[ باب المندب ]
يؤثر التنافس الإقليمي على باب المندب وامتداده الساحلي على مسار الحرب في اليمن، وعلى طبيعة الرمال المتحركة تحت أقدام الفاعلين المحليين.
هل هي "لعنة الجغرافيا"، التي ينسب إليها اليمنيون أسباب عدم استقراره وتوالي الأزمات والصراعات فيه، سيّما تلك التي تحدث نتيجة الأطماع الخارجية؟ طرحٌ أكده الخبير في الشؤون السياسية والعسكرية روبرت كابلان، في كتابه "انتقام الجغرافيا" عند وصفه لليمن بـالقلب البالغ الأهمية، عازياً عدم استقراره إلى أهمية موقعه وطبيعة تضاريسه. وهو واقع تؤكده الصراعات المحتدمة على أرض اليمن حاليا.
يعيش اليمن حرباً ضارية منذ 26 آذار/مارس 2015 عند إطلاق "التحالف العربي" بقيادة السعودية ما عرف بعملية "عاصفة الحزم"، بهدف إعادة الحكومة اليمنية إلى العاصمة صنعاء وإنهاء الانقلاب الذي نفذته جماعة الحوثيين، لكن سرعان ما ظهرت أهدافاً أخرى غير معلنة لـ"التحالف"، ترجمتها على الأرض الدولتين الرئيستين فيه، السعودية والإمارات، من خلال السيطرة على المناطق الحيوية والاستراتيجية، ومن ثم التنصّل من الهدف المعلن للتدخل في اليمن، حيث لا يزال فريق الرئاسة اليمنية، بمن فيهم الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، رهن الإقامة شبه الجبرية في الرياض، بينما قامت أبوظبي بإنشاء ودعم كيانات سياسية وعسكرية موازية أو منافسة للحكومة المعترف بها دولياً، الأمر الذي يستدعي قراءة تأثير الجغرافيا السياسية في تطور اشتباك العلاقات اليمنية بمحيطها الإقليمي، سيّما مع السعودية والإمارات وإيران وتركيا، ومقاربتها مع ديناميكيات المصالح الدولية.
تتعدد الأطماع الخارجية في اليمن بتعدد المناطق الحيوية فيه، سواء كانت هذه المناطق ذات أهمية جيوسياسية أو عسكرية أو اقتصادية. من أهم هذه المناطق باب المندب، ذلك المضيق الذي كان ولايزال شاهداً على العديد من النزاعات والصراعات والحروب الطاحنة، أبرزها إغلاقه بوجه ناقلات النفط الإيرانية المتجهة لدعم إسرائيل في حرب أكتوبر 1973.
يقع المضيق بين دولتي اليمن وجيبوتي، ويفصل بين قارتي آسيا وأفريقيا، ويتوسط القارات الخمس، وما يميزه أنه يصل البحر الأحمر بخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي من جهة، والبحر الأبيض المتوسط من الجهة الأخرى، عدا عن عرضه البالغ نحو 30 كم، وتقسمه جزيرة بريم اليمنية إلى قناتين، الشرقية البالغ عرضها 3 كم وعمقها 30 مترا، والغربية بعرض نحو 25 كم وعمق 310 أمتار.
طريق الحرير
يأتي اليمن في قلب مشروع “الحزام والطريق” أو ما يعرف بـ“طريق الحرير الجديد”، نظراً لأهمية موقعه وامتلاكه عدداً من الموانئ والجزر المتناثرة، وعددها 130، على هذا الطريق، مثل مينائي عدن والمخا الذي يتوسطهما مضيق باب المندب، وجزيرة بريم التي تتوسط هذا المضيق. وعلى الرغم من توقيع اليمن على مذكرة أولية مع الصين في نيسان/أبريل 2019 للانضمام إلى هذا المشروع، إلا أن الإمارات فرضت سيطرتها على جميع المناطق الحيوية المذكورة، وهو ما جمّد عملية انضمام اليمن في هذا المشروع، وحرمه من حقه السيادي في رعاية مصالحه مقابل تأمين المصالح العليا لأبوظبي، باعتبار أن انتعاش مملكتها الضخمة المتمثلة بموانئ دبي مرتبط بشكل رئيس بتجميد الموانئ اليمنية، فضلاً عن أن سيطرتها على باب المندب سترفع قيمة أوراقها الإستراتيجية، وتقدم نفسها حارسا لتأمين مصالح حلفائها الدوليين، المتخوفين من سيطرة الحركات الإسلامية الراديكالية المدعومة من قوى إقليمية.
لقد نجحت الإمارات في إيجاد هذه الثنائية (إيران أو تركيا)، (أنا أو كلتاهما)، وأقنعت الغرب وإسرائيل بأنها الشرطي/ الحارس المناسب في الزمان والمكان المناسبين، باعتبار أن جماعة الحوثي المدعومة من إيران هي البديل عنها، وحزب "الإصلاح" المدعوم من تركيا هو البديل عن الحوثيين، سيما بعد أن تمكنت مطلع 2017 من إزاحة الحوثيين من باب المندب، ونجحت في صد التشكيلات العسكرية التابعة لـ"الإصلاح" من التقدم نحوه.
السيطرة على الأرض
أعلنت أبوظبي رسميا انسحاب قواتها من اليمن في شباط/فبراير 2020، لكنها في الحقيقة لا تزال تتواجد بصورة مباشرة وغير مباشرة في العديد من المناطق الحيوية، حيث شرعت مؤخراً بإنشاء قاعدة عسكرية في جزيرة بريم (ميون) التي تتوسط باب المندب وتأهيل المطار فيها، بعد أن فككت قاعدتها في عصب الإرتيرية، فضلاً عن ذلك، أنشأت كيانات سياسية وعسكرية يمنية في هذه المناطق الحيوية، بدءاً بالمجلس الانتقالي الجنوبي في أيار/ مايو 2017 برئاسة عيدروس الزبيدي، ومؤخراً المكتب السياسي لـ"المقاومة الوطنية" في مارس الماضي، برئاسة العميد طارق صالح، وتحت مظلتهما تنطوي العديد من التشكيلات العسكرية، التي بلغ قوامها 200 ألف مقاتل.
