لم تشفع قرابة أربع سنوات من التحالف والشراكة العسكرية والسياسية مع مليشيات الحوثي، للرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح؛ فلقي مصرعه على أيدي حلفائه خلال يومين فقط من إعلانه فض تحالفه معهم!
بين الشراكة والصراع
عمليا، يرجع تحالف الحوثي/صالح إلى مطلع عام 2014 مع اندلاع المعارك المسلحة في محافظة عمران (140 كم شمال العاصمة صنعاء)، لكنه ظل تحالفا خفيا حتى تم اقتحام الحوثيين لصنعاء يوم 21 سبتمبر/أيلول 2014، فبدأت معالم هذا التحالف الثنائي البراغماتي تتضح أكثر، ليصبح حقيقة لا لبس فيها مع استكمال انقلابهما على السلطة الشرعية برئاسة عبد ربه منصور هادي مطلع 2015.
وفي منتصف مارس/آذار 2015، وسّع الطرفان عملية السيطرة نحو بقية المدن الجنوبية لتغرق البلاد في حرب داخلية شاملة لم تنته حتى اليوم، رغم تدخل السعودية على رأس تحالف عربي من عشر دول، هدفه المعلن: إنهاء الانقلاب وإعادة الشرعية في اليمن. وفي خضم المآسي المتوالدة عاما بعد آخر، اغتال الحوثيون شريكهم الوحيد علي صالح؛ فهل يمثّل مقتل الرجل -الذي شكل جزءا كبيرا من الكارثة اليمنية- فرجا قريبا أم سيضاعف الجراح؟
على مدى السنوات الثلاث الماضية، وخصوصا الفترة الأخيرة (إلى ما قبل اغتيال صالح يوم 4 ديسمبر/كانون الأول الماضي)؛ كان أحد الأسئلة التي تراود كثيرا من المهتمين هو: مَن الطرف الأقوى بين حليفيْ الانقلاب: صالح أم الحوثي؟ وكان لهذا السؤال ما يبرره من حيث إنه:
- يقوم أساسا على فرضية أن أحد الحليفين لا بد من أن يلتهم الآخر في نهاية المطاف، نظرا لخلفية هذه الشراكة وللأسباب الاستثنائية غير الإستراتيجية التي قامت عليها.
- كما يقوم أيضا على إدراك حقيقة أن صالح -الشهير بالتلاعب والانقلاب على حلفائه بعد استنفاد غايته منهم- هو أصلا على رأس قائمة المطلوبين لدى الحوثيين، بسبب ست حروب خاضها معهم ولقتل قواته مؤسس الجماعة حسين الحوثي شقيق زعيمها الحالي، مما يعني أن تحالفه التكتيكي معهم لم يكن ليعفيه من الثأر الذي يعد أحد أركان الفكر الشيعي الذي نشأت عليه الجماعة أصلا.
لذلك ظل هذا السؤال يبرز كلما نشبت بين الشريكين خلافات سياسية أو إدارية أو تنازعا بشأن السلطة والمصالح، وهي أمور تضاعفت أكثر خلال الأشهر الأخيرة.
في بداية الشراكة، كان كثيرون -بينهم صالح نفسه- يعتقدون أن ميزان القوة كان يميل إليه مقارنة بشريكه الجديد الحوثي، وذلك عندما نقارن بينهما وفقا للمستويات الأربعة الأكثر أهمية والتي تحدد مصادر القوة المؤثرة في اليمن، وهي: العسكرية، والقبلية، والشعبية، والإدارية.
كان هناك رأي آخر لا يتفق تماما مع تلك الفرضية، على اعتبار أن صالح كان فقد كثيرا من قوته المؤثرة بشكل متوالٍ وتدريجي: ابتداء من ثورة فبراير/شباط 2011، التي قضمت جزءا لا بأس به من قوته (مستويات القوة الأربعة المشار إليها سابقا) بسبب الأحداث والجرائم التي ارتكبها؛ ومرورا بخلعه من الحكم مطلع 2012، والدخول في هيكلة الجيش وإطلاق مؤتمر الحوار الوطني.
