تحلُّ اليوم الأربعاء الذكرى الرابعة والثلاثين لإعادة تحقيق الوحدة اليمنية بين شطري البلد الأفقر في شبه الجزيرة العربية، وهي الذكرى التي تمر وقد شهد هذا البلد منعطفات خطيرة في العقد الأخير، ومن أبرز تلك المنعطفات هي تلك التي شهدت ولادة مشاريع تتهدد وحدته، ولا نقصد بوحدته تلك القائمة بين شطريه السابقين، بل صارت هذه المشاريع تهدد تمزيق البلد إلى أكثر من شطرين، بل قد يكون التهديد الأخطر هو بقاء اليمن في مرحلة اللادولة حتى يذهب تدريجيًا باتجاه التمزق إلى كنتونات، التي يفقد معها كل سيطرة على مقدراته وإمكاناته الجيوسياسية.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل الوحدة اليمنية هي المدانة بما آل إليه حال البلد أم إن أزمة البلد هي أقدم من عمر الوحدة ومرتبطة بدرجة رئيسية بغياب دولة المؤسسات، وظلت تداعيات ذلك الغياب تتفاقم، حتى وصل بحال الدولة إلى التشظي تحت مظلة الاستغلال الخارجي، الذي أمعن في الذهاب بالتداعيات إلى محطات بعيدة عن الواقع، وصارت معه هوية البلد مهددة أيضًا؟
وحدة إندماجية
التأم شطرا البلد (الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) في وحدة اندماجية في 22 مايو/ أيار من العام 1990، في لحظة تاريخية استثنائية كانت تمثل محطة عربية فارقة في تاريخ اليمن لو أُحسن استغلال تلك اللحظة واستثمارها في تأسيس دولة مؤسسات، والتخلص من تراكمات النفوذ الخارجي والقبلي والعسكري في شؤون الدولة المدنية، وهي التراكمات التي ورثها الشطران، وقد كانت الوحدة ملاذًا حقيقيًا لإعادة بناء دولة استوفت عناصرها في دستور دولة الوحدة، إلا أن نزعة الانفراد بالسلطة سرعان ما سولت للبعض الانقضاض على قيمة الوحدة كوسيلة، وتحويلها إلى غاية للاستبداد بالقرار للأسف الشديد، وهنا كانت بداية الخلل الذي أصاب دولة الوحدة في اليمن.
بدأت نزعة الانفراد بالسلطة تطل برأسها عقب إعلان قيام الجمهورية اليمنية عام 1990، وهو ما تولد عنه أزمة سياسية شهدتها السنوات الأولى من عمر دولة الوحدة، وتوجت تلك الأزمة باندلاع حرب صيف 1994، والتي انتهت بانفراد علي عبدالله صالح بالحكم، ممثلاً في حزب المؤتمر الشعبي العام، ومعه حزب التجمع اليمني للإصلاح (شريكا الحرب وشريكا السلطة)، لكن علي عبدالله صالح ورغبة منه في الانفراد بالسلطة تحت تأثير زهوة النصر سرعان ما تخلص من شريكه حزب التجمع اليمني للإصلاح، وانفرد بالحكومة (بأغلبية ساحقة)، وتدريجيًا تصاعدت أزمة سياسية داخل النظام وخارجه، فالإحساس بزهوة النصر دفع صالح ونظامه لاتخاذ قرارات دفعت ثمنها الدولة اليمنية.
من أبرز الإشكالات التي تجاهلها نظام صالح كانت الحركة الجنوبية الحقوقية المطالبة بالإنصاف، ممثلة في مطالب جمعية المتقاعدين العسكريين والأمنيين المسرحين من أعمالهم، ومن ثم مطالب الحراك الجنوبي بالإنصاف وإعادة المسرحين العسكريين والمدنيين إلى أعمالهم، وهو الحراك الذي تحول إلى حركة سياسية تطالب انفصال جنوب اليمن عن شماله، وتحديدًا منذ عام 2007. عقب عملية نقل السلطة التي آلت، وفق المبادرة الخليجية، إلى نائب صالح، عبدربه منصور هادي، الذي اُستفتي بشأنه رئيسًا للبلاد في فبراير/ شباط 2012، ارتكبت المعارضة اليمنية (التي صارت سلطة) خطأ فادحًا ما زال اليمن يدفع ثمنه باهظًا، وهو ضعف استثمارها للمرحلة الانتقالية، ودخولها في مرحلة انتقام مع ما عُرف ببقايا النظام السابق وصولًا إلى ما آلت إليه الحال في المرحلة الراهنة.
على هامش مداولات مؤتمر الحوار الوطني الشامل 2013/ 2014، والذي استطاع استيعاب مشكلة القضية الجنوبية، شهد البلد تطورات عسكرية انتهت بما هو عليه الآن، حيث يسيطر جماعة “أنصار الله” (الحوثيون) على شمال ووسط اليمن، فيما تسيطر الحكومة اليمنية المعترف بها على جنوب وشرق البلاد.
