[ أطفال يمنيون ينتظرون تلقيحهم (محمد حويص/فرانس برس) ]
شهد اليمن انتشاراً لمرضَي الحصبة وشلل الأطفال بشكل متسارع خلال الأشهر الماضية. في الوقت نفسه، تكثر الشائعات والتحريض ضد تلقيح الأطفال، ما فاقم من سوء الأوضاع الصحية في عدد من المناطق الخاضعة لسيطرة أنصار الله (الحوثيين) شمالي البلاد.
وأعلنت الأمم المتحدة، أول من أمس الأحد، وفاة 77 طفلاً وإصابة أكثر من 9 آلاف آخرين، جراء مرض الحصبة في اليمن، منذ مطلع 2023، بحسب تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في اليمن.
فوجئ يحيى المحبشي حين عرف أن أبناء شقيقه أُصيبوا بحمى شديدة وطفح جلدي، بينما كان في زيارة قصيرة إلى مسقط رأسه في محافظة حجة (شمال)، حيث يتفشى مرض الحصبة في تلك المنطقة الجبلية النائية منذ أشهر، وسط دعوات لإنقاذ المرضى.
ويقول لـ "العربي الجديد": "أبناء شقيقي الأربعة أصيبوا بالحصبة. الأكبر سناً عانى لأيام قبل أن يشفى، أما الآخرون، فما زالوا في العزل، وأُصيب أحدهم بمضاعفات خطيرة ولا يزال في العناية المركزة. للأسف، لم يأخذ الأطفال اللقاح باستثناء الابن الأكبر".
يشار إلى أن الحصبة مرض يتسبّب به فيروس من فصيلة الفيروسات المخاطانية، وغالباً ما ينتقل عن طريق الاتصال المباشر أو من خلال الهواء. ويصيب الفيروس الجهاز التنفسي وينتقل بعد ذلك إلى باقي أجزاء الجسم.
وبلغ عدد وفيات الأطفال في هذه المنطقة التي شهدت انتشاراً للحصبة نحو 15 طفلاً على مدى الشهرين الماضيين نتيجة المضاعفات الخطيرة التي عانوا منها. وتفيد مصادر محلية "العربي الجديد" بوجود "مئات حالات الإصابة في مناطق نائية، علماً أن البعض لا يستطيع التنقل من أجل العلاج، في وقت يزدحم الكثير من المراكز الطبية والمستشفيات القريبة بالمرضى من الأطفال".
وفي 19 مارس/ آذار الماضي، أعلنت منظمة الصحة العالمية تفشي الحصبة وشلل الأطفال في اليمن. وقالت على موقعها في "تويتر": "يشهد اليمن تفشياً للحصبة وشلل الأطفال، وأكثر من 80 في المائة من الأطفال الذين يعانون من الحصبة لم يحصلوا على اللقاح المضاد للمرض"، مضيفة: "في اليمن، تعد برامج التلقيح ضرورية من أجل حماية الأطفال من الأمراض التي يمكن الوقاية منها".
وكان الرئيس الدولي لمنظمة "أطباء بلا حدود" كريستوس كريستو قد أعلن عن انتشار مرض الحصبة بين الأطفال في محافظة حجة، خلال زيارته مستشفى تدعمه المنظمة. وقال: "رأيت عدداً من الأطفال المصابين بعدوى الحصبة، وقد أفاد الفريق الطبي بأن السبب الرئيسي لهذه الزيادة هو الفجوة الكبيرة في اللقاحات الروتينية وانخفاض مستوى التلقيح بين الأطفال"، بحسب بيان نشره مكتب المنظمة في اليمن.
وفي 20 مارس/ آذار الماضي، كشفت وزارة الصحة العامة والسكان أن الفرق الصحية تمكنت من تحصين مليون و224 طفلاً ضمن الحملة الاحترازية ضد شلل الأطفال في 12 محافظة، بنسبة تغطية وصلت إلى 95 في المائة.
ووفق منظمة الصحة العالمية "يتأثر اليمن بسلالتين منفصلتين من فاشيات فيروس شلل الأطفال المنتشرة: فيروس شلل الأطفال المشتق من اللقاح من النوع 1 (cVDPV1) والنوع 2 (cVDPV2)". ولفتت إلى أنه "من ضمن 150 حالة تم الإبلاغ عنها في عام 2022، يمثل اليمن ثلث حالات cVDPV على مستوى العالم".
