يلفت أنظار المتابعين ما تشهده العلاقات بين الدول الخليجية من تطبيع في السنوات الأخيرة من جهة، والحراك الدبلوماسي الواضح في العلاقات بين تركيا من جهة ومصر وإسرائيل والإمارات من جهة أخرى.
ويطرح المراقبون السؤال الأبرز تجاه هذا الحراك الدبلوماسي: كيف تسارعت الدبلوماسية بين الدول التي تعاني علاقاتها من توتر شديد ودخول العديد منها في عملية التقارب مرة أخرى؟
يُعزى تطور العلاقات التركية - الإماراتية نحو التقارب إلى ظروف خاصة للغاية. ففي ظل الظروف الحالية، يفسر الكثيرون ذلك بالتركيز على الصعوبات الاقتصادية التي تمر بها تركيا. إن البعد الاقتصادي بالطبع مهم لكلا البلدين في تغيير العلاقات، لكنه أيضاً ليس السبب الرئيسي في هذا التقارب.
** تأثير السياسة الدولية على السياسة الإقليمية
وباستطاعتنا الحديث هنا بصراحة، بأنه لا يمكن قراءة التوتر بين القوى الإقليمية في الماضي، والحراك الحالي للتقارب بشكل مستقل عن الوضع السياسي الدولي.
لقد فسر العديد من البلدان الإقليمية، التغيير الذي ظهر في المنطقة منذ عام 2011، من منظوره الخاص. فعلى سبيل المثال، نظرًا لأن تركيا وقطر لديهما منظور مماثل بشأن القضايا والتعاون الإقليمي، فقد تعمقت علاقاتهما الثنائية بوتيرة سريعة. ومع ذلك، اختلفت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة عن تركيا وقطر، حيث رأتا في ذلك التغيير مصدر تهديد محتمل لهما.
كما أن تغيير السلطة في مصر عام 2011، جعل دول الخليج تراه تهديدا لها باستثناء قطر. وكان هذا هو السبب الرئيسي وراء تعرض هذه الدول، التي اتخذت موقفًا دفاعيًا، للتوترات ليس فقط مع تركيا، ولكن أيضًا مع قطر والولايات المتحدة الأمريكية خلال نفس الفترة.
وعلى الرغم من عدم وجود صراع ساخن مباشر بين القوى الإقليمية، كانت هناك خلافات جدية في العديد من القضايا. ففي بعض المناطق، خاصة في ليبيا، اتخذت تركيا والإمارات مواقف مختلفة تماماً.
فيما خلقت لامبالاة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما تجاه الأزمات في الشرق الأوسط، منطقة صراع للقوى الإقليمية.
من ناحية أخرى، اتبع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب سياسة حول من خلالها قناعة دول الخليج بتهديد التغيير لها، إلى مكاسب اقتصادية.
وأدت سياسات الفاعلين الدوليين، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، التي ركزت على الاستفادة من الأزمة الإقليمية، علاوة على فشل المؤسسات الدولية في منع الصراعات، إلى إطالة وتعميق ديناميكية الصراع في المنطقة، والتركيز علي البعد الأمني والتهديدي من مسار التغيير فيها.
كما تسببت التهديدات الأمنية في خسائر اقتصادية. على سبيل المثال، ارتفع حجم التجارة بين تركيا والإمارات، إلى 15 مليار دولار في عام 2017 ، لكنه انخفض إلى 7 مليارات دولار في العام التالي.
على الرغم من تكبدها خسائر فادحة، لم يكن من السهل على العديد من دول المنطقة تغيير الدفة.
** تغير الأوضاع بعد بايدن
أدى فوز جو بايدن في الانتخابات الأمريكية، وتشتت انتباه الولايات المتحدة وروسيا ، الناشطتين في أزمات الشرق الأوسط، إلى فتح مجال للحراك بين دول المنطقة.
وفي الحقيقة فإن ديناميكيات الصراع الإقليمي أسفرت عما يقرب من صفر مكاسب، وخسائر كبيرة ملأت هوامش الصراع. كما ورد في بداية المقال، هذا هو أساس الحراك نحو إعادة التطبيع بين القوى الإقليمية.
