[ صورة لمتخرجين يمنيين من الجامعات ]
عاش مرحلة عصيبة أصيب خلالها باليأس بعد انسداد أفق الحياة أمامه عقب تخرجه من كلية الزراعة في العام 2018، وانحرامه من درجته الوظيفية كمعيد في الكلية على الرغم من تفوقه وإحرازه للمرتبة الأولى على دفعته وعلى القسم بمجمله.
دخل -على إثر ذلك- في نوبة إحباط شديدة استمرت لأشهر لم يخرجه منها إلا إيمان أسرته به، بعد تعرضه لنكران ذاتي مُني به من قبل عمادة كلية الزراعة، التي منحت فرصته لطالبة أخرى ضمن دفعته، وجرى اعتمادها كمُعيدة عبر واسطة افتقر لها معد دماج (27 عامًا) أحد المعنيين بهذي القصة.
حقوق مسلوبة
وخلال الخمس السنوات الماضية، وجد العشرات من متفوقي جامعة صنعاء أنفسهم في أتون البطالة كباقي الخريجين، بعد حرمانهم من الامتياز الذي ظلت الجامعة تمنحه طوال الفترة الماضية للمتفوقين، المتمثل في اعتماد أوائل الدُفع كمعيدين في كلياتهم ومنحهم فرصا لاستكمال الدراسات العليا.
بيد أن الاختلال الذي منيت به جامعة صنعاء خلال الفترة الأخيرة بفعل الحرب وتعدد السلطات الحاكمة في البلاد، حال دون مضيها في هذا الإجراء الذي يقضي باعتماد الأوائل كمعيدين، باستثناء بعض الكليات (قليلة جدًا) لا تزال ماضية بهذا الإجراء، حيث تقوم باعتماد درجات وظيفية للمعيدين لكن دون رواتب ودون الحقوق الأخرى المتعلقة بمِنح الدراسات العليا.
يشكو دماج في حديثه لـ"الموقع بوست" من تعرض حقوقه للاستلاب في كلية الزراعة، حيث لم يشفع له تفوقه وإحرازه المركز الأول على دفعته وعلى القسم الذي انخرط فيه الموسوم بـ(محاصيل حقلية) بتقدير إجمالي (91.37 بالمئة)؛ في أن يصبح معيدا في الكلية ويحظى بفرصة لاستكمال دراساته العليا كما كان يرجو.
استلاب
اضطر دماج مؤخرًا للعمل في أحد مصانع البِفك (مُنتج للأطفال)، في صنعاء، بوظيفة لا تقع ضمن تخصصه وبراتب ضئيل، وكان قد عمل قبل ذلك نادلا في مطعم في ذات المدينة، مدفوعًا بالاضطرار الذي تفرضه استحقاقات الحياة في الواقع المعيش المفخخ بالحرب في اليمن.
يبدو دماج اليوم متشائما من فكرة البقاء في هذا البلد وقد تبدد طموحه الدراسي الذي ظل يُعدّ له منذ سنوات، ويقول إن ما يؤلمه اليوم بشدة هو تعرضه للظلم بشكل مكشوف من قبل عمادة كلية الزراعة التي منحت فرصته لإحدى زميلاته في الدفعة رغم عدم تفوقها.
ويؤكد أن عمادة كلية الزراعة منحت درجته الوظيفية لإحدى زميلاته بالدفعة بشكل اعتباطي، حيث جرى اختيارها من خارج دائرة المتفوقين، عبر الواسطة التي حظيت بها الطالبة داخل أروقة عمادة الكلية، في مخالفة صريحة للوائح جامعة صنعاء التي تقضي باعتماد الأول في الدفعة الدراسية مُعيدًا في الكلية.
لكن عمادة كلية الزراعة نفت في تصريح مقتضب لـ"الموقع بوست" فكرة إقصاء دماج من درجته الوظيفية، متهمة إياه بالتقاعس عن إتمام الإجراءات الإدارية اللازمة لاعتماده كمعيد في القسم الذي تفوق فيه.