كيف انتهى صالح؟
فما الذي حدث إذن حتى تآكلت قوة "الراقص على رؤوس الثعابين" في اليمن؟ ليكون هو الحلقة الأضعف في أولى مراحل التصفيات المسلحة -التي كانت متوقعة- بينه وبين شريكه الذي أدخله بيديه، ونقله بقوته من مساحته الصغيرة المحصورة في محافظة صعدة النائية (242 كم شمال صنعاء) إلى العاصمة صنعاء، ومن ثم بدأ التمدد والتوسع والسيطرة على بقية المحافظات اليمنية.
هناك تفاصيل كثيرة ودقيقة لكننا لسنا بحاجة إلى معظمها، ولذلك سنوجز الإجابة بالحديث عما نراه أكثر أهمية، وبما يساعد في الربط مع بقية المحاور الأخرى المتبقية. فإلى جانب تلك المرحلة السابقة التي أشرنا إليها؛ هناك مرحلتان أخريان أوصلتا صالح إلى هذا الضعف والعجز الكلي، ليسقط بالضربة القاضية في أول جولة من معركة النار، هما:
1- مرحلة التحالف الخفي: منذ بداية تحالف الحوثي/صالح مطلع 2014 فضل صالح ممارسة "لعبة التخفي" واللعب مع الجميع بما في ذلك المجتمع الدولي، قاصدا بذلك استخدام جماعة الحوثي الفتية والطامحة للسيطرة -بمقاتليها العقائديين- في تصفية خصوماته السياسية.
راقت لمليشيا الحوثي "لعبة صالح" هذه، فاستغلتها سريعا وبشكل ذكي في تمكين نفسها وبسط سيطرتها إداريا وعملياتيا على معسكرات الجيش التي كانت تتساقط في أيديها بدون مقاومة، وفي الحقيقة كانت تُسلم لها طوعا من قواته ومواليه والمعسكرات والسلاح.
2- مرحلة الحرب العلنية: مع مطلع 2015 استكمل الشريكان انقلابهما على السلطة الشرعية بصنعاء، ومنح ذلك الحوثيين امتيازات جديدة أخرى أكبر وأوسع في الاستحواذ على جزء كبير من معسكرات العاصمة وأسلحتها الضخمة، بينما تقاسموا النفوذ والمساحات في صنعاء مع شريكهم صالح.
وجاء التدخل العسكري للتحالف العربي في 26 مارس/آذار 2015 ليزيد أكثر حاجة طرفيْ الانقلاب لهذه الشراكة وتمسكهما بها، الأمر الذي ترتب عليه تمديد صالح للعبته وتقديمه المزيد من التنازلات لتمكين حلفائه من السيطرة أكثر، كضريبة لترسيخ الثقة المتبادلة لإنجاح الشراكة والمواصلة سويا ضد العدو المشترك.
وبمجرد انكشاف صالح وظهوره جزءا رئيسيا من الانقلاب وتدمير البلاد لمصلحة هذه المليشيات التي تسعى لاستعادة "الإمامة" البائدة؛ خسر عددا من قادته العسكريين وقيادات وأعضاء في حزبه، وبعض زعماء العشائر والمناصرين، واحتضن معسكرُ التحالف والشرعية عددا كبيرا من هؤلاء المنشقين والمتحولين.
بحلول منتصف 2017، نجحت مليشيات الحوثي في تمكين نفسها أكثر من إدارة السلطات المحلية بمناطق سيطرتها، وأصبحت أغلبية قوات صالح وموظفي حزبه يعملون تحت قيادتها. بعد أن كانت فرضت هيمنتها على مصادر الدخل المالي المتاحة، واستنزفتها لمصلحتها باسم دعم "المجهود الحربي"، مما جعل معظم ضباط وجنود صالح يتخلون عنه نهائيا ويقاتلون تحت إدارة الحوثيين المالكين لميزانية الجيش.