الإمارات كانت من الدول التي تحركت بسرعة في المرحلة الجديدة. أولاً، تم اتخاذ خطوات نحو التطبيع مع قطر. وفي الوقت نفسه، بدأت دبلوماسية الباب الخلفي مع تركيا. كما نرى وضعا مماثلا بالنسبة للبلدان الأخرى.
ترتبط الزيارة الرسمية لمحمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي-المحرك الرئيسي للسياسة الإماراتية-، إلى تركيا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 ارتباطاً مباشرًا بالسياسة الدولية التي أشرنا إليها أعلاه. وهي علامة على فتح صفحة جديدة للعلاقات بين البلدين.
وهنا لا يمكن تفسير هذا التقارب فقط من الناحية الاقتصادية. رغم أن الاستثمارات التي يُنتظر أن تقوم بها أبو ظبي في تركيا تهمها في ضوء سياستها الاقتصادية الرامية إلى تقليل الاعتماد على النفط. والاتفاقات الموقعة خلال زيارة بن زايد هي أيضًا مؤشر مهم على ذلك.
** مستقبل العلاقات التركية الإماراتية
يكثر الجدال حول مستقبل تطبيع العلاقات بين أنقرة وأبو ظبي. ويأتي على رأس ما يشغل الرأي العام العالمي، انعكاس تلك العلاقات الاقتصادية على القضايا السياسية والأمنية من عدمه.
ليس من السهل الإجابة على تلك التساؤلات. لكن يمكننا القول إن دول المنطقة ستحظى باستقلالية ومبادرة أكثر، في ظل التحولات الجارية في المحاور، بين أمريكا والصين، وروسيا والناتو، وأوروبا وروسيا.
ومن المفيد الإشارة هنا إلى مقالة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل زيارته للإمارات التي قال فيها: "حان وقت اتخاذ المبادرة"، بالإضافة إلى الدعوات التي تقوم بها الدول الأخرى في هذا الاتجاه من الأبواب الخلفية، للعمل على التغيير.
وبالنظر إلى الإرادة السياسية الواضحة للاتجاه نحو التقارب بين تركيا والامارات، فلن يكون مفاجئاً انعكاس ذلك التقارب على الملفات الأخرى. ولهذا، ليس من الضروري تفكيك كافة الأزمات بين تركيا والإمارات، وليس من الصواب توقع ذلك.
وعلى سبيل المثال، يمكن للخلاف في الملف الليبي أن يستمر. ولا يعني ذلك عدم زيادة التعاون الاقتصادي، وانعكاسه على الملفات السياسية والأمنية. وحين ننظر من الناحية الاقتصادية، يمكن توقيع اتفاقيات إضافية علاوة على الاتفاقيات الموقعة في هذا الاطار.
وإذا لعبت تركيا دوراً محورياً في الوصول لأوروبا ( إيصال البضائع الإماراتية) فسوف يزيد ذلك من حجم التجارة بين البلدين. كما أن التواجد الإماراتي في السواحل الإفريقية يمكن أن يزيد القنوات الاقتصادية لتركيا الممتدة في المنطقة.
ورغم أن القضايا الأمنية سوف تتشكل بناء على توازنات حساسة، يمكن التقدم بخطوات متفرقة في هذه المساحة. وسوف ترغب الإمارات أيضاً في الاستفادة من التقدم التركي في قطاع الصناعات الدفاعية.
ولن يكون مفاجئاً إذا رغبت الإمارات في الاستثمار في هذا القطاع أو شراء معدات وأسلحة وعلى رأسها الطائرات المسيرة.
ولهذا، ليس من الضروري تشكيل رؤية أمنية مشتركة بين تركيا والإمارات، وباختصار فإن التقدم بخطوات في الملف الأمني، سوف يرتبط بما ستتشكل عليه ديناميكيات الوضع الإقليمي.
• د. ويسل كورت جامعة إسطنبول مدنيت