عادت احتمالات استئناف الحرب في اليمن للظهور مجددًا، وأبرزها فرضية الدعم الأمريكي لقوات حكومية وأخرى موالية لها في شن حرب برية ضد الحوثيين؛ وهو ما يمكن مناقشته بهدوء على وقع الفرضيات والمآلات الناجمة عن هذه الحرب التي أرهقت كاهل البلد الأفقر في شبه الجزيرة العربية منذ عشر سنوات.
يدرك الإقليم جيدًا، فداحة المغامرة باستئناف الحرب هناك؛ ليس على صعيد تفاقم المأساة الإنسانية والاقتصادية في البلد وتجدد تهديد جنوب المملكة وحسب؛ وإنما على صعيد توسيع دائرة المواجهة في المنطقة، بعدما تجاوزت التطورات الأخيرة التوقعات؛ جراء تمدد تداعيات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ودخول جماعة «أنصار الله» (الحوثيون) طرفًا فيها ضمن ما يُعرف بمحور المقاومة.
وبالتالي فإن دخول الإقليم في دعم فرضية استئناف الحرب غير واردة منطقيًا؛ لأن الإقليم، الذي حرص على الإمساك بلجام الحرب لأكثر من عامين، لن يكون مغامرًا ويعود بالبلد للحلبة مجددًا، ويجد نفسه جزءًا من المعركة أيضًا؛ وحينها لن يكون معروفًا موعد ايقاف استعار الجولة الثانية من هذه الحرب، التي ستتجاوز الحلبة إلى خارجها بلاشك.
يرجّح بعض المراقبين عدم استئناف الحرب هناك؛ لاسيما بعد توقف شبه كلي لأكثر من عامين، حتى وإن ظهرت خلالها تطورات غير متوقعة؛ أبرزها دخول اليمن ساحة الحرب ضد إسرائيل من خلال هجمات صواريخ ومسيرات قوات «أنصار الله» في جنوب إسرائيل واستهدافهم الملاحة الإسرائيلية «تضامنا مع غزة»؛ ومن ثم استهداف السفن الأمريكية والبريطانية «ردا على العدوان الأمريكي البريطاني على اليمن» وفق بيانات الحوثيين. لكن في السياق ذاته ذهب البعض الآخر لطرح فرضية لجوء واشنطن، وخاصة بعد فشل هجماتها الجوية مع لندن في إيقاف الهجمات البحرية للحوثيين، إلى التفكير بمعركة برية من خلال دعم قوات حكومية وأخرى موالية للحكومة في الجنوب والساحل الغربي.
لكن هذا التطور خطير للغاية في حال تحقق؛ لأن الحرب التي سيكون السهل إشعالها لن يكون من السهل إخمادها هذه المرة؛ لاسيما وأن مَن يقف خلفها هذه المرة بشكل مباشر هي أمريكا، ومن ورائها إسرائيل، وهذا ما سيدفع إلى تشكل جبهة اجتماعية يمنية رافضة لهذه الحرب؛ ويدفع للتحشيد لمواجهة طرفها القادم بعتاد أمريكي؛ باعتبار فلسطين ستكون هنا هي المحك؛ وبالتالي لا توجد ضمانات لانحسار الحرب في المربع الذي أراد المخططون أن تبقى فيه. وقبل ذلك وبعده ستكون النتائج وخيمة جدًا على ما تبقى من حياة في هذا البلد القصي.
مأزق التسوية
السؤال الذي يجب طرحه أولًا: مَن يمكنه أن يدعم استئناف الحرب البرية في اليمن؟
يستبعد أستاذ علم الاجتماع السياسي في مركز الدراسات والبحوث اليمني بصنعاء، عبدالكريم غانم، الفرضية التي ترجح دعم واشنطن لاستئناف الحرب، مشيرًا إلى حرص الحكومة على خوض حرب تتيح لها تجنب القبول بخريطة الطريق.
