هذا المشهد القاسي وهذه التوصيفات تجعلنا نستعيد جزائر لم تعد اليوم موجودة، غابت وتحولت إلى رماد. قد يكون للإرهاب دور كبير، وقد تكون السياسات المتبعة منذ الاستقلال وصلت إلى سقفها بعد أن تربت في رحمها الاشتراكي شتى المصالح الخاصة القاتلة. لكن للفساد المستشري الدور الأهم، بل إن الأحداث الأخيرة تبين بما لا يدع مجالا للشك أن الجزائر على حافة مخاطر كبيرة، محلية ودولية، قد تعصف بها في أية لحظة نحو المجهول إذا لم يتم تدارك الوضع في وقت قصير.
الجبهة الاجتماعية مهيأة لكل العواصف الخطيرة، وتضارب المصالح لأجنحة النظام تسرع من وتيرة تفكك اتفاقات المصالح المشتركة. والإصلاح يستوجب تكسير الكتلة الخميرية الجافة والصلبة التي تتحكم في الإدارة ومختلف مؤسسات الدولة التي بدأت تموت تحت الإنهاك والتسلط الإداري.
فضيحة الكوكايين، 701 كلغ، المعلن عنها قبل شهور، التي ضبطت في ميناء وهران، لم تكن أمرا عاديا يمكن تخطيه بسهولة، فقد هزت أركان الدولة أو بقاياها، وليس البارونات فقط هم الذين كثيرا ما يخططون سلفا لكل شيء، ويقومون بمحو كل من يعترض طريقهم على طريقة المافيا الصقلية.
مافيا حقيقية نبتت في رحم النظام الاشتراكي، أو ما سُمِّي كذلك، وعندما تم تحرير التجارة الخارجية كانت أول من استولى على أسواق الاستيراد. والكثير من الجرائم السياسية ظلت معلقة. اغتيال الرئيس محمد بوضياف جاء منقذا، كان يملك كل الإمكانات التي تؤهله لذلك، الشرعية الثورية ونقاء اليد. وعندما بدأ بضرب مواقع مافيا تهريب الأسلحة، وتبييض المال وألقى القبض على كبير مهربي الأسلحة يومها في مهمة خاصة، الحاج بتو. المحصلة، اغتيال الرئيس بوضياف أمام ثلاثين مليون جزائري، وإن بعض الذين اشتركوا في تفكيك بعض مراكز المافيا السياسية المالية لاقوا المصير نفسه، والسؤال من أين جاءت هذه المافيا المالية السياسية؟ مع ما يحدث اليوم أمام أعيننا، يتأكد لنا أنها مافيا مهيكلة وفق مصالحها المتحركة، وصديق اليوم يمكن أن يصبح عدو الغد.
كارثة 701 كلغ كوكايين، وما نجم عنها من تغييرات تبين أن الأمر لم يكن هينا أبدا ولم يكن وهما، ولكنه الحقيقة عينها. وما كان يروى في صمت الكواليس أصبحت أجهزة الدولة نفسها، أو بقاياها، هي التي تتحدث عنه لضرب جهة معينة أصبحت مهددة لمصالح الجهة الثانية. حتى الأحزاب التي كان يفترض أن تحدث توازنا مقاوما لخطاب الجمود والتكليس الذي تبنته السلطة، دخلت في الجوقة متخلية عن المصالح الحيوية للشعب وأصبحت تدور في فلك النظام، ولم تعد لها أية قدرة على المبادرة وتجديد الخطاب سوى التقرب من الجهاز الرسمي وإعادة إنتاج ضعفه وحيله.
أصبحت الأحزاب نفسها مجموعات متواطئة لتعرية الجزائر من كل إمكانات الدفاع عن وجودها. وكلما تذكرنا تاريخ الجزائر والثورة الوحيدة في العالم العربي التي أكلت عشر سكانها، وكانت مرشحة لتكون النموذج العربي في التحول والتطور على نمط إفريقيا الجنوبية، ننسى دائما أن الجزائر كان ينقصها مانديلا مجرد من أي مصلحة إلا المصلحة الوطنية العليا، فهذا رجل عرف كيف يستفيد من إمكانات البلد كلها، ويتصالح مع ماض شديد القسوة والتعقيد، ويحوله في مصلحة شعب جنوب إفريقيا سودا وبيضا. لم يعد إنتاج عنصرية الآبارتيد بشكل عكسي. خرج مانديلا، أو أخرج نفسه من دائرة صراع الأجهزة وأنقذ البلاد من حرب أهلية كانت تدق بعنف على الأبواب، ولكن الذي حدث في الجزائر شيء آخر للأسف.
