[ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ]
اتخذت الإمارات العربية المتحدة، خلال الأسابيع القليلة الماضية، سلسلة من الخطوات تشير إلى وجود تحول محتمل في سياستها تجاه مجموعة من القضايا الإقليمية، بدأتها بإعلان انسحابها من اليمن، ثم قيامها باستئناف الاتصالات مع إيران، من بوابة الأمن الحدودي، وإبداء رغبتها في تنشيط التعاملات التجارية والاستثمارية، في محاولة واضحة لتخفيف التوتر مع طهران. فما مدى هذه التغييرات؟ وما الأسباب التي دعت أبوظبي إلى إجرائها، في وقت كانت الدلائل تشير إلى انخراطها كليًا في سياسة مواجهة إيران في المنطقة؟
مؤشرات التغيير في سياسة الإمارات
ظهرت مؤشرات على حصول تغير في سياسة الإمارات الإقليمية ابتداءً من اليمن؛ إذ أعلنت أبوظبي في 8 تموز/ يوليو 2019 عزمها تخفيض وإعادة نشر قواتها في اليمن بعد أكثر من أربع سنوات من انخراطها في الحرب فيها، لتتحول كما قالت من الاستراتيجية "العسكرية أولًا" إلى استراتيجية "السلام أولًا". بناء عليه، قامت الإمارات بإخلاء مواقع كانت تسيطر عليها في المحافظات الشمالية، تسلمت الإشراف عليها قوات سعودية، أهمها في صرواح بمأرب، وفي مدينة (ميناء) المخا، والخوخة، على البحر الأحمر. كما قامت بتسليم جزيرة بريم (ميُّون) الواقعة بباب المندب إلى قيادة قوات خفر السواحل بعدن.
وفي 30 تموز/ يوليو 2019، وصل إلى طهران وفد عسكري إماراتي رفيع برئاسة قائد قوات خفر السواحل، العميد علي محمد مصلح الأحبابي، في زيارة التقى خلالها قائد قوات حرس الحدود الإيراني، العميد قاسم رضائي، ووقع معه مذكرة تفاهم لتعزيز أمن الحدود بين البلدين، تضمنت تنظيم دخول الصيادين إلى الحدود المائية، وتسوية القضايا ذات الصلة بالمعتقلين من مخالفي قوانين الصيد ومكافحة التهريب. وقد جاء تفعيل عمل اللجنة الحدودية المشتركة بين الإمارات وإيران بعد انقطاع استمر ست سنوات. وبحسب رضائي، فإن اجتماعات منتظمة ستعقد سنويًا بين البلدين في طهران وأبوظبي، ومرة كل ستة أشهر في المناطق الحدودية. واعتبر رضائي أنّ مذكرة التفاهم توفر تسهيلات من أجل العبور الشرعي بين الحدود ونشاطات الصيد، والتصدي لكل من "يحاول انتهاك الأمن والهدوء بين البلدين". واعتبر الأحبابي أنّ المذكرة خطوة إيجابية تخدم مصالح البلدين والأمن الحدودي، ومراقبة الحدود، وتسهيل حركة المرور.
بعد ثلاثة أيام على توقيع المذكرة الحدودية، أي في 4 أب/ أغسطس 2019، أعلنت رابطة التجار والمستثمرين الإيرانيين في دولة الإمارات أنّها تلقت وعودًا من حاكم دبي، الشيخ محمد بن راشد، من شأنها حلّ مشكلات رجال الأعمال الإيرانيين المستثمرين في الإمارات، وتسهيل معاملات الراغبين في الاستثمار فيها. وتشمل الإجراءات المنتظر البدء في اتخاذها إصدار تأشيرات تجارية للمستثمرين الإيرانيين، ووقف إجراءات إغلاق حسابات بنكية للإيرانيين، وفتح حسابات بنكية جديدة للمستثمرين على الرغم من العقوبات الأميركية، وكذلك وقف سياسة إلغاء إقاماتهم.
