[ وادي موقعة في مديرية سامع في محافظة تعز ]
لكل منطقة ووادٍ من مناطق وأودية الحجرية، بل واليمن بشكل عام، حكاية وحدث، وتاريخ وقصة، غير مكتشفة وغير مسوّقة لليمنيين أولاً وللعالم ثانياً. هنا نعيد قراءة واكتشاف ما يمكن قراءته واستكشافه، وهذه المرة من وادي "موقعة" في شمال "الحجرية" من مديرية "سامع".
قبل أن يسحب الظلام أستاره، ومع تنفس الفجر لحظته الأولى، كانت أقدامنا تمضي بنا نحو أعماق الجبال المحيطة بنا، تسبقنا نحو المنحدرات الشاهقة من الجبال بين منطقة بني يوسف وسامع والصلو، حيث وادي العميق الساحر الخلاب.
كان هدير الشلالات المختلفة يبدد سكون المكان، وزقزقة العصافير والطيور المختلفة في الصباح الباكر تضيف زينة وروعة إلى جمال ذلك المكان، ونحن نتجه نحو ميزاب الحجرية الشمالي، ومَسْناته المتدفقة.
كل شيء هنا يعج بالجمال الآسر، والحياة الخالدة، والخضرة الخلابة النضرة، والسيل المتدفق من كل مساقط المياه في الجبال المحيطة.
ليس هنا إلا ثغرة واحدة، أو ميزاب وحيد لكل المناطق المجاورة، مآتيها من سامع الشرق، وبني يوسف الغرب، وقدس الجنوب، والصلو الشرق، وكل شرقي وشمالي الحجرية.
اتجهنا نحو وادي "العميق" من "موقعة" الذي اكتسب اسمه من صفته؛ إذ هو أعمق مكان في منطقة الحجرية بحق.
حين تصل إليه باكراً تكون خيوط الشمس الذهبية قد نسجت فوق كل تلك الجبال تمام الساعة الخامسة والنصف فجراً، لكن في هذا "العميق" لا تطل أشعة الشمس عليه إلا تمام الساعة التاسعة أو التاسعة والنصف صباحاً، وأعمق من "العميق" هو وادي موقعة الشهير، الذي تتجمع فيه كل سيول الحجرية الشمالية والشرقية ليصب في وادي ورزان.
ثلاث ساعات تعتبر مسافة زمنية طويلة بين قمم جبالها وبطون أوديتها، يقضي فيها الإنسان كل أوطاره دون أن تنهكه حرارة الشمس الساطعة تلك.
تتدفق إلى هذا الوادي شلالات كثيرة خاصة في فصل الصيف أثناء موسم الأمطار، ومن هضبة الصلو تكون معظم السيول الهاطلة التي تصب فيه كشلالات نياجرا بين الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وهذه الشلالات تكاد تكون من أعظم الشلالات المتساقطة في اليمن الأسفل والتي لو حسن استغلالها لكانت الرافد الأول للطاقة في بلادنا وبناء السدود وتغذية الأرض بالمياه الجوفية والاستنهاض الزراعي.
هذه السيول كانت السبب الأول الذي وهب هذه البلاد الحياة النابضة والجميلة وجعلت أودية "موقعة" و"ورزان" و"عقان" في لحج من أهم وأخصب أودية اليمن الذي ينضح بكل أنواع الفواكه والخضروات، من المانجو والجوافة والموز والرمان، وكذلك قصب السكر، وأشجار الكاذي العطرية، مما جعل المنطقة وما جاورها تكتفي ذاتياً بل وتصدر منتجاتها إلى مختلف أسواق اليمن.
هذا الاكتفاء والتصدير جعل السكان هناك في استقرار تام على أراضيهم ولم يعرف الغربة والترحال إلا قليل منهم، أو فيما ندر، خاصة في الزمن الماضي، فضلاً عن قلة السكان.
هذه السيول تقطع طريق الوادي ولا يستطيع أحد المرور فيه؛ لأن السيول فيه تكون هادرة وعظيمة ولا يستطيع النفر سماع بعضهم بعضا وهم متجاورون أثناء تدفق هذه السيول من شدة هديرها وتدفقها، وهذا أضفى شيئاً وخاصية من خواص الأصوات لأبناء المنطقة وهم يتحدثون إلى بعضهم بأصوات مرتفعة حتى لو كانوا متقاربين، فقد اعتادوا الصراخ والأصوات المرتفعة في الحديث.