ويعتبر شمال اليمن (مناطق سيطرة الحوثي) من ضمن المناطق الجغرافية في العالم التي فيها أعلى نسبة أطفال إما يفتقدون جرعات التطعيم أو غير محصنين، والتي تشمل باكستان وأفغانستان وجنوب شرق أفريقيا وشرق جمهورية الكونغو الديمقراطية وشمال نيجيريا وجنوب وسط الصومال.
60 في المائة من اليمنيين عاجزون عن الوصول إلى المراكز الصحية
في مطلع فبراير/ شباط الماضي نظّمت مؤسسات تابعة للحوثيين بصنعاء ندوة بعنوان "اللقاحات ليست آمنة ولا فعالة"، بحضور رئيس الوزراء عبد العزيز صالح بن حبتور ووزير الصحة العامة والسكان طه المتوكل في حكومة الحوثيين. وقال عضو هيئة مكافحة الفساد الحوثية سليم السياني إن "الطب الحديث، بما فيه اللقاحات والطب الكيميائي، فكرة يهودية هدفها الاستثمار والتجارة واستهداف الشعوب بعدوانية"، مشيراً إلى أنه "لا يوجد أي لقاح آمن ومكوناته عبارة عن وسخ وسموم".
من جهته، قال المتوكل إن "اللقاح ليس إلزامياً بالمطلق بالنسبة للوزارة (وزارة الحوثيين في صنعاء) لكنه متاح. ومن يصر عليه ويطالب به يحصل عليه على أن يتحمل المسؤولية ويُدرك السلبيات والإيجابيات". وكان ناشطون قد تداولوا فيديو للوزير نفسه في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2018 يدعو فيه أولياء الأمور إلى تلقيح أطفالهم.
وكانت تلك الندوة تتويجاً لحملات مكثفة تحذّر من اللقاحات، وخصص لها الحوثيون حلقات تلفزيونية وإذاعية، بالإضافة إلى دور خطباء المساجد الذين أشاروا إلى أن اللقاحات غير آمنة، الأمر الذي أثار مخاوف لدى الأطباء في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.
ولم تعلق السلطات الصحية في مناطق سيطرة الحوثيين رسمياً على حملة التحريض ضد اللقاحات. إلا أن مصدراً في وزارة الصحة بصنعاء رفض الكشف عن اسمه أوضح في حديثه لـ "العربي الجديد" أن اللقاحات متوفرة في معظم المراكز الصحية ولا يمنع أحد من الحصول على اللقاحات"، مشيراً في الوقت نفسه إلى تفشي الحصبة في عدد من المحافظات.
وفي ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أعلنت وزارة الصحة في صنعاء أن عدد المصابين بالحصبة بمناطق سيطرتها (الحوثيين) خلال عام 2022 بلغ 18 ألفاً و597 حالة، توفيت منها 131 حالة، فيما بلغ عدد المصابين بشلل الأطفال 226 حالة. وكشف مركز الترصد الوبائي عن انتشار لافت لفيروس شلل الأطفال من النوع 2 في عدد من المحافظات اليمنية.
جددت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) التأكيد على أمان اللقاحات التي تعطى للأطفال. وقالت في بيان أصدرته في 17 مارس/ آذار إنه "يجرى تسليم 25 مليون جرعة من اللقاحات المؤهلة مسبقاً من قبل منظمة الصحة العالمية إلى اليمن سنوياً"، مضيفة أنه "في اليمن، لا توجد سوى تقارير عن آثار جانبية طفيفة ومؤقتة، ولم ترد معلومات عن وقوع أية حوادث سلبية خطيرة، ما يدل على أن اللقاحات آمنة".
