[ مخيمات للنازحين الفارين من جحيم الحرب ]
انحصر التقدم الذي أحرزته القوات الحكومية والقوات التابعة لأبوظبي في الحديدة عند حدود مستوى المطار والمواقع القليلة المجاورة، في حين أن التقديرات السياسية والعسكرية تشير إلى أن الحديدة مهددة بأكبر كارثة إنسانية يمنية غير مسبوقة، ما سيجعل المجتمع الدولي الآن أمام مهمة الضغط على الأطراف المتحاربة لوقف القتال والذهاب نحو الطاولة لاستئناف المفاوضات السياسية.
الحديدة كمعركة عسكرية
وفق تقديرات سياسية وعسكرية، ووفق المؤشرات تمثل معركة الحديدة أهمية بالنسبة للحرب في اليمن، فالحديدة أهم من تعز وصنعاء وعدن بالنسبة للأطراف المتحاربة، وللحوثيين بشكل خاص، في حين تبدو معركة مهمة بالنسبة للقوى الإقليمية والدولية، والحسابات المتعددة إقليميا ودوليا.
وإضافة لهذا هناك حسابات لبعض دول التحالف وخصوصا الإمارات، من ناحية سعيها وراء المنافذ البحرية والموانئ المهمة اليمنية، وفي ذهن هذا الطرف حسابات سيطرة واحتلال وفرض وجود، لكنه الآن يصطدم بواقع متغير ومختلف وبمواقف ومساع دولية، ستجعل بعض الحسابات المحلية والإقليمية محل تراجع إلى الخلف.
والحديدة ظلت أمام سيل طويل من العمليات التي أطلقها التحالف العربي بمشاركة الحكومة الشرعية شكليا، فقرار اقتحام الحديدة بيد صناع القرار الدولي أكثر من كونه بيد التحالف العربي، والأطراف المتحاربة اليمنية.
ولعل سؤالا يطرح بشأن إعطاء الضوء الأخضر هذه المرة لاقتحام الحديدة ولإطلاق المعركة، وذكرت مصادر سياسية قريبة مما يجري لـ"الموقع بوست" أن الحسابات والتقديرات الدولية بشأن معركة الحديدة، تركز على أن تكون المعركة ورقة ضغط على الأطراف المتحاربة للذهاب نحو مفاوضات سياسية وتسوية لا تزال طور الغموض.
والشاهد أن قرار إطلاق معركة الحديدة جاء بضوء أخضر دولي وتزامن مع جولة المبعوث الأممي الجديد مارتن غريفيث، والذي أبلغ المجتمع الدولي بتعنت الأطراف المتحاربة وتبادلهم للاتهامات، وأنه فهم من خلال لقاءاته بهم أنهم غير مستعدين لتقديم تنازلات، وطالبهم بالانخراط في مفاوضات مباشرة، ما جعل المجتمع الدولي أن يرى بأن تكون المعركة العسكرية في الحديدة ورقة مهمة في تسهيل تقارب الأطراف وإجبارهم على القبول بتسوية سياسية، أي أن تكون معركة الحديدة ورقة ضغط لا أكثر على الأطراف.
حسابات أبو ظبي
لكن الواضح هو أن التحالف العربي التقط الفرصة، وسعى في المعركة، ولكن لحسابات أخرى، غير تلك التي في ذهن المجتمع الدولي، ولكنه يحاول أن يروج لتلك الأهداف إعلاميا فقط.
على سبيل المثال كرر مسؤولون إماراتيون وبينهم وزير الدولة للشؤون الخارجية أنور قرقاش، أن معركة الحديدة هدفها الضغط على الحوثيين بالقبول على الحل السياسي، ولكن في حقيقة الأمر تبدو في ذهن أبو ظبي حسابات أخرى تعتقد هي أنها خفية ولكنها صارت مكشوفة وواضحة، وأن الإماراتيين يتحركون في الساحل وفي معركة الحديدة ليس من أجل الضغط على الحوثيين، وإنما من أجل البحر الأحمر، والموانئ هناك.