تسمية موقعة
غالباً في المناطق اليمنية تطلق التسميات عليها من منطلقين اثنين: إما أسماء أعلام للمنطقة تعرف بها كشرعب وسامع وذبحان وشرجب والمعافر وأرحب وذمار وغيرها الكثير، وإما من صفة المكان ذاته وما يحويه من معالم؛ كالصلو المجاورة مثلاً والتي هي عبارة عن هضبة صخرية جبلية موجهة عمودياً وغرباً باتجاه الشمس الحارة لتصلى بها في معظم الأوقات فاكتسبت تسميتها من ظروفها الطبيعية وصفتها الأصلية. أو صبر مثلاً التي قيل إنها سميت به لاشتهاره بشجرة الصبر (الصبار) التي تنمو فيه بكثافة، وإن كان لنا في ذلك رأي آخر.
فلفظ "موقعة" في لهجات المعافر لمختلفة يعني المكان الواقع (المستوي) ولما لم يكن هذا المكان مستوياً فهناك مناسبة أخرى لإطلاق التسمية عليه، وهو أنه شهد معركة قديمة (موقعة) بين جيش كرب إل وتار وحامية المعافر هناك لمدن ذبحان وشرجب وغيرها، فهذا الوادي في الأساس بوابة عبور وخط وطريق من طرق القوافل القديمة التي تربط المعافر الغربية والجنوبية بالمعافر الشمالية ومنها مدينتا الجؤة والجند الشهيرتان ومدينة ماوية القديمة.
لا تزال بعض المعالم والتسميات في هذا الوادي معروفة للمسنين حتى اليوم؛ فهناك نوبة الشرجبي، وقلعة (صخرة عظيمة) الذبحاني، وحيد الذباحنة (جمع تكسير لذبحان)، مما يدل على الواقعة تلك، ومع كثير من القرائن وبعض الدلائل هذه إلا أنني لا أجزم بهذه التسمية كون اللفظ "موقعة" كمعركة لفظ شمالي أكثر منه جنوبي في لغة المسند القديم.
وقد يكون اسماً لعلم قديم كما في بعض المناطق التي ذكرناها آنفاً.
فالمنطقة كلها أساساً كانت قديماً تسمى (اليهودية)، وقد وصف جمالها وخضرتها بعض عاملين الإمام المحصلين لأموال الأعشار للإمام فأطلق عليها إسم "الخضراء"، كما يروي أهالي المنطقة، ولكن لا يدرون أي إمام هو، وعلى الأرجح هو يحيى حميد الدين كون التسمية تعود إلى قبل ابنه أحمد.
المعالم التاريخية
في عمق هذا الوادي، وعلى شرفاته وجنباته، تقع العديد من طرق القوافل القديمة التي تصل قلعة الدملؤة ومدن الجند وماوية والجؤة والعشة وتباشعة وغيرها بمدن جنوب وغرب المعافر، ولا تزال هذه الطرق مرصوفة بالحجارة إلى اليوم، وتمر منها الجمال والحمير وغيرها للمناطق الأخرى.
في الوسط من هذا الوادي توجد بقايا آثار لمعلم يبدو أنه كان خاناُ للمسافرين ومحطة تجارية من محطات تلك القوافل، ويقع في المثلث الرابط بين بني يوسف وسامع والصلو جنوب الوادي.
وفي الوسط من الوادي يوجد بقايا دار يقدر عمره بما يقارب الألف عام نظراً لطريقة بنائه وتخطيطه، يتكئ إلى جرف شق الجبل نسميه نحن أبناء المنطقة (حيد) وهذا الحيد هو سقف هذا البناء، وأعلا منه يقع حيد الذباحنة، وهو عبارة عن بئر أو سرداب من شق الجبل ينزل كمغارة إلى أسفل الوادي، واللافت أن رحلات السياح الأجانب يركزون عليه دون معرفة الأسباب، كما ذكر لي بعض الأهالي هناك!
قلعة عفاش الأسطورية
أعلى من ذلك الحيد، وفي منطقة العارضة من الخضراء سامع، وياللصدفة العجيبة! تطل منها صخرة عظيمة بمقدار بيت مكون من دورين، تسمى "قلعة عفاش"!
