بين أحلام الأمس وواقع اليوم ثمة سياج عازل من الفولاذ الصلب يمنع التقاء الطرفين الذَين يجدر بهما الاتحاد، فالواقع وليد الحلم والحلم سبيل للواقع، فمن التآزر والتآلف المحمود إلى التناحر والفراق المذموم، ومِن تحقُّق الحلم في الواقع إلى مجرد مغازلته في جنبات المنام وأوقات الشرود.
خالد طفل القرية الطموح، المليء بالأمل، تعود على الاستيقاظ مبكرا ليجوب جبال بلدته متنفساً هواءها العذب وجوها الجميل، نشيط كالنحلة لا يكاد يمر بزهرة إلا اشتم رائحتها الفاتنة يأخذ من رحيق الريف والبيئة الخلابة ما يجعل سيرته تعانق الجبال الشماء وتناطح الرواسي الغنّاء.
إنه لفتىً نبيل، لا يخلو يومه من ترانيم الكتاب المقدس، ومطالعة أنوار السيَر، ومجالسة النبلاء ذوي كريمِ الأثر، الأول في الصدارة، يعلو كل أقرانه بجدارة، اشتهر بين أهله وأصدقاىه بالفتى الملتزم لذلك هو في نظرهم متشدد، غير أن الجميع يخبره أنه يتمنى أن يكون ابنه مماثلاً له في كل شيء.
لذلك أحبه الناس إلا ثلة من الناقمين لأسباب عديدة، منها أنه ذو لسان فطن وقلم غزير يفضُل أبناءهم الذين يبلغون معه نفس العمر.
إنه فتى القرية الفقير، تمر السنة لا يمتلك فيها "مائة ريال" إذ كانت تعدل "نصف دولار" واحد، فضلاً أنه الفلاح الخبير بأمور الزراعة والأرض والحراثة، وهي ما أكسبته شخصية قوية ممزوجة بالصبر والبأس والتحمل.
يحدث أمه دائماً عن العلم والانتقال من مستواه العادي في القرية كطالب فقير الحال، لا يجد مدرسة تحفزه على النجاح أو معمل كيميائي وفيزيائي يساعده على الابتكار، أو جهاز كمبيوتر طالما كان يأمل أن يقتنيه ليستفيد من مطالعة الكتب الإلكترونية ليكون عالماً ينير الديار، متمنياً حيازته على منحة ليكمل دراسته خارج قريته وفي "المدينة" تحديداً كي يعود لبلده رافعاً قبعة التخرج ليرفع معها رأس والدته التي كانت هي أول من شجعه على المضي في سبيل العلم والمعرفة.
طالما أنشد الحلم وبذل قصارى جهده لينال منحة دراسية راجياً التخفيف على أسرته من تبعات دراسته، فوجد أول الحلم ولكنها لم تكن تكفي احتياجاته، ومع ذلك فقد كابد الحياة ولم يأخذ من أسرته إلا الشيء القليل.
كم كان طموحه كبير، وأمله في إنقاذ والدته التي تعاني من أمراض عديدة جراء العيش في حياة الجبال والزراعة والمشقة والحمل الثقيل، حاول بكل إرادته أن يكون مصدر فتح مبين لأسرته من ظلم الحياة وقساوة الزمن وجور المستبدين، لكنه لم يستطع، فما كان يمتلكه خالد لا يكفيه لسد حاجته.
تمر الأيام وإذا بالحرب يدور رحاها وتزداد ضراوة لتطحن صغار البشر وفقراءهم -ومنهم خالد- الذين يُهضمون بسرعة ويتحطمون بدورة واحدة، بينما الكبار ذهبوا بعيداً وتغلبوا على عجلة الرحى فازدهر حالهم وقوي مقالهم، وزادوا ثراء حد الغنى الفاحش.
لم يتوقف المشهد هنا فقد كان خالد أمام دراما جديدة، فمن حامل حلم للعودة إلى مساندة والدته المسكينة إذ به يودعها إلى حيث لا عودة، إنه المنفى، هروب بلا إياب وموت دون قبر، وهجرة حيث لا أم ولا أنيس ولا حنان يشد قلبه ويقوي ساعده.
لقد فقد رائحة أمه وصوتها الذي يدفعه نحو القمة، ودفئ كلماته التي تجبر خاطره وتشد أزره، لقد فقد نبع الحنان الذي كان يصب في محيط قلبه وعينيه فكان غنياً مع فقره، واليوم أصبح فقير المشاعر ودفئها فقير الحال، ومن حلمه بأن يكون سنداً لأمه إلى الواقع الذي أجبره أن يعيش مأساة الحلم بلقائها ولو على رأس كل خمس سنوات على الأقل.
هذا هو حال خالد الشاب، ولربما صار رجلاً راشداً ولم يصل إلى حلمه بعد، حال دونه سياج من الظلم والظلام، حال دونه قوم يشبهون يأجوج ومأجوج، يتعطشون لأموال الناس وينهبونها كأنما يشربون "بحيرة طبرية" فتصير قاعاً صفصفاً، جاؤا من أطراف الأرض ليهتكوا العرض ويقتلوا الأبرياء وينهبوا البسطاء.
هذا ليس حال خالد فحسب، إنما حال الملايين من الشباب الذين يعيشون في تلك الديار، بل إن أقرانه اليوم ومن ظل في تلك الديار لم ينج من المدلهمة البائسة إذ زحف عليهم طوفان الإجرام من ميليشيات الإمام حيث يقبعون، اكتفوا بالقليل من العلم أو ما يمكنهم من القراءة والكتابة حتى أصبحوا فريسة الجهل والشبهات، كان الظالم لهم بالمرصاد، استدرجهم من حيث لا يعلمون فأحدهم اليوم جريحاً مقعداً أو مشلولا أو تحت التراب صريعاً مجندلا، ومن بقي منهم فإنه حال لا يحسد عليه، يرى الغربة أجمل وطن غير أنه لا يقدر عليها، فالفقر قد أنهكهم والجوع قد طوى صفائحهم ومزقهم، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ويأكلون الفتات من حلال، لقد نالوا من حياة خالد "بحذافيرها" ولربما أشد منها وقعاً وكآبة.
هذه هي الحرب وهذا هو حال البلد الحزين وهنا يحضر قول المتنبي وهو يصف لوعة الشوق وتعب الهجر:
أُغالِبُ فيكَ الشَوقَ وَالشَوقُ أَغلَبُ
وَأَعجَبُ مِن ذا الهَجرِ وَالوَصلُ أَعجَبُ
أَما تَغلَطُ الأَيّامُ فيَّ بِأَن أَرى
بَغيضًا تُنائي أَو حَبيبًا تُقَرِّبُ
وَيَومٍ كَلَيلِ العاشِقينَ كَمَنتُهُ
أُراقِبُ فيهِ الشَمسَ أَيّانَ تَغرُبُ
حتى وصل:
أَلا لَيتَ شِعري هَل أَقولُ قَصيدَةً
فَلا أَشتَكي فيها وَلا أَتَعَتَّبُ
أخيراً، سيعلو صوت الحق والحقيقة، وستعود المياه إلى مجراها وإن لم تكن أم خالد في سلام فستكون أمهات الخالدين جميعاً في سلام وأمان وإلى واقع يعانق الأحلام دون حواجز أو عوائق، والقادم أجمل.