إنعدام مشاركة الناس في شؤونها وقراراتها، ولازالت تتشكل الأنظمة العربية من رئيس سلطة تنفيذية غير منتخب يحيط به قلة من الأفراد غير المنتخبين ممن يقررون كل شيء باسم الشعب والناس والعموم. لازالت عادات السياسة في العالم العربي تقوم على إسكات المختلف وتهجيره، ومازالت عادة سجن الناقد و محاربة المحتج من قبل السلطات العربية مستمرة ليومنا هذا.
كل شيء تغير في البلدان العربية إلا حالة القمع والحريات وتلبية المطالب الديمقراطية. في رواية جورج أورويل 1994 نقرأ عن أجهزة لقراءة أفكار الأفراد، وعن دور الدولة و بوليس الأفكار. عالمنا العربي لازال أسير الإستبداد وبوليس الأفكار وفي هذا مقتله وسبب ترديه وسقوطه التاريخي.
لهذا تسير القاطرة العربية بلا هدى نحو مصيرها النهائي وذلك بسبب ضعف واضح في التأقلم مع مقتضيات الحقوق والدولة المسائلة. فحتى اللحظة لن ينجح النظام العربي في التعامل مع السياسة والحرية ومع التغير و إدارة التنوع، ومع التداول على السلطة والتداول على الرأي. إن عقم التفكير السياسي العربي انعكس على كل مؤسسات النظام العربي بما فيها مؤسسة الجامعة العربية ومؤسسة مجلس التعاون الخليجي.
قصة جمال خاشقجي تتويج للحالة التي وصل اليها العرب في 2018. ففي نظام عربي يعطي للمال والأبنية الشاهقة أكبر التركيز ويتعامل مع حرية البحث والمعرفة والرأي بصفتهم من أكبر الجرائم لن يكون فيه مكان للعلماء وللصحافيين والمعرفة. في اجواء كهذه يقتل مجتمع الاحرار وتصفى قيم النهضة وتندثر روح الإنجاز وتعم الرغبة في الهجرة. في هكذا نظام لا مكان لنصح حاكم، لا قيمة لحوار مفتوح أو للكتاب مفيد. منذ ايام اعتقل في مصر مؤلف كتاب لانه سأل السؤال هل فعلا مصر دولة فقيرة؟ في نظام عربي كهذا تصبح كل القيمة للتفاهة و الطاعة و لصفقات أسلحة مليارية، بل ترتفع حالة التحريض على المختلفين الذين يمثلون بشكل او بآخر الأمل الوحيد للنظام العربي للخروج من محنته.
قبل خمسة عقود توفر للعرب قادة عرب من أصحاب الرؤية، وهذا يتناقض مع ما هو قائم اليوم، هؤلاء القادة الذين برزوا في خمسينيات وستينيات القرن العشرين كانوا بنفس الوقت مناصرين للتغير والتقدم ومؤمنين بالإستقلال الوطني، لم تكن مشاريعهم مغموسة برائحة الفساد والدم كما هو حاصل في 2018. بل كان النظام العربي قد إنبثق في شكله الاولي من رحم العروبة وهزيمة فلسطين ولهذا حمل معه روحا وطنية وصدقا مع النفس قلما نجده في الساحة العربية اليوم. النظام العربي الذي تطور بعد الحرب العالمية الثانية كان متصادما بنسب مختلفة مع الإستعمار والإستغلال والصهيونية، كان ذلك النظام بنفس الوقت نتاج تطور سابق لفكرة العروبة، ولهذا بالتحديد كان متعطشا للتعليم والبناء ومحو الأمية.
في خمسينيات وستينيات القرن العشرين برز في الإقليم قادة، رغم الكثير من أخطائهم، إلا أنهم تحلوا بالصدق وحس الإنجاز والإنتماء كالرئيس السابق جمال عبد الناصر في مصر والملك فيصل بن عبد العزيز في السعودية والشيخ عبد الله السالم في الكويت وصولا لشكري القوتلي في سوريا. هؤلاء القادة وأمثالهم كانوا صانعي المراحل الأولى في تشكيل النظام العربي.
الخطأ القاتل الذي وقع فيه النظام العربي هو إكتفاؤه بما تحقق في الماضي من استقلال وبدايات الدول العربية الحديثه. لم يطور النظام العربي نفسه، لم يصلح حاله، لم يفتح حوارا يستند لضرورة بناء قوة حقيقية مكونة من الشعب وتنوعه ومكانته. بل تراجع النظام العربي في العام 2018عن فكرة الإستقلال، واصبح ضعيفا امام الغرب كما وإسرائيل التي بدأت تخترقه وتنتهزه من كل جانب. بل أصبح النظام العربي في نسخته الاخيرة مدمنا على السلطة لأجل السلطة، وأصبح خائفا خاصة منذ 2011 من الشعب والقوى الإجتماعية الجديدة التي برزت بسبب التعليم والتحديث. النظام العربي في شكله الراهن يمنع الكلمة الحرة ويشرع الفساد محولا اياه لأسلوب في الإدارة وفن في البقاء في السلطة. لقد أفلس النظام العربي عندما اصبحت معركته الأهم الوقوف امام زحف التاريخ وحرية الإنسان العربي.