لم يستمع صالح إلى الشكاوى التي كانت تصله من قياداته في المحافظات، إلى أن وجد نفسه في عزلة كانت قد بدأت تفرض عليه شيئا فشيئا، ليُحصر أخيرا في مربعه العائلي والعسكري بالعاصمة صنعاء.
ومع زيادة التكهنات بوجود صلات بين صالح ودولة الإمارات؛ ارتفعت حدة الخلافات بينه وبين الحوثيين الذين رفعوا وتيرة تحرشهم به في صنعاء، وضيقوا على تحركاته هو وقواته حتى حدثت مناوشات اضطُر بسببها صالح إلى إعلان فض شراكته معهم ومغازلة التحالف العربي، ومنحت هذه الخطوة الحوثيين مبررا قويا لقتله بتلك الطريقة المأساوية بذريعة "الخيانة".
مصير إرث صالح
مبدئيا وبالنظر إلى ما سبق؛ يبدو الحديث عن وجود إرث حقيقي مؤثر لصالح أمرا مبالغا فيه، كما زادت عمليات الحوثيين التأمينية الواسعة -عقب مقتله- (مطاردات واعتقالات وإعدامات.. إلخ) إضعاف "إرثه" المفترض. ومع ذلك، سارعت كافة الأطراف الفاعلة إلى محاولة استمالة واستقطاب ما تبقى من هذا الإرث الافتراضي؛ فمن سيحوز النسبة الكبرى من هذا الإرث؟
بشكل عام، يمكن القول إن أولئك الذين اكتشفوا أنهم مخدوعون وتعرضوا للخيانة من شريكهم يُفترض أنهم سيتجهون إلى صف الشرعية والتحالف لتعزيز القضاء على عدوهم الحقيقي، أما الذين اشتراهم صالح بالمال والمنصب فسيبحثون لهم عن مشترٍ آخر يدفع أكثر. أما أولئك المترددون الخائفون فسينتظرون أكثر حتى تنقشع الغمة وتتضح الرؤية ليحددوا مصيرهم.
لكن الأمور لا تسير على هذا النحو دائما؛ ولذلك سنفكك أهم قوتين افتراضيتين من هذا الإرث المحتمل:
- بالنسبة للجيش: حتى الآن، لم تحدث انضمامات معلنة يعتد بها إلى معسكر الشرعية؛ كما أن قوات صالح -المفترضة والموزعة في المحافظات الأخرى- معظمها ما زال يقاتل جنبا إلى جنب مع الحوثيين.
وعمليا قد لا يمكن التعويل عليها، فلو كانت قادرة على اتخاذ مواقف مؤثرة لتحركت بمجرد دعوة صالح إياها -قبل يومين من مقتله- للانتفاض ضد الحوثيين. أضف إلى ذلك، أنها أصبحت حاليا بدون قيادة عُليا تتلقى منها أوامرها، وهي عمليا تستلم رواتبها من وزارة الدفاع التي يديرها الحوثيون.
وهناك أمر آخر مهم، وهو أن هذه القوات خضعت طوال السنوات الثلاث الماضية لتعبئة ممنهجة ضد الأعداء الرئيسيين لليمن "العدوان السعودي/الصهيو/أميركي، والعميل عبد ربه هادي، والمنافقين المرتزقة: الجيش والمقاومة"، وبالتالي فمن الصعب إقناعهم الآن بأن قواعد الاشتباك تغيرت، فأصبح العدو حليفا والعكس!
لذلك تبدو هذه القوات خارج التعويل عليها للقيام بدور ما في المستقبل باستثناء قلة قليلة جدا من عناصرها، وأغلبهم من الضباط المدركين فداحة ما قامت به الجماعة خلال الفترة الماضية من تدمير ممنهج لأسس الدولة، قبل أن يختتموا ذلك بقتل زعيمهم الملهم. وهؤلاء أغلبهم قد لا يكون بأيديهم شيء للقيام به، حتى هذه اللحظة على الأقل.
