كنت ادرس في مدرسة الزبيري في النسيرية فترة مسائية و عندما اقفل عائدا الى البيت مع العصرية كان الجو دافئا في العادة و العطش شديد فاشتري ماءً باردا في كيس بلاستيكي من بائع متجول بربع ريال او عشرة فلس، ثم اشتري من بائع اخر بسكويت ويفر مثلث و كنت اشعر بلذة لا متناهية عندما اكمل الويفر ثم اشرب الماء، كان ذلك في الصف الثالث تقريبا، كنت اسرع للعودة الى البيت لالعب مع اولاد الحارة و فيهم من جيراننا، بيتنا كان في شارع فرزة شرعب و هو شارع صغير متفرع و متقاطع مع شارع ٢٦ و يمتد نزولا الى شارع جمال و يقطع شارع جمال الى منطقة المسبح ، الشارع كان في اعلاه يغلق ببيوت ال الدميني، و هو نفس البيت الذي تربى فيه جيراننا الاخوة الشهداء الذين تم تصفيتهم في سمارة، ذلك اليوم خيم حزن شديد على بيتنا و على الحارة كلها و رأيت ابي حزينا كما لم اره من قبل، لقد كانا خريجين جديدين، و الجميع يرى فيهما شيئا كبيرا فكيف يقتلان بكل هذه البساطة، كان خالي صالح و خالي محمد يستأجران بيتين متجاورين يقفلان الشارع تماما الا من طريق مشاة الى شارع خلفي و البيتين مملوكان للدميني و اظنهما في الاصل بيت واحد تم فصله الى بيتين صغيرين و ملاصقين لبيت المالك ، خالي محمد شقيق امي و خالي صالح ابن عم امي و متزوج شقيقة امي و شقيقة خالي.
كنا ثلاث اسر ابناء عمومة فابي ايضا ابن عم جدي لامي، لم تستمر الجورة طويلا فتفرقت ايدي سبأ ففي حين ظللنا نحن في النسيرية انتقل خالي محمد الى بيت جديد جميل في اسفل المسبح امام جبل الضربة تماما، البيت بناه مغترب يمني في بريطانيا، في نفس الحارة كان يسكن المناضل الكبير حسين عثمان عشال الذي اختار تعزا منفا اختياريا بعد ان سطى لصوص الثورات على ثورة ١٤ اكتوبر و قتلوا و سحلوا و سجنوا و شردوا كل من ساهم بحق في دحر الاستعمار و يبدو لي ان ذلك كان شرطا انجليزيا على من سلمتهم بريطانيا الحكم في الجنوب، عودا الى بدء، ففيما انتقل خالي محمد المسبح فان خالي صالح انتقل الى خلف شارع ٢٦ سبتمبر بجوار مصنع الاصنج للحلويات، كان اول مصنع اراه في حياتي، كنا نتسرب الى داخل المصنع لنحصل على بعض عجينة الحلويات الطازجة مجانا، كان العمال في غاية الطيبة لا يردون الاطفال الفضوليين ابدا، خلف منازل الدميني كان هناك عائلة لديهم سينما صغيرة و كان يجمعون الاطفال و يفتحون افلام رسوم متحركة و طبعا مقابل مبلغ زهيد عادة نصف مصروف العصرية، كانوا كرماء و ظرفاء و اعتقد انهم كان يخسرون و يتعبون كثيرا من هذا الاستثمار الجميل الذي لم يستمر طويلا نتيجة فشله اقتصاديا، كانت اول مرة ارى فيها السينما التي امتعضت جدا عندما تم ايقافها و سألت الاطفال الا يوجد سينما غيرها، اجابوا نعم و لكنها بعيدة و خطيرة، بعيدة!!!