لهذه القلعة أسطورة يتناقلها الناس جيلاُ وراء جيل، ومع أنها أسطورة إلا أن خطواتها تطبق حرفياً على الأرض في كل جيل.
تقول الأسطورة: "إن هذه القلعة تتزحزح كل فترة من الزمن من مكانها وستسقط إلى أسفل الوادي، ولكن عند سقوطها ستقع على كنز يتقاتل عليه الناس حتى تمتلئ سائلة الوادي بالدماء، وإن آخر شخص يمر على هذا الكنز هو رجل مصري سيملأ كوفيته (طاقيته) من هذا الكنز"!!
بالنظر إلى الوقائع على الأرض فإن هذه الصخرة فعلاً قد أزيحت من مكانها الطبيعي بفعل الهزات الأرضية والدهرية وغيره، وهي الآن على مشارف الجبل وبقي لها القليل لتسقط. وبالنظر لأنها أسطورة قديمة قال بها أحد منجمي وعرافي المنطقة واسمه أحمد محمد سعيد، أحد قادات مقاومة الأتراك قديماً، ولم يكن لأي مصري تواجد في المنطقة، فإن المدرسة بجوار القلعة تلك امتلأت بالمدرسين المصريين، ولا يستبعد تحققها.
فالرجل أصلاً تنبأ بيوم وفاته، وعلامات وفاته ووقائع جنازته، وتنبأ بتمدد السكان والمساكن في أماكن مقفرة يتحقق كل ما قاله إلى اليوم حرفياً.
فقد كان الرجل عنده علم الحساب كأحد علوم الفلك، رغم أنه لم يدخل مدرسة وجامعة قط!!
حصن وقرن نعيمة
بالقرب من نهاية الوادي يقع حصن نعيمة على تلة هرمية مخروطة كأنها قرن، ويقع ضمن عزلة حوراء سامع مطلاً على وادي موقعة.
هو حصن للقيلة نعيمة العريقية حاكمة المعافر في منتصف القرن الأول قبل الميلاد، وقد كان لي شرف التنقيب عن أصل هذا القرن والحصن وصاحبته ومعرفة ذلك منذ الصغر.
لهذه القيلة الحاكمة عدة حصون ممتدة من حوراء سامع وحتى محافظة إب اليوم وكذلك حصنها في وصاب بين إب وذمار، ولا تزال كلها تتسمى باسمها، ولها قصة طويلة سنسرد كل تفاصيلها في حلقة مستقلة إن شاء الله.
هذا الحصن يناظر قلعة الدملؤة الشهير في الصلو ويعد واحداً من حاميات القلعة غرباً. فهو يقع على بعد مسافة واحدة بين حصنين وقلعتين شهيرتين؛ قلعة الدملؤة شرقاً وحصن سامع أعلى جبل الجعشة غرباً، وهذا الأخير كان قبل الميلاد بيتاً ومعبداً للإله سامع الذي تسمت المنطقة باسمه، قبل أن يتحول إلى حصن في الفترات المتأخرة.
فُلُج موقعة ونهرها الاصطناعي
في أسفل وادي موقعة إلى الشمال من منطقة المعافر ووادي موقعة يقع معلم آثاري من أهم معالم الوادي والمنطقة عموماً، وهو فلج مائي/ ساقية، أو ما يطلق عليه اليوم النهر الاصطناعي.
فعند قرية "الحرف" من وادي موقعة يبدأ منبع هذا النهر الاصطناعي/ الفلج/ الساقية، ليتمدد بين جبال ووهاد المنطقة وصولاً إلى مصبه في مدينة الجؤة الشهيرة، بين الراهدة والصلو، أسفل قلعة الدملؤة شمالاً.
يتمدد هذا النهر لنحو خمسة عشر كيلو متراً، في منحنيات وتعرجات جبل الصلو، وفي بعض الثغرات للجبل والوهاد والسوائل كان مهندسه قد حرص على بنائه فوق مصطبة معلقة وعقود حاملة تمر من تحته السيول المتدفقة ولا تؤثر على مجرى النهر. عمقه نحو 70سم وعرضه كذلك وأحياناً يصل إلى متر واحد، مبني من الحجارة ومادة القضاض الأبيض.