في مناطق نفوذ الحكومة أُعلن في مايو/ أيار من العام 2017 عن تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يطالب بانفصال جنوب اليمن عن شماله، ويدعو إلى هوية غير يمنية لجنوب وشرق البلاد، وهو مشروع يحمل تناقضاته في داخله، ويعاني اختلالات عديدة لم يستقر معه الحال سياسيًا. لم يقتصر مشروع الانفصال على ما يطالب به “الانتقالي”، فثمة أصوات في محافظة حضرموت الغنية بالنفط ترفض أن تكون محافظتها، الأغنى نفطًا والأكبر مساحة، ضمن مشروع المجلس الانتقالي، وتطالب إما بإقليم مستقل في إطار الجمهورية اليمنية أو تأسيس دولة مستقلة، وفي السياق ارتفعت أصوات أخرى تطالب بتوحيد كلمة المحافظات الشرقية تحت اسم “اتحاد المناطق الشرقية” (حضرموت، شبوة، والمهرة)، وهو المشروع الذي يواجه تحديات أخرى، متمثلة في أصوات في المهرة ترفض ضمها لإقليم حضرموت أو الإقليم الشرقي، وتطالب بإقليم مستقل باسم إقليم المهرة وسقطري.
يكاد اليمن أن يغرق في وحل التنازع المناطقي، وهو أمر لا يمكن اعتباره خارج صيرورة النفوذ الخارجي، الذي يتعزز في لحظات الضعف اليمنيّ.
وكان مؤتمر الحوار الوطني الشامل قد انتهى إلى تقسم اليمن إلى خمسة أقاليم فيدرالية، إلا أن هذا المشروع لم يُكتب له التنفيذ حتى الآن.
منذ بضعة أيام وكثير من اليمنيين يحتفلون في منصات التواصل الاجتماعي بحلول ذكرى إعادة تحقيق الوحدة اليمنية (22 مايو)، الذي هو العيد الوطني للجمهورية اليمنية، مقابل أصوات ليست كثيرة باتت ترفض الوحدة وتعتبر الانفصال منفذًا لها من الفقر. ونتيجة لهذا التفاعل كانت الوحدة اليمنية “ترندًا” ضمن أهم الأسماء المتداولة والرائجة في منصتي إكس وفيسبوك ليوم أمس الثلاثاء.
الذهاب إلى المجهول
كيف نقرأ ما آل إليه اليمن مع الوحدة في ظل تشكل أكثر من مشروع يستهدف النيل من الوحدة باعتبارها (غاية) بينما كانت في الأساس (وسيلة) لبناء دولة فشل القائمون في إدارتها جيدًا، وبالتالي هل يمكن محاكمة الوحدة كوسيلة؟ يقول محمد صالح بن عديو (محافظ شبوة سابقًا):” نحن أمام جيلين من أبناء اليمن، جيل عاش مرحلة التشطير بما لها وعليها، وجيل نشأ في عهد الوحدة بما له وعليه، وصولًا لحاضرنا الذي ارتفع فيه النَفَس الطائفي والمناطقي وأُسقط الوطن في مستنقع الفوضى وغياب الدولة، لتتعزز القناعة بأن كل المشاريع التي تسوّق لتكون بديلًا عن الوحدة والجمهورية بما فيها من استرجاع لكل مساوئ الماضي والحاضر لا يمكنها خلق مشروع يحفظ لليمني حقه ومستقبله وكرامته.
وأضاف: “تعرضت تجربة الوحدة لسوء الإدارة والإساءة الممنهجة، ولكن هذا لا يعني القبول بالذهاب صوب المجهول”.
وأضاف: “تحية في ذكرى الوحدة لكل أبناء اليمن الذين يواجهون واقعهم الصعب بالصبر والرجاء بفرج يزيح عنهم معاناة الحرب والفقر وضياع الحقوق وغياب الخدمات وتلم شتاتهم دولة تقوم على العدل والمواطنة”.
فيما يرى الباحث اليمني، عادل دشيلة، أن الوحدة اليمنية لا يمكن أن تحمل وزر الشخصيات السياسية التي قادت دفة الحكم، معتبرًا أن غاية اليمنيين شمالًا وجنوبًا كانت إقامة دولة مؤسسات ضامنة لحقوقهم.