في حديثه لـ"الموقع بوست"، أكد مصدر سياسي مطلع، بالقول: "الإمارات تريد الحديدة بأي ثمن وأي تنازل وأي كلفة إنسانية، ليس لكي تعيد نظام صالح ولكن للحفاظ على اقتصادها، ونستطيع القول إن سيطرة جيبوتي على مينائها وسيطرة تركيا على الصومال ومينائها، بأن الضفة الغربية للبحر الأحمر خرجت من يد الإمارات، ومن هذه الزاوية تبدو معركة الحديدة هدفها اقتصادي بحت".
وتابع المصدر حديثه "سقطرى لا تفيد كثير إذا كانت الحديدة خارج السيطرة، وكذلك ليس هناك فائدة من الساحل الجنوبي لليمن بدون الحديدة والمخا وميدي، ولتنظر للجانب الموازي عمان تطور موانئ صلالة مع قطر لضرب الإمارات".
ويضيف: " هي حرب اقتصادية وسياسية أيضا بين وكلاء الغرب بالمنطقة، فعمان منسجمة مع بريطانيا، ثم هناك قطر كأكبر مستثمر مباشر بالاقتصاد البريطاني، والكويت ليست علاقتها على ما يرام مع الإمارات والسعودية لأسباب سياسية وتاريخية أيضا".
ويتابع: الأمريكان بعد حرب 90 استحوذوا على أغلب صفقات السلاح والعقارات بالكويت والإمارات والسعودية، ثم جاء سلمان ليهدي الميزانية السعودية للشركات الأمريكية لضمان بقاء ابنه بالحكم، لذا الشركاء الإقليميون منزعجون من تهميش دورهم، وقد ينعكس على بلدانهم، لأن هذه الحرب أظهرت الإمارات والسعودية كدول توسعية، وانهيار الحوثي بدولة كبيرة اسمها اليمن بيد السعودية والإمارات سيعرض دول الخليج للابتزاز السعودي الإماراتي بشكل مباشر، لذا الإقليم مع الحوار لإبقاء ركائز التوازن لصالح الإقليم، وكي لا تنتقل صراعات الأخوة الأعداء من اليمن إلى بلدانهم".
السعودية غير مهتمة
الدليل أن أبو ظبي تسعى وراء الموانئ والبحر كما يراه مختصون بالشأن اليمني يتجلى في حماسها الكثير بهذه المعركة أكثر من السعودية، فالسعودية تبدو اهتماماتها ليس كما أبو ظبي في الحديدة، وتؤكد مصادر سياسية لـ "الموقع بوست" أن السعودية يهمها معركة الحدود في حرب اليمن، أما في الحديدة فلا هدف إستراتيجي لها سوى أنها تتماشى مع الحسابات والأهداف الدولية التي تؤكد أن تكون معركة الحديدة ورقة ضغط على الحوثيين للقبول بالحل السياسي.
الكارثة الإنسانية تتفاقم
المجتمع الدولي وقد منح التحالف العربي الضوء في اقتحام الحديدة، كان يدرك طبقا لمعلومات الموقع بوست، حقيقة النتائج التي ستخلفها هذه المعركة خصوصا في الجانب الإنساني، ولذا ظهر المجتمع الدولي مهتما بهذا الشأن من أول يوم، حيث أطلق حملة إنسانية في الحديدة بداية المعركة، ولكن هذه الحملة الإنسانية والحملات الإغاثية، ظهر أنها لم تجلب نفعا وأن النزوح والتشرد فاقم الوضع الإنساني على مدار الساعة في الحديدة، خاصة في ظل تصرفات قوات التحالف العربي التي ركزت على العمل العسكري والحصار، ولم تعمل على ملف الإغاثة وعلى الملف الإنساني بشكل ملفت.