دروب بديلة
لجأ بعض المتفوقين من خريجي جامعة صنعاء خلال السنوات الخمس الأخيرة إلى الهجرة، بعد انحرامهم من الامتيازات (الحقوق) التي ظلت الجامعة تمنحها لهم خلال سنوات ما قبل الحرب، حيث فضّل العشرات منهم الهجرة بحثا عن فرص أخرى لمواصلة دراساتهم العليا، بيد أن صعوبات شتى اعترضت الكثير منهم، خصوصًا أولئك النفر الذين صوبوا أنظارهم باتجاه أوروبا.
أصيل البريهي (26 عاما)، ضمن أوائل الدفعة المتخرجة في العام 2019 بكلية الحاسوب جامعة صنعاء، يجد ذاته اليوم عالقا في ماليزيا بعد عامين على مغادرته اليمن، وأمامه مشاكل كثيرة ليحظى بفرصة سفر إلى ألمانيا بقصد استكمال دراساته العليا هناك.
صعوبات
يعتزم البريهي الهجرة إلى ألمانيا، بعد انسداد أفق الحياة في اليمن وانعدام فرص العمل والمناخ الملائم لاستكمال الدراسات العليا في البلد، الأمر الذي دفعه لترجيح خيار السفر إلى ألمانيا -رغم صعوبته- عقب تخرجه من كلية الحاسوب في العام 2019.
يعمل أصيل حاليًا على تحضير اللغة الألمانية في ماليزيا بعد انتهائه من تحضير الإنجليزية، وتعد اللغتان شرطا لقبوله في إحدى جامعات ألمانيا، بيد أنه يجد ذاته اليوم وسط عقبات كثيرة عليه تجاوزها كلها ليحظى بفرصة سفر إلى ألمانيا.
يتساءل البريهي اليوم فيما إذا كان قراره صائبًا في الهجرة، ولا يحير جوابًا، لكنه يواصل العمل على مشروعه في السفر إلى ألمانيا، ويحاول التغلب على شعوره بالإحباط الذي مُني به طوال العامين الماضيين الذين قضاهما في ماليزيا للإعداد للهجرة، بيد أنه يؤكد أنه لو كان فضّل البقاء في اليمن فلن يكون مصيره إلا الضياع والتشتت، لذا يكثف جهوده لإنجاح المشوار الذي اختاره.
"طريقة السفر الشرعية إلى أوروبا باتت اليوم مُعقدة جدًا، وكل محطة تقصدها في درب الهجرة ترتبط بعشرات المحطات الأخرى التي تتطلب أشهر من الإعداد لاجتيازها، وعليك في الأخير اجتيازها جميعًا"، يقول البريهي بإحباط. ويبدو مُحبطا من فكرة الهجرة التي اضطر لخوض غمارها قبل عامين لينجو من بلده الذي طحنته الحرب.
يوضح البريهي في حديث لـ "الموقع بوست" أن أغلب السفارات الأوروبية وضعت مؤخرا شروطًا قاسية أمام الراغبين في الحصول على تأشيرات دخول إلى بلدانها، لا سيما اليمنيين، حيث تتعامل معهم كقادمين من بلد يطحنه الحرب وتفرض لهذا السبب شروطا مضاعفة للموافقة على دخولهم إلى أوروبا.
ولكي يحظى الطالب اليمني بفرصة سفر -بحسب البريهي- يجب عليه أولاً أن يضمن حسابًا بنكيًا في أحد بنوك ألمانيا، ثم استيفاء متطلبات اللغة التي يُشترط فيها مستوى معيّن على أن تتم دراستها في أحد المعاهد المعتمدة لدى السفارة الألمانية، إضافة إلى توفر ملفا جنائيًا نظيف السمعة، ثم استصدار قبولا جامعيا من إحدى الجامعات الألمانية التي سيكون على الفرد إقناعها، قبل دخوله البلد، بجدارته للحصول فرصة للدراسة فيها.