بدأ الاستقلال بأزمة صائفة 1962 والصراع بين الحكومة المؤقتة، المدنية، وبين جيش الحدود الذي كان يقوده العقيد هواري بومدين، وانتهى لصالحه، وانقسمت الولايات العسكرية الثالثة والرابعة مع الحكومة المؤقتة، والأولى والثانية، مع جيش الحدود. وتم تحييد الحكومة المؤقتة، وانتزعت السلطة المدنية لتصبح السلطة العسكرية هي الأساس ويرتسم قدر آخر غير القدر الأول والطبيعي، ثم تلاها انقلاب هواري بومدين ضد أول رئيس جزائري بعد الاستقلال. ومهما كان، فالأشياء لا تقاس بالنيات الحسنة، ولكن بمآلاتها. ثم تلا ذلك الانقلابات الفاشلة، ومحاولات الاغتيالات، والاغتيالات التي ذهب ضحيتها قادة كبار، منهم مهندس اتفاقيات إيفيان، التي كان من نتائجها استقلال الجزائر كريم بلقاسم، الذي اغتيل في ألمانيا. لقد رسم الأخوة الأعداء من يومها الخط التراجيدي للجزائر. ويحتاج المواطن الجزائري، قبل أن يتصالح مع عدو الأمس، إلى أن يتصالح مع نفسه وتاريخه، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بمعرفته للحقائق المخفية التي يمكننا من خلالها فهم ما يحدث اليوم.
ماذا بقي من تاريخ ما يزال إلى اليوم طي الكتمان؟ فبكل ثورتها العظيمة، أصبحت الجزائر لا تختلف في شيء مطلقا عن بقية الدول العربية، لقد انضمت في وقت مبكر إلى النادي العام الذي تكفي لمعرفته قراءة المؤشرات الأساسية: الديمقراطية، والتداول على السلطة، والمواطنة، واستقلال العدالة، وحيادية المؤسسة العسكرية في الصراعات السياسية، ووضعية المرأة في المجتمع، والمستوى المعاشي والمعرفي للشعب. كل هذه المؤشرات اليوم في الأحمر عربيا وجزائريا أيضا.
لا تبدو قصة 701 كيلو من الكوكايين غريبة، فهي جزء من التآكل العام للدولة ودخول مجموعات مالية في اللعبة السياسية في هيئة رجال أعمال على شاكلة الحاج يتو، والخليفة، والبوشي. مفهوم طبعا أن رجل الأعمال في الجزائر له معنى خاص، لا ينفق مع المتداول عالميا، ولا ينفق مليما واحدا من ماله، «من لحيته وبخر له» كما يقول المثل الشعبي. يأخذ ماله من الدولة ويشتري الفنادق التي بنتها الدولة بالدينار الرمزي، ويسبق لشراء المصانع التي دفعت إلى الإفلاس. باستثناءات محدودة لم نسمع بقطاع خاص استثمر في شيء عظيم، وكان منتجا ومتفوقا. فهو إذن محكوم بعقلية النهب الوطني، الكل يحمي الكل.
أليس غريبا أن تعبر سفينة وعلى متنها 701 كلغ من الكوكايين المتوسط بكامله باتجاه وهران وما من أحد هناك يوقفها؟ من أين جاءت الكوكايين؟ في أي ميناء شحنت؟ أي مدى بلغه التواطؤ وطنيا ودوليا، حتى تمر كما الرسالة في البريد؟ وعلى الرغم من سقوط أسماء وازنة في المؤسستين الكبيرتين، والأكثر تنظيما، العسكرية والأمنية، ما يزال السر والكتمان يلفان هذه القضية لأن ضخامتها تتجاوز تهريب المخدرات لتمس جوهر الدولة وكيانها.