نعم بعيدة انها سينما ٢٣ يوليو هناك خلف المقوات و السايلة و طبعا بالنسبة لنا معشر الاطفال فان المكان بعيدا جدا تقريبا ٣٠٠ متر و ايضا عبور المقوات و السايلة خطيرا جدا و مغامرة كبرى، و اما سينما ٢٣ يوليو ذاتها و الاساطير حولها فامر يجعل من ذهابي اليها و دخولها ضربا من المستحيل، غضضت النظر عن امر السينما الى حين و انشغلت باللعب مع اقراني من عيالي خالي محمد و هم انور و مصطفى و اما مختار فلم يولد بعد، و عبرت الضربة ذلك المكان الاسطوري و حينما تعبر بين جبلين فهي مغامرة كبيرة و جميلة و شيء كبير كانوا يحذرونا منه، طبعا لعبنا لعبة الحرب مع حارات المسبح العليا و ذهبنا الى المسبح نتفرج من خارجه و الحقيقة ان ابي لم يكن فقيرا بحال بل كان ميسورا جدا و تاجر معروف و يمتلك عدد من السيارات لكن الدخول الى المسبح او الذهاب الى السينما امر ممنوع علينا فنحن بياضنة و هذا يلقي علينا مسؤوليات من نوع ما لم اكن افهمه، فرغم ان الاموال متوفرة لكن ايضا فامي و قريباتي ممنوعات من امور كثيرة و من التسوق، حتى ان جاراتنا المتقدمات لاحظن الفرق بين غنانا و حالتنا البسيطة في كل شيء، و في تلك الايام المبكرة تزوج ابن خالتي و ربيب والدتي عبدالرحيم صالح بفتاة جميلة جدا من بنات تعز المدينة القديمة و خريجة ثانوية و ذلك امر كبير جدا و على درجة عالية من الثقافة و الرقي، و تعلق بها رحمه الله تعالي الا ان خالتي و خالي لم تعجبهم ابدا بسبب الفارق الحضاري و الثقافي و رغم تمسكها الشديد بزوجها فقد كان مثقفا و ذكيا و كريما و شجاعا جدا الا انهم اجبروه على الطلاق، اضطر الى اللجوء الى امي خالته او امه الحقيقية كما كان يسميها و الى ابي الذي كان يعامله كابنه، لعلهم يحمونه و مكث عندنا مع زوجته الرائعة فترة لم تطل اذ اعتبرا خالي و خالتي ذلك حالة عداء و حرب و في الاخير تدخل خالي محمد و لم ير بدا من الطلاق فعلاقتنا كاسرة فوق علاقة زوجية طارئة و لا يمكن نخسر بعضنا من اجل فتاة و لقد ضلت هذه القضية مؤثرة في خالي صالح و زوجته حتى مات الجميع رحمهم الله جميعا.
لم استطع تعلم القراءة في الصف الثاني و لا حتى الثالث و مع منتصف السنة الثالث الابتدائية كنت الوحيد في الصف الذي لم يقرأ بعد و السبب انهم كلهم تخرجوا من الكتاتيب الا انا لم ادخلها الا لايام و كرهتها بسبب عصا المعلم الاعمى الدي كان يضرب ضربا عشوائيا، بدأت في ذلك الوقت في مغامرة اختراق المقوات المجاور و السائلة و الوصول الى سينما ٢٣ يوليو و جدت عالما اخر، لوحات اعلانات الافلام العربية و الهندية بالوانها الجذابة، و باعة الكتب على الرصيف، و باعة كل شيء، لم يكن المال يمثل لي مشكلة فالوالد كريم و الوالدة روؤم و كنت العب لعبتي معهم و اخرج بمصروفين لليوم الواحد خصوصا في العصرية فالوالدة في البيت او في زيارة لصديقة او جارة او قريبة، كان لدينا جيران من كل اليمن تقريبا و من البيضاء ايضا و اذكر من البيضاء عائلات الجروي و محنف و عرار و البحار و هناك من ردفان و يافع ...