في هذا السياق، يستنكر الطبيب اليمني محمد الخليدي حملات التحريض ضد اللقاحات، قائلاً إن "عرض حلقات تلفزيونية وإذاعية لحث المواطنين على مقاطعة اللقاحات، بالإضافة إلى المنابر، يدفع الناس إلى عدم تلقيح أبنائهم. ويفترض أن تشجع الحملات الناس على تلقيح أطفالهم". ويوضح في حديثه لـ "العربي الجديد" أنه "في ظل تفشي الأمراض، تصبح حملات التلقيح الوطنية ضرورية، وكذلك عند انخفاض معدلات التغطية بالتحصين الروتيني. وتعتبر الحملات الحل الوحيد لكبح انتشار الأمراض، والأمر ليس محل جدل ولا يجب على السلطة إبقاء اللقاحات في المراكز الصحية فقط".
يحصل اليمن على 25 مليون جرعة من اللقاحات سنوياً
ويوضح الخليدي أن "هناك ضرورة لإيصال اللقاحات إلى المناطق النائية بسبب عدم قدرة الناس على الوصول إلى المراكز الصحية"، لافتاً إلى أن "هؤلاء يمثلون نسبة كبيرة قد تصل إلى أكثر من 60 في المائة من السكان". يضيف أن "الأطفال في اليمن ضحية متاجرة وصراعات رخيصة ليست للطب واللقاحات أية علاقة بها".
من جهتها، اعتبرت وزارة الصحة العامة والسكان اليمنية أن التحريض ضد اللقاحات "تصرف طائش من قبل الحوثيين، ومغامرة بمستقبل أطفال اليمن في مناطق سيطرتها". واستنكرت ما وصفته بـ "السلوك الصادم المنافي للعقل والعلم والمنطق"، مؤكدة ضرورة "التصدي لهذه الأفكار الكارثية التي لا تقيم اعتباراً لسلامة اليمنيين وحياة ومستقبل أطفالهم".
وفي عام 2009، أعلن اليمن القضاء على أمراض عدة منها الجدري، وبقيت خالية من شلل الأطفال حتى عام 2019، حين انتشر في محافظة صعدة (شمالي البلاد ومعقل الحوثيين) في ظل سلوك الحوثيين ومنع وتهميش أهمية اللقاحات، بحسب بيان صادر عن وزارة الصحة العامة والسكان اليمنية.
ويعد سوء التغذية المتفشي بين الأطفال اليمنيين أحد أبرز المخاطر التي تهدد المصابين منهم بأمراض الحصبة، إذ تصعب عليهم مقاومة المرض. ويشكل شلل الأطفال تهديداً خطيراً للأطفال دون سن الخامسة في حال عدم حصولهم على اللقاحات.
وبحسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية، فإن 46 في المائة من الأطفال دون سن الخامسة في اليمن يعانون من التقزم، وإن ما لا يقل عن 362 ألف طفل دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية الحاد والمزمن على حد سوء. وحذر التقرير من أن الأطفال المتأثرين بنقص التغذية أكثر عرضة للوفاة بـ 9 مرات على الأقل مقارنة بأقرانهم".
ووفق تقديرات أممية، "فإن حوالي 17,3 مليون يمني على شفير المجاعة. وهذا العدد يشمل 1,15 مليون طفل تحت سن الخامسة يواجهون خطر وفاة نسبته 30 – 50%، أما ما يعادل 540,000 طفل تحت سن الخامسة فيعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم مع خطر الوفاة المباشر". وبحسب منظمة الصحة العالمية، "فإن 46 في المائة من الأطفال دون سن الخامسة في اليمن يعانون من التقزم".
من جهته، يقول محمد عبد القوي، الذي يعمل في أحد المراكز الصحية المدعومة من المنظمات، إن "سوء التغذية جعل الأطفال في اليمن أكثر عرضة للإصابة بالأمراض، إذ إن مناعتهم أقل. واستقبلنا الكثير من الأطفال المصابين بالحصبة خلال الشهرين الماضيين، وأكثرهم معاناة هم غير الملقحين منهم". يضيف في حديثه لـ "العربي الجديد": "للأسف، ما من تعاون من قبل الحوثيين. على العكس، يقودون حملات ضد اللقاحات التي تعد منقذة للحياة. وسبق أن أعلنت منظمة الصحة العالمية عن توفير جميع التكاليف المالية لتنفيذ حملةٍ للتلقيح ضد الحصبة وشلل الأطفال، لكن هناك عراقيل من قبل الحوثيين في الحقيقة".