نازحون يتحدثون
ما يؤكد أن التحالف العربي أطلق المعركة ولم يضع أي حساب أو اهتمام للمدنيين، هو حديث بعض النازحين الفارين من تلك المناطق إلى مناطق يمنية كثيرة، ولكن أكثرها وأبرزها كان نحو العاصمة صنعاء.
في صنعاء التقينا ببعض النازحين الذين وصلوها قادمين من محافظة الحديدة، بعد تمكنهم من الفرار، ووصولهم إلى بعض الأسر القريبة منهم.
منى أحمد تبدو في الستينات من عمرها، ووصلت للتو صنعاء عندما التقينا بها، تحدثت عن وضع إنساني متدهور عانته مع أسرتها في الحديدة، ونفت وجود أي أعمال إغاثة حصلوا عليها من قبل المنظمات الدولية أو المحلية أو التحالف العربي، وتطرقت في حديثها لحملات القصف الشديدة التي يشنها التحالف العربي وجماعة الحوثي، وظروف نزوحهم من وسط مدينة الحديدة نحو صنعاء.
منى قالت إنها اضطرت لبيع الذهب كي تتمكن من دفع تكاليف السفر، بعد يأسها من عدم وجود مناطق آمنة للنازحين داخل الحديدة أو في نطاقها، وذلك عقب اشتداد وتيرة المعارك، ومواصلة التحالف العربي لغاراته على المدينة.
من جهته يقول عبد الله بن مسعد، وهو أحد النازحين إلى صنعاء، التقاه محرر "الموقع بوست" قبل كتابة هذا التقرير بوقت قصير، بطريق الصدفة، وهو يحمل أكياسا من الملابس برفقة أسرته، عما وجدوه وعن طبيعة الحرب في الحديدة، قال مسعد إن المعركة في الحديدة إذا وصلت للمدينة فستعرفون كيف ستغرق القوات التي تقود الحرب وكيف سيموت الناس من الرصاص والجوع والحصار.
وتابع: "الحوثيون يقودون الحرب على شكل عصابات ومستميتون، ويجبرون الناس على القتال بالقوة، ويقومون بإخراجهم من بيوتهم إلى المعارك وتلغيم كل المناطق المليئة بالسكان، تصور أننا أثناء مغادرتنا لاحظناهم يزرعون الألغام بجوار مصانع ومنشآت وأماكن كثيرة، ويبدو أن الكارثة ستكون كبيرة جدا إذا لم يتم إيقاف الحرب".
مسارات متوقعة
هذا الحديث لشهود عيان، يبدو تماما هو الحاضر في اهتمام المجتمع الدولي وباحثين وسياسيين، حيث إن التقديرات الواضحة الآن والتأكيدات الدولية تشير إلى أن المجتمع الدولي ينتظر تفاقم الوضع الإنساني الذي سينتج عن الحرب في الحديدة خصوصا عند وصول المعارك إلى المناطق السكنية، ومن ثم سيعمل على المطالبة بإيقاف الحرب والمعركة فورا ومن ثم سيضغط على الأطراف إيقاف المعركة والذهاب نحو التفاوض.
يقول الباحث السياسي اليمني، ماجد المذحجي، بهذا الشأن: "ارتفاع مستوى الضغط الدولي على معركة الحديدة مرهون بعاملين أساسيين، بدء سقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين، وتوقف حركة الميناء أو تضرره نتيجة المعركة، كما أن صورا واسعة لحرب شوارع في أوساط أحياء سكانية لو حدثت سترفع مستوى الاهتمام الإعلامي والسياسي الدولي بمعركة الحديدة".
