تعز المدينة جفّت.. لم يعد في جوفها ما يكفي من المياه لسكانها المليون. مشروع المياه الحكومي توقف مع بداية الحرب. ومن حينها اعتمد السكان على مياه الأبار التجارية (شراء مياه الاستخدام اليومي). الآن، هاهي ستة اشهر تقريبا مرت دون أمطار.
 
اشتدت الأزمة اكثر خلال الاسابيع الثلاثة الأخيرة. اليوم وبعد أربعة أيام من الحجز والتواصل وازعاج جارنا، مالك شاحنات بيع صهاريج المياه (وايت)، حظيت بنصف صهريج (1,500 لتر)، بخمسة الآف ريال- بوساطة- الحمد لله.
 
وصلت الشاحنة الساعة التاسعة إلا عشر دقائق صباحا. هنا بدأت مشكلتي الأخرى: من سيقوم بمهمة سحب أنبوب الضخ البلاستيكي بحبل من الأسفل الى الأعلى لأربعة طوابق. كان علاء أبني يقوم بهذه المهمة دائما بالتعاون مع أصدقائه، لكنه الآن بالمدرسة، وسائق الشاحنة يهدد بتركي خلال دقائق إن تأخرت. لم اجد مساعدا من الشارع ولو بمبلغ مالي. واخيرا اتخذت اشجع قرار: لا بد أن احصل على هذه المياه، وسأبذل كل ما أملكه من جهد للحصول عليه؛ سأصعد سطح المنزل وحدي لسحب البايب البلاستيكي لضخ المياه لأربعة طوابق. ففي هذه اللحظة القاسية من حياتي، اختفى الجيران. وعندما صعدت السطح بحذاء مقطوع وجرم علاقي وفوطة قديمة(لزوم المعركة)، شعرت ان هناك نسوة يختلسن النظر من نوافذ بعض الشقق في العمارة الطويلة المطلة على سطح منزلنا، المستأجر بالطبع، وشعرت ان الرجال يختفون ورائهن، والجميع يتطلع لمعرفة ما سيفعله هذا الأربعيني المتعب، العائد لتوه من عمله منذ امس، وما زال بلا نوم حتى الآن.
 
انها فرجة لبيبة بالنسبة لهم، وستكون معركة كسر الظهر بالنسبة لي إذن، ولقد قررت بذل المستحيل كي أبدو قويا وعزيزا واحصل على المياه بمفردي مهما كان الثمن..
 
صعدت جدار السطح المرتفع فوق برميل فارغ وبدأت بسحب الحبل الممتد أربعة طوابق، كوّمت البيب البلاستيكي اسفل مني لعدة دوائر بعضها فوق بعض، ثم نزلت من الجدار وسحبت ما توفر لي مسافة عشرون مترا الى صهريج المياه الخاص بشقتي، لم اصل بعد، عدت مرة اخرى لتكرار العملية (هل يسخرون الآن أولئك المتخفين وراء الستائر؟)، حتى وصلت اخيرا الى فوهة البرميل، صرخت من موقعي البعيد هذا بأعلى صوتي: "شغيييييييييللللللللللل". لحظات ودار المحرك، ثواني حتى تدفق الماء وكان خريره أروع صوت اسمعه منذ فترة.
 
ولدي مجد (3 سنوات ونصف) قام ببطولات كبيرة هو الاخر، سحب برميلي مياه، (كل واحد منهما سعته 50 لترا) من المنزل الى السطح (مر بقرابة 15 درجة صعودا ومثلها نزولا لمرتين)، ورغم هذا الانجاز الذي ما كنت اتوقعه على الاطلاق، إلا أني اهملت تشجيعه بالطريقة التي يستحقها، لإنشغالي بنشوة النصر وقتل متعة المتفرجين من وراء جُدر.
 
انتهت المعركة، نزلت من السطح متماسكا، وبمجرد ان اختفيت من الأنظار، تقوس جسمي، وبدأت امشي بالحركة البطيئة من الدرج الى المنزل. دلفت الباب وبحثت عن السرير ببطء شديد، وتسللت اليه بهدوء، ويدي خلف ظهري. الآن اشعر بذلك الألم الشديد أسفل الظهر الذي ظللت اتعالج له على مدى شهرين، من طبيب الى آخر، قبل أكثر من نصف عام.
 
يا الهي.. هل سيعود حقا؟
 
مغمض العينيين، استرجعت شيئا من تفاصيل معركة المياه، التي انتهت قبل دقائق ب(كسر الظهر).
 
كان الشيء الوحيد الاكثر اثارة هذه المرة، أني استوعبت الآن فقط ما قام به طفلي الصغير "مجد" من بطولة. فتحت عيني بقوة وصرخت " مجددددددد" هرع مسرعا من غرفة التلفزيون، نحوي. احتضنته بشدة وقبلته على خديه بعمق، وقلت له " أحسنت يا بطلي".
 
ابتسم وعاد لمتابعة قصته المفضلة "ماشا والدب".

* نقلا عن صفحة الكاتب