عودا على بدء هناك على رصيف سينما ٢٣ يوليو تعلمت القراءة اي و الله لم افك الخط لا في المدرسة و لا في المعلامة و لا حتى في المسجد، هناك على الرصيف رأيت كتاب جميل و بالوان جميلة و صور كثيرة، كانت رواية مغامرات العميل ١٣ او الرجل المستحيل، اشتريتها و ذهبت للبيت و قتلني الشوق لمعرفة ماذا فيها، الصور شدتني بقوة، تهجيت بقوة و حشدت كل ما تعلمته عن الحروف سنوات و كانت المفاجأة لقد لقد لقد قرأت و فهمت و تسارعت مهارتي في القراءة في ايام لاجد نفسي في عوالم من الخيال و المتعة و المغامرة و المعرفة، عوالم عرفتها بالقراءة و لا سبيل اليها غير الكتاب، فلا سينما متاحة و لا تلفزيون و حتى الراديو لم اعرفه حتى حينه، ان القراءة هي مفتاح كل المتع لي في حينه، و انطلقت اقتني ما ينفع لي كطفل و ما لا ينفع حتى وصل الامر لشراءكتاب الف ليلة و ليلة الدي وجدته مملا و كتب في التراث لم افهم منها حرفا و كتب اخرى و ايضا مجلات ميكي ماوس و سمير و و و .
لم يستمر مكوثنا في بيوت الايجار الذي لم تخرج من النسيرية الا مرة واحدة في شارع جمال و كان الحدثين الاهم في ذلك البيت هما دخول التلفزيون اليمن و شراء الوالد رحمه الله لنا تلفزيون و طبعا صغيرا وبلا الوان و هو المتاح في السوق و لا يوجد غيره و لكنه كان جميلا و لم نكن نفارقه منذ الافتتاح الساعة ٤ بالسلام الجمهوري حتى النهاية الساعة ١١ بالسلام الجمهوري ايضا، في حينها كان النشيد في ظل راية ثورتي، الحدث الاهم الاخر هو قدوم ابن عمي عبدالقادر عبدالله من السعودية في اول عودة له من الغربة و رغم انه لم يمكث عندنا الا يوما و غادر الى البيضاء و ربما لم يعطيني حتى هدية الا اني فرحت لقدومه فرحا عظيما.
و للامانة لا اجد تفسيرا لذلك الفرح الطفولي الى اليوم، كما اسلفت لم يلبث شباب البيضاء المهاجر في تعز في بيوت الايجار طويلا اذ قاموا ببناء عمارات و شقق فقد كان اليمن يعيش نهضة اقتصادية كبيرة في ايام الحمدي، فبنى صديق الوالد المقرب حسن حسين الجروي رحمه الله عمارة من دورين محلات في الارضي و شقتين في الدور الاول و سكن في واحدة و الاخرى سكن فيها الوالد و لا ادري هل كانت ايجارا او مجانا لكن ما اعرفه انهما كان صديقين و اذكر حادثة في ذلك البيت فقد رجمت ابنة جارنا حسن الجروي بحجر في جبهتها و خرح الدم بغزارة و كأن الضربة اصابت عرقا و لم ارتعب في حياتي كرعبي ذلك اليوم و تركت الرجم علامة على وجهها و ظلت تذكرني بجريمتي، و من حسن حظي ان والدي قد اتم بناء عمارته الخاصة و التي انتقلنا للسكن فيها، و غير بعيد بنى خالي محمد عمارته الخاصة و لكنه لم يكمل البناء في الدور الثاني فقد عاجله الاجل رحمه الله ، خالي صالح كان رافض لفكرة ان يبني خارج البيضاء لكنه كان يكثر من شراء الاراضي و لكنه بنى عمارة كبيرة بعدة ادوار في منتصف التسعينيات، و انتعشت تعز و الاعمال فيهاو تم استكمال بناء ميناء المخا الجديد و انتعشت الاراضي في المخاء و عشية استشهاد الحمدي اشترى الوالد ارضا كبيرة على الشارع العام في الحديدة بمبلغ ١٦٠ الف ريالد يمني و هي ثروة كبيرة في حينه و بعد عدة ايام استشهد الحمدي و لم يعد لها قيمة تذكر لقد علم الجميع ان العهد الجديد سيميت تعز و المخا و الى اليوم لم نستفد من تلك الارض و ضاعت ثروة كبيرة في رمال المخا..بعدها غادر الوالد تعز للابد و عاد للبيضاء.