بني هذا النهر ليغذي مدينة الجؤة بالمياه المتدفقة والمستمرة ليس للأغراض المنزلية وحسب وملء الصهاريج والخزانات للمدينة، بل له وظيفة أخرى مهمة وعميق لا يدركها كثير من الباحثين، وهي أنه يغذي خندقاً مائياً يحيط بالمدينة التاريخية من كل مكان لحمايتها من الغزو والمداهمة.
فحول المدينة يمتد خندق كامل بعمق مترين وعرض ثلاثة أمتار بحيث لا يستطيع الفارس تجاوزه أو القفز عليه.
للفلج هذا قصة وروايات مختلفة، ومع أن القصة والرواية تكاد تكون مطابقة على أرض الواقع إلا أن الاختلاف سيكون في تحديد عمر إنشائه ومنشئه.
تقول القصة والرواية الشفوية التي تتناقلها الأجيال وحتى اليوم: إن الملك المنصوري (نسبة إلى قلعة ومدينة المنصورة/الدملؤة) أراد أن يتزوج هذه القيلة نعيمة العريقية، فاشترطت عليه أن يجري نهراً من منطقتها في موقعة إلى القلعة نفسها، ولما كانت القلعة مرتفعة جداً عن موقعة جعلوا مصبه إلى مدينة الجؤة ومن هناك يتم رفعه إلى القلعة عبر القوافل.
أثناء بناء هذا النهر عمل مهندسه على أن يكون مجراه انسيابياً لا يتعثر فيه الماء ويجري فيه بسهولة، فلما بناه أراد تجربته عبر وضع تفاحة فيه وهو راكب فرسه على ضفة النهر يتسابقان؛ فإن سبقت التفاحة الفرس فبناؤه ناجحاً، وإن سبق الفرس التفاحة فبناؤه فاسداً.
سبق الفرس التفاحة، وعمل على إعادة بنائه مجدداً، حيث رفع مكان منبعه الأول شيئاً بسيطاً ليتدفق الماء في النهر، وكرر تجربة السباق، فكان كالحالة الأولى، ثم عاد فرفع المنبع مجدداً وردم المجريين السفليين ثم جرب النهر في الثالثة فسبقت التفاحة الفرس، وهنا تمت العملية بنجاح.
ظل بناء الفلج وهو يؤدي وظيفته على حاله فترة طويلة، وحيث إن المؤرخين في تعز لم يتطرقوا لهذا الأمر بعد العصر الإسلامي الأول ولم يذكره الحسن الهمداني في كتابه صفة جزيرة العرب، رغم أنه ذكر مصبات مياه أودية سامع وصبر إلى ورزان، ظل أمر هذا الفلج مبهماً وربما كان يؤدي دوره إلى عهد الدولة الرسولية التي شهدت نهضة زراعية منقطعة النظير بعد نهضة الحميريين بها، ليندثر فيما بعد.
ورغم أن القصة والروايات تعيد بناء الفلج إلى عهد نعيمة العريقية، لكن التاريخ أعمق من ذلك، فمدينة الجوءة من قديم الزمان وأعتقد أنها من زمن دولة أوسان، التي جاءت على أنقاضها دولة قتبان، وفي مدينة الجوءة حصن شهير يعود لملك الدولة القتبانية أب شبام، الذي عاش بين القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.
ورد إسم الملك “أب شبام” في قائمة المؤرخ والباحث “فيلبي” أنه حكم في حوالي سنة 590 ق.م، وهو في ترتيب 15 بين ملوك قتبان، لكن قائمة أخرى هي للمؤرخ والباحث “كيلمانت هوار” جعله في الترتيب السادس لقائمة الملوك القتبانيين، بينما جعله المؤرخ والباحث الآثاري “ردو كناكس” في الترتيب الأول لملوك الدولة القتبانية، علماً أن هؤلاء المؤرخين مختلفون حول قوائم ترتيباتهم للملوك في كل الدول اليمنية. وتعد دولة قتبان من أهم الدول اليمنية التي حكمت أجزاء واسعة من اليمن ودخلت في صراعات مختلفة مع سبأ وأوسان، وأقدم نقش تاريخي لهذه الدولة يعود إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد أي في نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد.