وقال لـ”القدس العربي”: “نحن أمام ثلاثة أجيال عايشت الوحدة اليمنية، الجيل الأول هو الذي عاصر التشطير وتجرع مرارته والصراعات المناطقية. الجيل الآخر في نفس البلد يعني في الشمال عاصر الإمامة، وتجرع مرارة حكم الإمامة. وبالتالي الجيل الأول كان يحن إلى إقامة دولة الوحدة لتحقيق الأمن والاستقرار والسلام والتقدم كوسيلة لبناء دولة المؤسسات، وهي كانت غاية اليمنيين، في حقيقة الأمر، شمالًا وجنوبًا، ولم تكن وسيلة فقط، بل كانت غاية للشعب شمالًا وجنوبًا، وحتى النخب السياسية”. وتابع: “الجيل الثاني هو جيل الوحدة، وهذا الجيل استفاد من بعض الإنجازات في التعليم وما شابه ذلك. ولكن لم تكن تلك الإنجازات بالقدر المطلوب، أما الجيل الثالث فهم الأطفال الذين لا تزيد أعمارهم عن عقد من الزمن، وهذا الجيل لا يعرف شيئًا عن الوحدة لا شمالًا ولا جنوبًا”.
وذهب للقول إن “الوحدة لا تتحمل وزر الشخصيات السياسية التي قادت دفة الحكم، سواء خلال مرحلة تحقيق الوحدة أو ما بعدها، ولهذا الكثير يكره العودة إلى التشطير”.
واستطرد: “اليوم نحن أمام عدة مشاريع تشطيرية ومذهبية. هذه المشاريع لا تحمل أدنى شيء من مقومات الحياة الأساسية للمواطنين، ترفع شعارات فقط، وهذه الشعارات لا تُغني ولا تسمن من جوع لا شمالًا ولا جنوبًا، ولهذا لو كانت هذه المشاريع تُفيد البلد لكان استفاد البلد منها قبل تحقيق الوحدة اليمنية، لكن الواقع إنه لم يستفد منها الشعب لا شمالًا ولا جنوبًا، وهذه المشاريع مدعومة أيضًا بأجندات خارجية، وبالتالي هي ليست حركات وطنية”.
وقال: “إن المشاريع القائمة حاليًا لا يمكن أن تنجح، لأن المرحلة أثبتت فشل هذه المشاريع، وبالتالي لا يمكن لليمن أن يستقر إلا بعودة مؤسسات الدولة اليمنية كمشروع وطني جامع يحافظ على مصالح الجميع في إطار دولة اتحادية. وهذا لن يتحقق إلا بوجود تكتل وطني عريض يسعى إلى تقديم رؤية وطنية واضحة تتغلب على هذه المشاريع”.
فيما يرى الباحث أنور الخضري أنه في حال تمزيق اليمن ستعود حالة النزاع والصراع إلى نقطة البدء.
وقال لـ”القدس العربي”: “لقد عانى اليمنيون عبر التاريخ مِن حالات التشرذم والتفكُّك، ودخلوا في حروب عديدة كان المستفيد مِنها القوى الخارجية. ثمَّ جاءت الوحدة اليمنية لتعيد الجسد اليمني إلى سابق قوَّته وعنفوانه، بحيث يضمُّ أرجاء الوطن بكلِّ مَن فيه، وبكلِّ ما فيه مِن ثروات وفرص وخيرات. ولا تزال الوحدة اليمنية راسخة في الوعي المجتمعي، شمالا وجنوبًا”. واستدرك: “غير أنَّ هناك أطرافًا سياسية تسعى لتدمير هذا الوعي لصالح مشاريعها الخاصَّة، السلالية والقبلية والعائلية والمناطقية والمذهبية”.
تمزيق اليمن
ويعتقد الباحث الخضري أنه “في حال تمزيق اليمن إلى كنتونات أو دويلات مستقلَّة ستعود حالة النزاع والصراع إلى نقطة البدء، إذ إنّ العلاج ليس في التمزيق والتقسيم، وإنَّما في قمع المطامع الفئوية التي ترغب في الوصول للسلطة والاستئثار بها وبالثروات بأيِّ ثمن، وهذا يتطلَّب مِن المجتمع اليمني البُعد عن هذه المشاريع التفتيتيَّة وتغليب روح الاجتماع والوحدة مِن خلال التعاون والتشارك والتكافل والتراحم وتعزيز العلاقات، والروابط المجتمعية، والاقتصادية، والسياسية.
واستدرك: “مع ضرورة الانتباه أنَّ هناك قوى إقليمية ودولية مِن مصلحتها تقسيم اليمن وتمزيقه، وخلق حالة مِن النزاعات والصراعات الدائمة بين أبنائه ليكون لها الغلبة والتحكُّم في هذا البلد العريق حضارة وتاريخًا. لهذا فإنَّ صور التدخُّل في الشأن اليمني اليوم لا تراعي مصالح شعبنا ومجتمعنا بقدر ما تراعي مطامع وأجندات الدول المتدخِّلة في اليمن، وهذا يستوجب تفويت الفرصة على هذه القوى مِن تحقيق مآربها وإبقاء الوحدة حاضرة في وعي أبنائنا والأجيال القادمة مهما كلَّف الأمر، وحدة تقوم على العدالة والكرامة والحرية والحقوق لكلِّ أفراد الشعب، دون تمييز أو استبداد”.