في كل مرة تعطينا إسرائيل درسا في معاداة الإنسان، مهما كانت ادعاءاتها التي لم تعد اليوم تقنع أحدا سوى آلة المحو التي تنتهجها، محو الذاكرة، ومحو كل أمل في حلول سلمية، تبنّاها ترامب منذ سيره في طريق الحلم الصهيوني الذي أصبح خطرا ليس على فلسطين ولكن على الإنسانية، لأنه بلا ذاكرة ، أو بذاكرة نفعية ومنتقاة.
لم يزدها الهولوكست الذي كان جريمة موصوفة ضد الإنسانية، إلا غطرسة وتحديا وسيرا نحو الانتفاء والإصرار على محو العبء الفلسطيني تحديدا الذي لم ينتف مع الأجيال كما كان قادة الصهيونية يتصورون، ولكنه زاد اشتعالا على الرغم من استشهاده اليومي في المعابر، الأحياء، والانتفاضات دفاعا عن حق الأرض والعيش الكريم عليها، كما جميع البشر.
فجأة يحل البياض محل ذاكرة الضعيف المنكسر الذي سرقت منه إنسانيته في الحرب العالمية الثانية، ويتحول إلى طاغية يقوم بالفعل نفسه الذي كان ضحية له مع الآلة النازية البغيضة التي سحقت الملايين من الأبرياء فقط لأنهم يهود.
هناك شيء في الإنسان لم يتغير غراما واحدا وهو العودة الدائمة l’éternel retour بالمعنى النتشاوي، الذي يعني ببساطة أن فكرة الاعتبار بالتاريخ ليست إلا كلمة لا قيمة كبيرة لها. كأنه محكوم على البشرية بالدوران الأبدي حول النقطة نفسها، وإعادة إنتاج قيم الإفلاس والظلم والتقتيل الإجرامي ومؤسسات الحكم اللإنسانية التي كانت وراء تبادل المواقع، المقتول يصبح قاتلا والظالم يصبح مظلوما. بل إنّ نفس المجموعات الدينية أو الإثنية، أو جزء منها في سياق تطورها، أن تعيد إنتاج نفس توحشها. مع أن إسرائيل تتبجح أمام المؤسسات الدولية، باحترامها لحقوق الإنسان والقانون بوصفها الديمقرطية الوحيدة في الشرق الأوسط، كما تدعي. مازالت إلى اليوم تطارد النازيين بأسمائهم بالقتل والاختطاف، بلا قانون أبدا، حتى وهم في أواخر أعمارهم لأنهم كانوا وراء الهولوكست مع صمت دُولي مطبق ضاربة بعرض الحائط القانون الدُّولي. وها هي تنتج هوولوكستا جديدا ضحيته هذه المرة الفلسطينيون الذين لم يكونوا أية جريمة تاريخية ضد الإنسانية، ولا يد لهم في الهولوكوست الذي عرفه اليهود، سوى الدفاع عن أرضهم وعن حقهم الوجودي.
لا تتوانى عن المطاردة، وقتل الأطفال من حملة الحقائب وليس السكاكين كما يدعي الإعلامي الصهيوني أو المتهين ماليا، وإبادة الأحياء، بمختلف الوسائل الإجرامية السرية التي لم ينج منها حتى ياسر عرفات، كما تدل على ذلك التحليلات المخبرية الأوروبية الأخيرة، بالخصوص المخابر السويسرية. يفعلون مع القادة الفلسطينيين أو الشخصيات العالمية التي لا تقف بجانب الماكنة الصهيونية الجهنمية التي لم تغير من سياستها منذ وعد بلفور الظالم.
المسألة ليست كلاما. أصبح اليوم الدفاع عن الفلسطيني كمن يدافع عن قضية خاسرة سلفا مثل الهنود الحمر التي طمستها أمريكا نهائيا بالقتل والمحو والتشريد والمحتشدات. مع أن فلسطين التي تحولت اليوم بمدنها وحاراتها وتاريخها، إلى مجموعة من المحتشدات والغيتوهات المسيجة ليلا ونهارا، ليست قضية وطنية أو قومية فقط، ولكنها قضية الإنسان في مواجهة ضميره.