في العام 2008 صورت ذلك الفلج وتتبعته من منبعه في قرية الحرف، وكان ذلك تمام الساعة السادسة فجراً، ومضيت فيه أتتبعه بفيلم فيديو متكامل منذ تلك الساعة وأنا أحسبها وانتهيت عند مصبه في مدينة الجؤة المطمورة، أو كما يسميها الناس "الجمنون" تمام الساعة الواحدة ظهراً، يبلغ طولها قرابة خمسة عشر كيلو متراً تقريباً.
كان يومها الدكتور عبدالله باوزير رئيساً للهيئة العامة للآثار، وأظهرت له تلك الصور فانتفض من مكتبه مندهشاً وقائلا: "لا يمكن أن يكون هذا في محافظة تعز"!!
أبديت استغرابي متسائلاً: لماذا؟!
قال: هذه الأفلاج لا توجد إلا في ثلاث مناطق في البلاد العربية؛ في صحراء النقب بفلسطين، أو في مسقط من عمان، أو في الشحر من حضرموت، أما تعز فغير معقول!!
قلت له أنا صاحب الصور والتوثيق ولم يروِ أحد لي هذا الأمر، فوجه يومها مدير آثار تعز المرحوم العزي مصلح بعمل دراسة متكاملة وتكاليف ترميمها، على الرغم من أن باوزير نفسه قال ترميمها يحتاج لميزانية دولة لا تصلحها إلا دولة مانحة!
في أسفل الساقية/الفلج وجدت آثار حميرية من ألواح رخامية مرسوم عليها غصن العنب، وفيها مواقع أثرية مطمورة.
بعد وصولنا هناك كان أحد المواطنين من ملاك المزارع حولها يبلغني أنه لقي جرتين صغيرتين لعملات نحاسية مندثرة ولا يكاد يبين منها شيء لأي معلم من معالمها.
منحني بعض هذه العملات وحاولت البحث فيها لمدة مستخدماً كافة وسائل التنظيف والتلميع بحذر شديد، تبين فيما بعد أنها عملات معدنية لصدر الدولة العباسية الأولى.
زراعة الوادي
يتميز وادي موقعة بزراعة أفضل وأجود أنواع المانجو والجوافة والموز بكافة أنواعها وأشكالها، فلمذاقها طعم خاص لا ينسى، يختلف عن كثير من المناطق الأخرى، ولذلك فجوافا "الجُمَرْ" من أهم الصادرات للعاصمة صنعاء وتعز وعدن تعتمد عليه الكافتيريات في العصيرات المختلفة.
تتسم شجرة المانجو هناك بضخامتها وطولها الباسق في السماء وظلها الوارف الذي يغطي الوادي من جانبيه، تقطع مسافة في ظلها لا تكاد تصل إليك الشمس خاصة في وادي العميق الأعلى، وهنا تذكرت الحديث الشريف أن "طوبى شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها".
في أعلى الوادي، ومنذ بدايته الأولى في منطقة الخضراء شجرة مانجو عجيبة ومعمرة يقدر عمرها ما بين خمسمائة عام وألف عام كون قطرها الدائري ثلاثة أمتار، ومعظم عائلات المنطقة كأسر مترابطة تقريباً لها منها نصيب.
وتعتبر شجرة الكاذي العطرية من أهم سمات الوادي الذي يصدر منها كميات كبيرة للأسواق.
كما يزرع الوادي قصب السكر أيضاً الذي يصنع منه الحلويات المحلية ولكن اندثرت هذه الصناعة والزراعة منذ عهد قريب.
كما يتم زراعة الشعير والذرة بمختلف أنواعها وكذلك البن والطنب الذي يصنع منه الأبواب الخشبية للبيوت.
زحف القات مؤخراً على هذا الوادي وباتت زراعته تنتشر انتشار النار في الهشيم للأسف الشديد على حساب المانجو والجوافة والكاذي وقصب السكر.
في أعماق هذا الوادي وبين ثنياته الهامة التي يسقط منها أهم وأكبر شلالات الصلو توجد غابة كبيرة تسمى "غابة الشوبين" الزائر لها نهاراً ووحيداً يشعر فيها بوحشة رهيبة تعكس رهبة المكان وخلوته.
في هذه الغابة تنمو بعض الحيوانات المفترسة وتتواجد في بعض الأحيان، وقد ذكر لي أكثر من مصدر أن النمر العربي يتواجد فيها.