- بالنسبة لحزب المؤتمر: المؤشرات التي ظهرت حتى الآن توحي بأنه مقدم على التشظي، وأفضل الاحتمالات أن يستقر به الحال عند ثلاثة أجنحة. فإلى جانب القسم الذي اقتضمه الرئيس هادي مع بداية الحرب، هناك قسمان جديدان: قسم شكلته مؤخرا مليشيات الحوثي في صنعاء باختيار نائب رئيس الحزب صادق أمين أبو راس رئيسا للحزب خلفا لصالح؛ والآخر تدعمه الإمارات تحت قيادة أحمد نجل صالح، ومعظم قياداته موجودون في الخارج.
ومع أنه ستتخلى شريحة عريضة من "المؤتمر" عن العمل الحزبي مفضلة السكوت والانزواء بعيدا عن السياسة؛ يبقى هناك أمر لا بد من التطرق إليه لأنه يتعلق بمصير قسميْ الشرعية (هادي) والتحالف (الإمارات). والسؤال هو: ما فرص أن تقوم الإمارات بتسليم ما ستنتزعه من هذا الإرث إلى هادي باعتباره الرئيس الشرعي للحزب في مقابل فرص المضي به بعيدا عن الشرعية اليمنية؟ كما فعلت مع الحراك الانفصالي في الجنوب.
هناك مؤشرات ترجح الخيار الثاني، بل إننا قد نشهد انتقالات كبيرة من مؤتمر هادي إلى مؤتمر الإمارات! وستسعى الأخيرة إلى قيادة هذه الكتلة كبديل لهادي في حكم اليمن بعد انتهاء الحرب.
وأخيرا؛ هناك من يرى أن مقتل صالح أفسد طبخة إماراتية كان هدفها غسل جرائم صالح بإعادته إلى مشهد الشرعية كمقاوم للحوثيين، في طريق التمهيد لتمكين نجله أحمد. لكن هناك من يرى أيضا أن ما حدث قد يكون أفضل للإماراتيين من حيث إنه اختزل المراحل، فأصبح بالإمكان استغلال الحدث للتسويق والترويج للنجل.
لكن ستبقى هناك عقبات دولية وميدانية؛ وبافتراض أن الإمارات تمكنت من تجاوز الاختبار الدولي بشطب اسم أحمد علي من قائمة العقوبات الدولية، إلا أن الاختبار الحقيقي سيبقى ماثلا على أرض الميدان.
وهنا يبرز السؤال: هل سيستطيع هذا الرجل -المعروف بعزلته الجماهيرية منذ كان قائدا للحرس الجمهوري، وقد زادت بإقامته خمس سنوات بعيدا في أبو ظبي- عمل ما لم يقدر عليه والده الملتصق بتفاصيل الجيش والمليشيات والجغرافيا؟ وهل ستستطيع الإمارات -بهذه الشخصية الضعيفة والمفتقرة للكاريزما- تحقيق ما عجزت عنه طوال السنوات الثلاث الماضية؟
عمليا، يُرجَّح أنه لا هي ولا هو سيستطيعان إضافة قوات كبيرة مما يسمى الحرس الجمهوري إلى قوام الجيش المقاتل ضد الحوثيين. لكن هذا لن يمنع أبو ظبي من مواصلة تحقيق مشروعها الخاص في اليمن، عبر استخدام الرجل أو أحد إخوته واجهة إعلامية وكأنه يقود تلك القوات التي قامت هي بتدريبها سلفا، وليس قوات الحرس الجمهوري الخاصة به.
ويبقى السؤال المطروح هو: ما المتغير المؤثر هنا الذي يُفترَض أنه سيقلب موازين المعادلة السابقة لتحريك الجبهات وتحقيق الحسم العسكري؟ الإجابة هي أنه لا شيء واضحا أكثر من أن الإمارات تواصل إجراء تجاربها في اليمن، بعيدا عن مفاتيح النصر الثابتة.
*عن الجزيرة نت