أسباب التحول في السياسات الإماراتية
يمكن إجمال أسباب التحولات الأخيرة التي طرأت على سياسات الإمارات الإقليمية في التالي:
تتصل هذه الأسباب بفقدان الثقة بالمواقف الأميركية؛ إذ كانت الإمارات، إلى جانب السعودية وإسرائيل، أبرز المتحمسين لسياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتشددة تجاه إيران، والتي بدأت بالانسحاب من الاتفاق النووي في أيار/ مايو 2018 وإعادة فرض العقوبات عليها، خاصة تلك المتصلة بصادرات النفط. لكن الإمارات بدأت تنأى بنفسها عن الخط المتشدد تجاه إيران، منذ أن تعرضت ناقلات نفط تحمل أعلامًا سعودية وإماراتية ونرويجية في 12 أيار/ مايو 2019 لهجمات ألحقت بها أضرارًا، قبالة ميناء الفجيرة الإماراتي الذي تصدر أبوظبي 70 في المئة من نفطها عبره؛ إذ أحجمت الإمارات عن توجيه أي اتهامات إلى طهران، على الرغم من أن واشنطن سارعت إلى اتهامها بالمسؤولية عن الهجمات، وكذا فعلت لندن. ومع تكرر الهجمات على ناقلات النفط في 13 حزيران/ يونيو 2019 في بحر عمان، ثم احتجاز إيران ناقلة نفط ترفع العلم البريطاني في مياه عمان الإقليمية، ردًا على احتجاز بريطانيا ناقلة إيرانية في جبل طارق في 4 تموز/ يوليو 2019، اهتزت ثقة الإمارات أكثر بالتزام واشنطن تبني سياسة ردع قوية تجاه إيران، بعد أن تملص ترامب من مسؤولية حماية خطوط إمدادات النفط في الخليج. وقد اعتبر أن ذلك يجب أن يكون مسؤولية الدول التي تعتمد على نفط المنطقة مثل الصين واليابان وغيرها من دول شرق آسيا، في حين أن الولايات المتحدة التي باتت تعتمد على نفسها في مجال الطاقة، ولا تستورد نفطًا من المنطقة، غير ملزمة بحماية مصالح الآخرين.
بلغت حالة عدم اليقين تجاه السياسات الأميركية ذروتها عندما أحجم ترامب عن الرد على قيام إيران بإسقاط طائرة درونز أميركية، باهظة الثمن، قالت طهران إنها انطلقت من قاعدة "الظفرة" الإماراتية في 20 حزيران/ يونيو 2019، وحينها حذرت طهران الإمارات من أنها "تلعب بالنار".
وفيما كان التوتر يزداد مع إيران في الخليج، ازدادت وتيرة استهداف الحوثيين لمنشآت حيوية داخل السعودية بما فيها مطارات ومنشآت نفطية وغيرها، سواء عن طريق طائرات مسيرة أو صواريخ. في هذا الشأن أيضًا لم تفعل الولايات المتحدة الكثير لمساعدة حلفائها السعوديين؛ ما زاد من حالة عدم الثقة بمواقفها.
علاوة على ذلك، بدأت تظهر للإمارات ملامح فشل واشنطن أو عدم جديتها في إنشاء تحالف دولي لحماية حرية الملاحة في الخليج، بعد أن ظهر لأكثر المتحمسين لهذا المشروع حرص ترامب على التفاوض مع إيران وليس الدخول في مواجهة معها. دفعت عدم جدية ترامب دولًا أوروبية مهمة مثل فرنسا وألمانيا إلى الإحجام عن المشاركة في القوة البحرية لضمان حرية الملاحة في الخليج. وهو ما زاد من خشية أبوظبي من أن تترك وحدها في مواجهة إيران التي حمّلتها مع السعودية مسؤولية التحريض ورفع منسوب التوتر في المنطقة.
لقد كان من الواضح أن الرئيس الأميركي لن يتجاوز استراتيجية الحصار، ولن يحمي حلفاءه من ردود فعل إيران على الحصار التي قد توجّه إلى هؤلاء الحلفاء وليس إلى الولايات المتحدة.