قبل بضع سنين، في عام 2006 تقريباً، صادف أحد سكان المنطقة وجود أسد مفترس في هذا المكان وتعارك معه عراكاً شديداً استطاع التغلب عليه بفأسه الذي ضرب به رجلي الأسد الأماميتين ليستقيم الأسد برجليه الخلفيتين محاولاً افتراس الرجل غير أنها بادره بعدة ضربات في الرأس والرجلين حتى أقعده ومن ثم استطاع قتله، وتم إسعاف الرجل إلى المشفى ليصير أسطورة الناس في المنطقة.
وتكررت منها عدة حوادث أخرى قبل وبعد تلك الحادثة ولكن لضباع ونمور أخرى وذئب، شهدت إحداها مع ضبع تم مطاردته وقتله بالرصاص.
شلالات الوادي
للوادي شلالات مختلفة تكثر في فصل الصيف وتنعدم فس الشتاء ولا يبقى منها إلا القليل.
فعلى منبع الوادي إلى منتصفه تنبع أكثر من ستة شلالات بديعة من منطقة الخضراء وبني يوسف والعميق، أما من ناحية الصلو فأعظمها وأكثر السيول منها تدفقاً كونها بلاد صلبة وصلدة لا تمسك ماء الأمطار وكلها تصب في وادي العميق وترى من المديريات البعيدة المجاورة ويسمع صوتها من أماكن بعيدة، وأعتقد أنها أكثر وديان اليمن الأسفل جرياناً بالمياه، لو تم تخزينها بشكل سد كبير كما هو سد مارب الكبير فإن له فوائد جمة لن يقل أهمية عن سد مارب كون ما بعده قاعاً زراعياً خصباً ومفتوحاً وهو قاع خدير.
كل هذه العوامل جعلت أبناء المنطقة يعيشون في سلام دائم، وبحبوحة من العيش، واستقرار في السكن، ولم تخرج منهم أية هجرة خارجية بعيدة أو قريبة إلا في فترات متأخرة حينما ازدحم السكان، وقلت كمية الأراضي بين الورثة فخرد منهم من خرج للتوسع والتجارة والاغتراب، غير أن العودة إليها موسمية للنقاهة والاستجمام وقضاء الأجازات الصيفية.
لغة تخاطب نادرة
بين سكان هذه المنطقة من وادي العميق وحتى الخضراء العليا لغة تخاطب خاصة بين النساء في النداء لا يتعداها إلى الرجال والشباب، بل هي بين الفتيات والنساء فقط خاصة في النداء للبعيد.
هي ليست لغة الصفير كما عند الأتراك أو عند الأسبان، بل هي خاصة، واستعمالها خاص أيضاً، خاصة إن كانت الفتيات لا يودين الإفصاح عن التخاطب أمام الرجال أو الأغراب.
وهي عبارة عن صوت ينطلق من عمق الحلق مع مط الشفاه كصوت وسط بين البوم وعواء الذئب، لكن يكاد يكون مفهوماً قليلاً للسامع المركز على هذه اللغة.
في عمق هذا المكان أيضاً تستنطق اللهجة المعافرية القديمة وتخرج بألفاظ تكاد تكون مندثرة في أماكن مختلفة من المعافر.
فعوامل الاستقرار الذاتي، وعدم الاحتكاك بمناطق أخرى جعل سكانها يحافظون على لهجتهم الأصيلة كما هي.
ففي هذه المنطقة لا ينطقون اللام القمرية مطلقاً إلا في أضيق الأحوال، واللام الشمسية هي السائدة هنا.
وأنا أجمع لهجات المعافر المختلفة لا بد من أزور هذا المكان كلما سافرت في أجازاتي الاعتيادية لأسمع منهم دون أن يعرف أحد أنني أجمع لكي أستمع إلى كلام عادي دون تكلف أو تصنع لأخرج بحصيلة لا بأس بها من هذه الألفاظ.
في لغة التخاطب بين هؤلاء السكان تتعالى أصواتهم كما لو كانوا يتشاجرون لدى زائر غريب عن هذه المنطقة، والسبب يعود، كما قلت آنفاً، إلى أصوات السيول المتدفقة هنا بشكل مستمر، وهي أصوات هادرة تنتفي معها لغة التخاطب المنخفضة، ولذلك يلجأ الناس إلى رفع أصواتهم في التخاطب.