هذه الكيانات المدعومة إماراتيا هي من يسيطر فعلياً على جنوب غربي اليمن، كما تحظى بتأييد واضح من قوى دولية فاعلة، تتجّلى، على سبيل المثال، في زيارة الزبيدي للندن في آذار/ مارس 2019 عند تلقيه دعوة من مجلس العموم البريطاني، كذلك، في ترحيب السفير البريطاني لدى اليمن، مايكل آرون، بإشهار المكتب السياسي واجتماعه افتراضياً مع طارق صالح، ما يعني، بالإضافة إلى إشراك الانتقالي في الحكومة بموجب "اتفاق الرياض"، وفتح مكاتب له في كل من واشنطن وكندا والاتحاد الأوروبي، اعترافاً غير معلن بهذه الكيانات. وبحسب معلومات مؤكدة، يجري صالح، بدعم إماراتي، محاولات حثيثة لعقد لقاءات عدّة مع بعثات دبلوماسية غربية.
وفضلاً عن الحضور الغربي، فإن سيطرة الإمارات تعني حضوراً أو تواجداً إسرائيلياً في هذا المضيق، وإن بصورة غير مباشرة، خاصة بعد العلاقات المتطورة بين البلدين. كما أن باب المندب يعني لإسرائيل ما يعني لمصر من أهمية، سيّما إذا ما نُفذ مشروع قناة بن غوريون الذي تروج له بديلاً لقناة السويس.
وفي الوقت الذي تتجه فيه أنظار العالم نحو محافظة مأرب التي تشهد منذ 7 شباط/ فبراير الماضي حربا شرسة بين الحوثيين والحكومة اليمنية، فتحت الأخيرة جبهة جديدة في محافظة تعز، بهدف تشتيت الحوثيين وتخفيف ضغطهم على مأرب، لكن الملاحظ أن قوات "الحشد الشعبي" وغيرها من التشكيلات التابعة لحزب "الإصلاح" والمدعومة من تركيا وقطر، ركزت هجومها على غربي محافظة تعز، باتجاه مدينة المخا وباب المندب، حيث يتواجد الحوثيين بشكل محدود، وتتواجد القوات الموالية للإمارات بشكل كبير، وقد جاء ذلك بالتزامن مع دعوة صريحة من الشيخ القبلي البارز والقيادي في حزب "الإصلاح" حميد الأحمر، بضرورة تدخل تركي عسكري في اليمن، بينما كثف ناشطو "الإصلاح" ترويجهم لهذا التدخل باعتباره كفيلاً بإعادة الحكومة الشرعية في اليمن على غرار نجاحه بدعم حكومة السراج في ليبيا، لكن قوات "الإصلاح" فشلت، بعد أكثر من شهر على انطلاق هذه المعركة، في إحراز أي تقدم نحو باب المندب، لتعود الأوضاع هناك إلى ما يشبه الحرب الباردة بين العديد من الأطراف، ولإعداد العدة من جديد.
هذا التنافس الإقليمي على باب المندب وامتداده الساحلي، يؤثر على مسار الحرب في اليمن، وعلى طبيعة الرمال المتحركة تحت أقدام الفاعلين المحليين. تركيا وإيران تتنازعان في اليمن بأدوات محلية. وفي حين تخوض الإمارات وقطر حرباً افتراضية على إثر الأزمة الخليجية، إلا أن سيوفهما مصقولة في اليمن. يستمر النزاع اللفظي بين أبوظبي وطهران بخصوص الجزر الثلاث. كذلك التوتر السعودي - الإيراني الذي حوّل اليمن إلى حمّام دم، وغيرها من الأمثلة التي تبدو أنها تراشق تصريحات، غير أن جوهرها صراع محموم على الساحة اليمنية، وهو ما أدى، نتيجة هذه الأطماع، إلى تدمير اليمن، وقد يؤدي إلى تمزيقه.
يستمر الدور الإماراتي في اليمن برضى واشنطن، وليس أدلَّ على ذلك ممّا عبّر عنه وزير الدفاع الأمريكي السابق جيمس ماتيس، حين شبّه الإمارات عقب سيطرتها على باب المندب في أبريل 2017 بـ"أسبرطة الصغيرة"، وهو ما يشير في دلالته التاريخية إلى تلك الدولة اليونانية التي قارعت الفرس، والدولة الخليجية التي أزاحت الحوثيين الموالين لإيران من هذه المنطقة الاستراتيجية، لتتوالى تباعاً ردود أبوظبي المنسجمة مع حليفتها العظمى، أبرزها ما جاء على لسان سفيرها في واشنطن يوسف العتيبة، نهاية العام الماضي، بقوله: "نحن لسنا موالين لأميركا فحسب، بل ننتمي للمحور الذي تقوده، وحضورها في منطقتنا يوفر الاستقرار والأمن".
هذا التناغم بين البلدين، يشير إلى أن باب المندب وغيره من المناطق الحيوية، ستبقى خارج السيادة اليمنية، وبمعنى أدق رهن السيطرة الإماراتية المباشرة، إلى أن يتفق الفاعلون اليمنيون على توحيد القرار السياسي اليمني أو حدوث تغيير جوهري في المفاعيل الإقليمية والدولية، وهو ما ليس متوقعاً في المنظور القريب.