ما إن تسمع كلمة “سيلفي” حتى تتبادر إلى ذهنك وجوه ذات ابتسامات نضرة وبشاشة ندية، إلا أن السيلفي الذي بين يدي لم تلتقطه عدسات الكاميرا فحسب بل ودونته أيضًا ذاكرة صحفي شاهد بأمّ عينه وقائع حرب أليمة بكل تفاصيلها ومشاهدها الحزينة، فكان “سيلفي الحرب” للكاتب اليمني محمد القاضي، وهو ليس لقطة عابرة كأي سيلفي اعتدناه، وإنما ذاكرة مثقلة بالهموم والآلام تمتد مساحتها على 216 صفحة من القطع المتوسط.
تدور أحداث الكتاب عن الحرب التي شهدها اليمن -وما زال- منذ سقوط العاصمة صنعاء بيد الحوثيين وحليفهم الرئيس السابق علي عبد الله صالح وما رافقها من أحداث سياسية وإنسانية.
ينقل لنا الكتاب صورًا لبعض من مشاهد الحرب، بما تحمله من خيبات أمل وأحداث مؤلمة وخوف وقلق، ويجعلك الكاتب تعيش تلك اللحظات كما لو أنك تشاهدها للتو، تحبس أنفاسك مع كل مشهد، تذرف دموعك، يسيطر عليك شعور الحسرة مما كان، وتتمنى لو تستطيع تغيير مجرى الحدث ليتخذ طريقًا آخر غير الذي ساقه إليه الواقع، حتى إنه ليساورك الوهم بمحاولة إدخال يدك في صفحات الكتاب لتغيير الأحداث وإحباط المؤامرات، ولتصرخ في وجه كل الأطراف المتصارعة أن هذه الحرب ما هي إلا استدراج لكم وعليكم تجنبها، وهنا تظهر مهارة الكاتب في قدرته على نقل الأحداث كما عايشها لحظة بلحظة مراسلًا ميدانيًّا لقناة الجزيرة مباشر.
آلام الناس
اختزل لنا “سيلفي الحرب” مشاهد سقوط المدن اليمنية واحدة تلو الأخرى، في أيدي مليشيات الحوثي وقوات صالح منذ اجتياحها للعاصمة صنعاء في 21 سبتمبر/أيلول 2014، وصولًا إلى مدينة عدن جنوبي اليمن، وما رافق ذلك الزحف العسكري من قتل وسلب ونهب وتفجير للمنازل وقصف للأحياء السكنية وترويع للمدنيين.
وسلط الكاتب الضوء على معاناة النازحين وهروبهم اليائس إلى الأرياف والوديان والكهوف والصحاري، في ظل غياب كامل للجهات الحكومية والإنسانية المحلية والدولية.
وتطرّق الكتاب إلى انطلاق عاصفة الحزم، وما صحبها من أمل وفرح وألم وعبث والتباس، وسقوط لضحايا بسبب ما سُمّي الضربات الجوية الخاطئة.
واستعرض الكتاب جانبًا من آلام الناس وخوفهم، والانعكاس السريع لتداعيات الحرب على حياتهم اليومية، وتسلُّط النقاط والحواجز الأمنية المستحدثة على المسافرين، وصعوبة التنقل من مدينة إلى أخرى.
ولم يُغفل الكاتب محاولات الشرعية المتكررة للوجود على الأرض، كطفل ما إن يحاول الوقوف حتى يتم تهشيم أقدامه من داعميه قبل أعدائه، وانطلاق المقاومة الشعبية كردة فعل مجتمعية على تحالف الانقلابيين وجرائمهم ضد الشعب اليمني، وطريقة استدراج حماس اليمنيين واللعب على عواطفهم إلى جبهات مفتوحة تستنزف كل الأطراف.
ويُحسب للقاضي إحراز قصب السبق في التوثيق لهذه المرحلة الشائكة والعصيبة في تاريخ اليمن المعاصر.
وما يجعل دموع القارئ تنهمر هو ذلك البعد الإنساني الذي روى الكتاب شيئًا من تفاصيله، وبالذات “معاناة الصحفيين في اليمن”، فما أصعب أن تتحول الجغرافيا -التي يُفترض أن تمشي عليها وأنت رافع الرأس- إلى وحش مفترس يطاردك لمجرد أنك صحفي تنقل الحقيقة لا غير، ما أقسى أن تضيق بك بلدك ويضايق أهلك، (وتتقطع) أحشاؤك خوفًا على أسرتك، فقط لأنك تمتهن مهنة الصحافة!
يكاد القارئ -من خلال الكتاب- أن يشاهد اصفرار وجه المؤلف ويستشعر نبضات قلبه وهو يمر بالنقاط الأمنية، أو يحاول تغطية حدث بالقرب من ثكنة عسكرية لمليشيات الحوثي، ولا ذنب له إلا أنه صحفي تحتم عليه مهنته نقل الحدث للعالم بكامل تفاصيله! وهذا ما برع المؤلف في تصويره.
وبالطبع، لا يمكننا لوم الصحفي في اليمن مطلقًا، فما لاقاه الصحفيون في وطنهم يشيب له الرأس، وما زلت أتذكر -بصفتي شاهدة- دخول الحوثيين إلى صنعاء، وبعد أسبوعين من سيطرتهم المُحكَمة، كنا نسمع صرخات تصدر من إحدى المؤسسات التي استولت عليها المليشيات في منطقتنا، واتضح فيما بعد أنها كانت أماكن لتعذيب أشخاص قيل إنهم صحفيون، ولقد وثّق لنا الكتاب كيف أصبح الوطن أضيق من ثقب إبرة عليهم، وحينها اضطر معظم الصحفيين إلى مغادرة بلدهم ومهوى أفئدتهم إلى وجهات شتى لا يعرفونها ولا تعرفهم، وقلوبهم يعتصرها الألم، والأمرّ من كل ذلك هو فقدان الأمل في عودة قريبة.
اللحن الحزين
وختم المؤلف كتابه بهذه العبارات الموجعة:
(ومن صلالة “العُمانية” التفتُّ نحو وطني، وإذا به جغرافيا معزولة، حولتها الحرب إلى مخيمات للنازحين، وسجون ومعتقلات، يُمارَس فيها أبشع أنواع التعذيب، وجبهات مفتوحة يُستنزَف فيها شباب اليمن ورجالها من مختلف الأطراف، لا تسمع فيها سوى أصوات الرصاص، وصراخ الثكالى، وأنين الجرحى، وتوسلات المرضى والمحتاجين).