لا تزال هناك الكثير من المراحل على البريهي اجتيازها، وحتى اليوم لا يزال في مرحلة تحضير اللغة، وثمة عدد من المراحل عليه اجتيازها، لكنه يتخوف -منذ الآن- من احتمال أن يُقابل بالرفض في الأخير بعد اجتيازه كافة المراحل، ويكون قد أهدر سنوات من الإعداد دون جدوى. هذا خوفه الأكبر الآن في ماليزيا.
لم يعد خيار الهجرة اليوم سهلاً أمام الطلاب اليمنيين، خصوصًا إلى الدول الأوروبية، ذلك أن الدول باتت توصد أبوابها أمامهم على اعتبار أنهم قادمين من بلد مفخخ بالصراعات، الأمر الذي يجعلهم في محل شك دائم، ويجب عليهم دوما الإثبات أنهم يملكون مشاريع واعدة من خلف دخولهم إلى أوروبا ولا يسعون خلف فكرة اللجوء فحسب.
هذا الأمر أصاب البريهي بالصدمة، ويقول إن العالم على اتساعه اليوم وتعدد خياراته بات محكوما بمعايير لا تتناسب مع تطلعات الحالمين، وبات يثير هذا التعقيد لدى طالبي الهجرة اليمنيين سؤالا مؤرقا: إلى أين أتجه؟، ليجد اليمني نفسه في مواجهة مباشرة مع أسوأ مخاوفه بعد ضياع بلده نتيجة الحرب.
تبدُد داخل الوطن
يختلف المشهد كليًا إذا ما أردنا مقارنة واقع خريجي الجامعات اليمنية الذين اضطروا للبقاء في اليمن بأولئك الذين قرروا خوض غمار الهجرة -وهم قلة- أو يعملون لأجله، ذلك أن الفئة الأولى باتت تعيش اليوم حالة من التبدد الذاتي والانهدار بعد خسارة المستقبل المروم وانهدام الطموحات المرجوة من مغامرة التعليم في بلد مفخخ بالصراع.
يعيش خريجي الجامعات اليمنية داخل الوطن اليوم، حالة رثائية طافحة بالبؤس والاغتراب ناتجة عن الفجوة التي باتت تفصلهم عن واقع لا يرفق بالحالمين، بينما يُحدقون في مستقبل عاجز عن التحقق كما يجب في بلاد مُعممة بالخراب وتغرق في فوضى لا حدود لها.
لم يتمكن أغلب خريجي الجامعات -حتى المتفوقون منهم- من اقتحام سوق العمل في مجالات تقع ضمن تخصصاتهم الدراسية، لانعدام الفرص بسبب العطالة التي تشهدها البلاد، ولم يستطيعوا أيضًا التخلي عن أحلامهم والانخراط في دروبا أخرى بديلة للاستمرار في الحياة، وباتوا عالقين في مستقبل غير مُتحقق ولم يعد مرسوما سوى في أحلامهم، وعلى إثر ذلك باتوا عرضة للإحباط وشتى أنواع الاختلالات النفسية بعد خسارة أسمى ما كانت تصطخب به ذواتهم المتمثل في "الأحلام".
مصائر مُعلقة
في السياق، يتخوف والد الخريج فيصل عبدالعالم السبئي، (62 سنة) من احتمال تدهور صحة ولده النفسية بعد ثلاث سنوات على تخرجه من كلية الهندسة بجامعة صنعاء، على إثر حالة مقلقة من الانطواء استحال إليها الشاب مؤخرًا نتيجة الإحباط.