2. أسباب اقتصادية
تواجه الإمارات تحديات اقتصادية مزمنة، خاصة إمارة دبي، التي لم تتعافَ حتى الآن من آثار الأزمة المالية العالمية التي هزتها في عام 2008. وتعد الإمارات، التي تربطها بإيران علاقات تجارية قوية، أكثر المتضررين من سياسة العقوبات الأميركية على طهران. وكانت الإمارات تعد نافذة إيران الرئيسة على العالم ومركز نشاطها المالي والمصرفي، فضلًا عن كونها منفذًا لإعادة التصدير والاستيراد (تجارة الترانزيت) من إيران وإليها. لكن الضغوط الأميركية عليها للحد من تعاملاتها التجارية والمصرفية مع طهران، والتي كانت تصل قيمتها إلى 16 مليار دولار سنويًا قبل الأزمة الأخيرة، ألحقت ضررًا بالغًا باقتصاد إمارة دبي خاصة. وجاء ذلك في وقت تعاني البلاد أزمات متنوعة في قطاع السياحة والعقارات والخدمات، ترافق مع انخفاض نسبي في أسعار النفط. فضلًا عن ذلك، يبدو أن مغامرات أبوظبي ومحاولاتها أداء دور دولة إقليمية وسطى، عبر التدخل في اليمن وليبيا والسودان وغيرها، استنزفت الكثير من مقدرات البلاد، من دون أن تحقق مردودًا حقيقيًا كما كان مأمولًا. ويمكن أيضًا أن نضيف أن الصورة السلبية التي صارت تطبع دولة الإمارات بسبب مواقفها المعادية للديمقراطية، وتدخلاتها في الشؤون الداخلية للعديد من دول المنطقة، أخذت ترخي بظلالها على قدرة الإمارات على جذب الاستثمارات، خاصة أن دبي تستضيف العام المقبل معرض "إكسبو 2020" العالمي، وتأمل من خلاله في إحداث نقلة نوعية في اقتصاد الإمارة.
في ظل هذه الأوضاع، جاءت أزمة ناقلات النفط والملاحة في الخليج لترفع تكلفة التأمين على السفن والصادرات، كما زادت تكلفة الحماية التي تقدمها الولايات المتحدة، سواء عبر سياسات الابتزاز التي يعتمدها ترامب، أو سباق التسلح الذي دخلته المنطقة، علمًا أن إنفاق الإمارات الدفاعي بلغ 21 مليار دولار عام 2018. وهناك أيضًا مخاطر بدأت تتشكل على حصص النفط الخليجية في الأسواق العالمية؛ ذلك أن الزبائن الكبار في آسيا، مثل الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، أخذوا يبحثون فعلًا عن بدائل للنفط الخليجي بسبب المخاوف من انقطاع الإمدادات، في حال اندلاع مواجهة وإغلاق مضيق هرمز. كما لوحظ خلال الأزمة الأخيرة حركة نزوح كبيرة للاستثمارات والأموال من منطقة الخليج، خاصة من الإمارات التي يقوم جزء مهم من اقتصادها على الخدمات والمشتقات المالية. وفضلًا عن ذلك، تأثّر بورصات الإمارات سلبيًا بأجواء الأزمة. ومن اللافت أن الرئيس الأميركي كان يحاول استغلال تدهور الوضع الأمني في الخليج، وتعرض ناقلات النفط لهجمات؛ من أجل تسويق النفط الصخري الأميركي، على حساب النفط السعودي والإماراتي في دول جنوب شرق آسيا، التي يتجه إليها أكثر من 70 في المئة من نفط منطقة الخليج.
3. أسباب أمنية وعسكرية
نظرًا إلى قربها الشديد من إيران، بدأت أبوظبي تدرك أنها قد تتحول إلى ساحة معركة في حال نشوب نزاع عسكري بين واشنطن وطهران، كما أن منشآتها النفطية هي الأقرب إلى إيران ومن ثمّ يمكن استهدافها بسهولة، بواسطة صواريخ قصيرة المدى؛ ما قد يؤدي إلى أضرار اقتصادية وبيئية كبيرة. فضلًا عن ذلك، سوف تدفع أي مواجهة من هذا النوع إلى مغادرة الشركات الأجنبية وموظفيها ومن ثمّ توقف إنتاج النفط الإماراتي. كما تخشى الإمارات من هجمات سيبرانية إلكترونية على المصارف والمنشآت النفطية الخاصة بها، وهو أمر ستكون له أيضًا تداعيات كبيرة. ولأن اقتصادات الدول الخليجية، خاصة الإمارات، تعتمد على النشاطات الاقتصادية غير الإنتاجية ووجود يد عاملة أجنبية كثيفة، فإن أي مواجهة سوف تؤدي إلى دمار اقتصادي شامل وحركة نزوح جماعي.
هذه الأسباب قد تكون دعت أبوظبي إلى إعادة النظر في حساباتها، وقررت بناءً عليه الانسحاب من اليمن؛ باعتبار أنها تحتاج الآن أكثر إلى حماية أراضيها، وكذلك إلى الانفتاح على إيران لضمان عدم حصول إجراءات انتقامية ضدها، في ظل غياب أي ثقة بالتزام واشنطن الدفاع عنها. وربما تعتقد الإمارات أن هذه هي اللحظة المناسبة للانسحاب والنأي بنفسها عن المواجهة؛ استباقًا لمفاوضات أميركية - إيرانية قد تتركها تحصد وحدها نتائج التصعيد مع إيران.