وقال لـ«القدس العربي»: «سيناريو الدعم الأمريكي لشن حرب برية في اليمن يمكن أن يكون مدفوعًا بحرص الحكومة اليمنية على خوض حرب برية تتيح لها تجنب القبول بخريطة الطريق التي حصل خلالها الحوثيون على تنازلات كبيرة» ويرى أنه من شأن الدخول بحرب برية مدعومة أمريكيًا أن يساهم في تراكم المكاسب للحوثيين، ومنذ أن نشب الصراع في البحر الأحمر، أعرب رئيس المجلس الرئاسي عن رغبته في الحصول على دعم عسكري لشن حرب برية، فمن وجهة نظر هذا الطرف أن السبيل لدفع الحوثيين نحو القبول بتسوية سياسية، يبدأ بهزيمتهم عسكريًا، وإنهاء سيطرتهم على السلطة في الشمال، ووفقا لهذا التصور، الأمر ذاته ينطبق على استقرار الملاحة الدولية، فمن دون هذا الحل من الصعوبة بمكان ضمان سلامة الملاحة في البحر الأحمر.
واستطرد: إلا إن هذا السيناريو غير مطروح على الطاولة لدى الإدارة الأمريكية الحالية حتى الآن، فهي ترفض الذهاب بالصراع مع الحوثيين إلى ما هو أبعد من مواجهة ما تسميه بالمخاطر الوشيكة، التي تشكل تهديدًا مباشرا على السفن في البحر الأحمر وخليج عدن، دون التأثير على ميزان القوى العسكري القائم بين الحوثيين والقوات الموالية للحكومة اليمنية.
وقال: «وعلى الرغم من قرب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية إلا إن سيناريو الدعم الأمريكي لشن حرب برية على الحوثيين يظل مستبعدًا، وإن لم تحظ الإدارة الحالية بالفوز، فترامب هو الآخر يتجنب فتح حرب برية واسعة النطاق غير مدفوعة التكاليف من حلفاء واشطن، الأغنياء بالنفط».
إمكانات محدودة
لكن ما الذي يدفع بطرف لدعم حرب إمكانات النصر فيها وربما تكون محدودة وإمكانات ايقافها ربما لن تكون سانحة حينها؟
يؤكد عبد الكريم غانم أن احتمالات دعم طرف دولي أو إقليمي لحرب برية في اليمن ضعيفة. وقال: «ليس من مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية توسيع نطاق الحرب في اليمن، في ظل ارتفاع وتيرة الحرب الإسرائيلية على غزة. فالإدارة الأمريكية اضطرت للقيام بضربات جوية استباقية لبعض الأهداف العسكرية، في مناطق سيطرة الحوثيين، بحجة أنها تشكل تهديدًا وشيكًا على الملاحة في البحر الأحمر، أملًا في تقليل المخاطر التي رأت أنها تهدد الملاحة الدولية، فالملاحظ أنه بانخفاض الهجمات الحوثية على السفن في البحر الأحمر وخليج عدن، خلال الأسابيع الماضية، تراجعت وتيرة القصف الجوي الأمريكي البريطاني على الأهداف العسكرية في مناطق سيطرة الحوثيين، الأمر الذي يدحض فرضية دعم الولايات المتحدة الأمريكية لحرب برية واسعة في اليمن».
وأضاف «في السياق ذاته تبدو المملكة العربية السعودية التي تبذل جهودًا حثيثة للخروج من مستنقع الحرب في اليمن، غير معنية بدعم حرب برية تدرك أن مداها سيطول لسنوات وربما عقود، وعواقبها يصعب التنبؤ بها، ومن الطبيعي أن يتوقع الحوثيون أسوأ السيناريوهات، فيقومون بحفر الانفاق والخنادق، ويعدون العدة لاحتمالات حدوث حرب برية واسعة، جراء انخراطهم في حروب داخل اليمن وعبر الحدود وفي أعالي البحار. إلا إن احتمالات دعم طرف دولي أو إقليمي لحرب برية واسعة في اليمن يظل مستبعدًا على المدى القريب والمتوسط، فمن مصلحة القوى الدولية والإقليمية الأكثر فاعلية دعم خفض التصعيد العسكري والسعي لإطفاء الحرائق لا تأجيج الصراعات التي قد يطول مداها ولا تُحمد عقباها».