أنهى فيصل (29 سنة) مشواره الجامعي في التخصص الذي فضلة "هندسة مدنية" في جامعة صنعاء في العام 2019، لكنه لم يفلح -بعد بحث مظن- في العثور على فرصة عمل في تخصصه ليعود إلى منزل أسرته الريفي (شرقي تعز) يائسا وخائبًا، يعتريه شعور مُمِض بالذنب والخيبة تجاه والده الذي كان يعقد عليه الكثير من الآمال الواعدة افترض أن يحظى بها ولده من خلف تعليمه الجامعي، كعادة كل الآباء في الريف.
جاهد والد فيصل المنتمي لمديرية صبر الموادم (شرقي تعز) كثيرًا، وتحمل مشقات عديدة في جمع المال من مهنته الوحيدة المتمثلة في زراعة "القات" (نبتة مُخدرة)، لتوفير تكاليف تعليم ولده على مدى خمس سنوات، آمِلا تعويض أمواله تلك في مستقبل واعد كانت تقود إليه شهادة الهندسة قبل اندلاع الحرب، لتفقد حظوظها خلال السنوات الأخيرة بسبب تعطل حركة التنمية في اليمن.
يبدو عبدالعالِم السبئي اليوم مُحبطا من المصير الذي غدا عليه ولده المهندس الذي تعطلت حظوظه في الحياة التي كان يأمل، لكنه يبذل جهدا لكي لا يُدرك الشاب ذلك خشية على سلامته النفسية.
"لو كان هاجر للعمل في السعودية بعد أن أنهى الثانوية كما فعل ولد عمه لأفلح"، بلهجته الشعبية البسيطة يتحدث السبئي لـ "الموقع بوست"، طارحًا مفارقة مُرة بجملة واحدة تلخص بؤس "التعليم الجامعي" وقد غدا مصيرا مُحبطا لأجيال من خريجي الجامعات في بلد مشؤوم كاليمن.
أما فيصل فلم يكن يحسب لمآلات مشؤومة كهذه حين وطأت قدماه جامعة صنعاء لأول مرة في العام 2014، وكان يعقد آمالا واسعة على تعليمه الجامعي، لكنه يجد نفسه اليوم عاجزا عن التصرف وبلا مصير يحفظ حلمه وكرامته، ويرتطم دومًا بواقع قاس لا يغفر للحالمين سقوطهم مهما كانت الأسباب، وهو يواصل السعي للعثور على آفاق للنجاة لكن مستقبل عتيد وبلا انفراجات ينتصب أمامه كلما حاول التقدم.
لا يمثل فيصل السبئي حالة إخفاق فردية بقدر ما يعكس ظاهرة مأساوية يقع ضمنها عشرات الآلاف من خريجي الجامعات اليمنية الذين تقطعت بهم سُبل الحياة بفعل انسداد الواقع نتيجة الحرب التي تعصف بالبلد منذ أكثر من ست سنوات.
ضياع بالجملة
وأمام حالة العطالة التي تشهدها البلاد، يضطر المئات من خريجي الجامعات اليمنية إلى التوجه لجبهات القتال في كافة مناطق الصراع، والانخراط في المعارك ضمن القوات العسكرية لدى أطراف النزاع، مدفوعين باليأس من جدوى التعليم الجامعي في وضع مترد كهذا الذي تشهده اليمن، أكثر من إيمانهم بجدوى الحرب، بيد أن الأخيرة أضحت المحور الوحيد النشط في بلد تعطل فيه كل شيء، ودخل في حالة عطالة غير مسبوقة بعد انسداد فرص العمل أمام الشباب بما في ذلك فرص الاغتراب إلى دول الجوار.
وتعكس قصص دماج والبريهي والسبئي، جزءا من مشهد يجسد مأزق عام يلتهم أجيال من خريجي الجامعات اليمنية في بلاد تعصف بها الحرب وتشهد تعددا في السلطات الحاكمة وتناميًا ملحوظًا للعصبويات الفئوية، الأمر الذي يطيل تباعًا أمد الحرب، ويفاقم مشكلاته، ويجتر البلاد إلى عصور سالفة من التخلف والفقر والجهل.