ويضيف المذحجي في حديثه لـ الموقع بوست :"تدرك القوى الدولية أن معركة الحديدة محكومة بحقائق الميدان، وتعقيدات إطلاق عملية عسكرية قرب أحياء سكنية، ومؤشراتها تقول إنها ستستغرق وقتاً أكثر مما يريد الجميع، وهذا سيشكل عبئاً سياسياً على التحالف والإمارات خصوصا، لكنه عبء ضمن نطاق آمن لا يخلق ضغطاً كافياً لوقف المعركة بالتأكيد، وفِي المقابل لا يلقي الحوثيون اهتماماً بالضغط الدولي إلا من ناحية تركزه على التحالف، بينما يحمي نفسه من اَي انتقادات دولية حول النتائج المدمرة لأدائه في الحديدة بخطاب أيديولوجي يقول أساسا إنه يخوض معركة ليس ضد أطراف محلية وإقليمية بل ضد أمريكا ذاتها وتصدياً للمؤامرة الدولية على مشروعه".
لهذه الأسباب ستسقط حسابات أبو ظبي
حتى الآن تبدو المؤشرات والمعطيات للمعركة، أن معركة الحديدة تعمل على تفاقم الوضع الإنساني، وأن هناك استماتة حوثية من جهة، وهناك جغرافيا ستصطدم بحسابات أبو ظبي، وهناك مواقف دولية حاسمة الآن لإيقاف المعركة.
النزيف والنزوح والحصار، هو سيد الموقف الآن في الحديدة، و المقترحات الدولية التي يجري الحديث عنها الآن تتركز على إيقاف المعركة، وعلى أن تسليم ميناء الحديدة إلى الأمم المتحدة لتكون هي الطرف الوحيد المعني بالإشراف عليه وتسيير أعماله، ولهذا السبب والأسباب التي تحدثنا عنها آنفا، تجعل حسابات أبوظبي في مهب الريح، ويبدو أن الإماراتيين سيخسرون المعركة ولن تتحقق أهدافهم تلك.
تقديرات الموقع الدولي
المحلل السياسي، باسم الحكيمي، وفي حديثه لـ "الموقع بوست" يقول: "بالنسبة للمجتمع الدولي فمجلس الأمن ليس مجلس عدلي أخلاقي سيواصل ويقاتل من أجل إنفاذ روح العدالة وإنهاء سيطرة الحوثي على الحديدة؛ ومجلس الأمن هو مجلس يعبر عن مصالح دولية يجسد أطماع اللاعبين الدوليين، بمعنى أن المجتمع الدولي قد يوافق على تحرير الحديدة إذا ضمنت الدول الكبرى أن العمليات العسكرية لن تعقد المشهد وستحدث فرقا في اليمن".
من جهته يقول الصحفي اليمني، علي الفقيه لـ "الموقع بوست": "يغلف المجتمع الدولي تحركاته بعنوان براق وهو الحرص على سلامة المدنيين، بينما في الحقيقة هناك مساع واضحة لتوقيف المعركة التي تشكل حجر زاوية في المعارك مع مليشيات الحوثيين، وحين كانت مليشيات الحوثيين تخوض معاركها منذ 2013 كان المجتمع الدولي يلتزم الصمت، بل حين اجتاحت مدينة صنعاء كان بن عمر يتناول وجبة غداء مع زعيم الجماعة في صعدة، وتأخر هناك حتى استكملوا السيطرة على صنعاء، ثم جاء ليبرم اتفاق السلم والشراكة الذي يشرعن لمليشيات الحوثيين الهيمنة على الدولة.
ويضيف الفقيه: "بينما اليوم حينما تقهقرت جماعة الحوثي وتخسر المدن يبدون قلقاً زائداً على الرغم أنهم يدركون أن ما يزيد عن 60٪ من المساعدات التي تدخل عبر ميناء الحديدة تذهب لصالح جماعة الحوثيين ولا تصل إلى المستحقين الفعليين".
ويختم الفقيه: "باختصار يمكن القول إن القوى الدولية تريد الإبقاء على جماعة الحوثيين عنصرا قويا وفاعلا في اليمن ليتسنى لهم استمرار ابتزاز دول الخليج بهذه الجماعة المسلحة".