إسرائيل
لكن في حال استمرار فرضية استئناف الحرب فما علاقة إسرائيل بها وتأثير ذلك على موقف المجتمع من هذه الحرب؛ إذ أن المجتمع هنا سيكون عاملا إضافيًا يعزز من قوة المواجهة لهذه الحرب المدفوعة من الخارج في حال افترضنا نشوبها؟
يقول غانم: «في حال نشوب حرب برية واسعة في اليمن، وهو السيناريو الأقل احتمالًا حتى الآن، قد تأخذ هذه الحرب بعدًا عقائديًا أكثر من أي وقتٍ مضى، لتداخل أبعادها الدينية بالوطنية والدولية، وارتباطها بمحاور إقليمية، وبالصراع في البحر الأحمر، فقد يوظف الحوثيون دعمهم لغزة في حشد المزيد من المقاتلين، وكسب الكثير من التأييد جراء التعاطف الشعبي مع فلسطين».
أما موقع السعودية في هذه الحرب في حال افترضنا وقوعها باعتبار هذه الحرب ستكون معاكسة لسياستها الراهنة ونهجها الإقليمي المتزن، فإن مآلاتها ستكون عكسية لمصالحها.
يقول غانم: «من المؤكد أن السعودية لن تقف موقف المتفرج أو المحايد، في حال ذهبت الأمور باتجاه نشوب حرب برية واسعة في اليمن، فالمتوقع أن تعمل الرياض على منع حدوث حرب برية في اليمن؛ لأن من شأن ذلك أن يطيح بالهدنة والاستقرار الهش الذي استثمرت فيه على مدى العامين الماضيين، لضمان تأمين حدها الجنوبي، ولأن نشوب حرب برية واسعة، سيعمل على الاطاحة بالمكاسب الجيوسياسية التي تأمل الرياض وأبو ظبي الحفاظ عليها، كما أن نشوب حرب برية من شأنه خلط الأوراق وإعادة بناء التوازن العسكري والنفوذ السياسي داخل اليمن، وفقًا لما يشتهي العامل الخارجي وهو ما لا ترضاه الرياض وحليفتها أبو ظبي».
اتفاق السلام
من ضمن مآلات الحرب البرية المفترضة فان إتفاق خريطة الطريق لن يكون بمنأى على نتائج هذه الحرب في حال افترضنا وقوعها وتمدد تلك المآلات على الصعيدين الإنساني والاقتصادي.
يوضح عبدالكريم غانم: «من المؤكد أن نشوب حرب برية سيعمل على تعميق الانقسام الاجتماعي وتدمير ما تبقى من بنى تحتية ومؤسسات دولة، ويسهم في تعميق حجم الأزمة الإنسانية وتردي الخدمات الأساسية وفقدان المزيد من فرص العمل، كما سينسف التقدم الذي تم احرازه على صعيد التهدئة والتهيئة للسلام الدائم والتفاوض والحلول السياسية الشاملة، فالحرب الواسعة من شأنها أن تعزز قوة أطراف سياسية وعسكرية وتضعف أخرى، وأي تفاوض لاحق لهذه الحرب من الصعب أن يعتمد على المرجعيات السابقة، أو على خريطة الطريق الحالية وغيرها من أسس بناء السلام التي سبقت الحرب، الأمر الذي يجعل العودة إلى الوضع القائم حاليًا ضربا من الخيال، ناهيك عن تحقيق السلام واستعادة الدولة».
نخلص إلى أن استئناف الحرب في اليمن بأي شكل سيمثل نسفًا لما تم تحقيقه من مكاسب على صعيد التهدئة ومسار السلام، علاوة على ما سيلحق بالأزمتين الإنسانية والاقتصادية من تعقيد بموازاة تعميق التشظي المجتمعي والهوياتي والسياسي؛ ما سيجعل من استئنافها مغامرة ستذهب اليمن أبعد مما هو عليه حاليًا؛ وسيكون استعادته إلى ما هو عليه اليوم حلمًا بعيد المنال.