إن الفترة المصاحبة لطرد شعب بكامله من أرضه، ليست بعيدة، وأبطالها ومجرموها لا يزال الكثير منهم أحياء. لا يمكن أن نجد الأعذار للصمت الأممي على الممارسات الإجرامية أمام حالة شعب أصبح اليوم معرضا للإبادة، وعلى مرأى من العالم. والتهديدات الأخيرة التي أصبح يطلقها ليبرمان، أحد أكبر عنصريي الإيتابلشمنت الإسرائيلي تبين بشكل واضح درجة الغطرسة.
بعد أن انتهت من تحييد الخطرين العراقي والسوري لم يبق أمامها إلا التفكير في احتلال المزيد من الأراضي العربية. هذا النظام التوسعي تربى في العنصرية التي فرضتها الأيديولوجيا الصهيونية التي سخرت الدين كوسيلة لتعميق الخلاف وجعلت من القومية والدين شيئا واحدا. ونعرف سلفا أنه ليس شرطا أن يكون كل يهودي صهيونيا.
بعد فكرة الدولة اليهودية الغريبة التي تربط المواطنة بالدين بهدف تفريغ فلسطين من سكانها الأصليين والتخلص نهائيا من فلسطينيي 48 أو فلسطينيي الداخل الذين يشكلون شوكة في حلق إسرائيل، وجدت في فكرة الدولة اليهودية، حلها العنصري. وهذا يعني أن كل من ليس يهوديا، يصبح أجنبيا قابلا للطرد في أي وقت، واستبدال الجنسية بوثيقة إقامة للفلسطيني في أرضه.
أبارتيد حقيقية، غير مسبوقة. ثم جاء قانون الإعدام لكل من يفجر نفسه أو يغتال إسرائيليا، وكأن تهديم مساكن أهالي منفذي العمليات ورميهم في العراء، لم يعد كافيا.
ردة فعل بعض الحاخامات المتطرفين كانت الرفض ليس بسبب الحاسة الدينية الإنسانية في جوهرها، ولكن خوف آن يمس ذالك اليهودي. بعد الدين، جاءت نظرية الملامح العنصرية البائدة التي تفترض الذكاء في الجنس الأبيض وما عداه، فهو في رتبة الحيوان.
صورت الأفريقي المتوحش المضاد للحضارة إلا بترويضه. وحاولت ان تقربه من القردة لتثبت أن هناك عينات لا يمكنها أن تتطور. ووضعت العربي ضمن خانة التوحش واللاإنسانية بالتركيز على الفظاعات الإرهابية التي مست المسلم قبل غيره. وهناك مخابر تشتغل على ذلك وليس ما أقوله مجرد آراء معزولة. وجعلت من قضية المناضلة الفلسطينية وأيقونتها الجميلة الشابة عهد التميمي، ميدان بحثها.
فحاولت المؤسسة العنصرية الصهيونية أن تثبت أنها ليست عربية وليست فلسطينية أصلا وأنها قادمة من أرض أخرى أو مجرة غير الأرض أو المجموعة الشمسية. وكأنه مقدر على المقاوم أن يكون بصورة المتوحش التي صنعوها له، لإثبات النظرية العنصرية المشكلة لنواة الفكر الصهيوني. تصريح نائب وزير الخارجية مايكل أورن شكك في هُوية عائلة التميمي وأن هذه العائلة غير موجودة طارحا سؤاله الغريب: هل « عائلة التميمي» حقيقية ، أم جرى اختلاقها من مجموعة من الممثلين جرى انتقاؤهم بسبب لونهم الأبيض وشعرهم الأشقر وقبعاتهم المقلوبة للتسويق في الولايات المتحدة، لكسب التعاطف «. هل يعقل أن يصاب الإستبليشمنت الإسرائيلي بهذه الفوبيا من عهد لمنع تكون الأيقونة وانتشارها بين الشباب؟ وهل يمكن لعنصرية الأصول والجذور أن تصل إلى هذا الحد المرضي لدرجة اعتبار هذه الصبية الفلسطينية الجميلة المقاومة، غير فلسطينية. مجرد ممثلة تم اختيارها لشعرها الأصفر لتأدية دور المنتفضة، واختبار صبر العسكري الإسرائيلي المصفوع. في زمن آخر، انقرض اليوم وانتهى، كانت تصريحات عنصرية بامتياز كهذه، يعاقب عليها القانون الدولي لأنها نازية آرية في جوهرها، كما حدث في أفريقيا الجنوبية .
*عن القدس العربي