[ الناقد الأدبي فارس البيل في حوار مع "الموقع بوست" يتحدث عن المشهد الأدبي في اليمن ]
الدكتور فارس البيل أكاديمي وناقد أدبي يمني حصل على درجة الدكتوراه في النقد الثقافي والأدبي من كلية الآداب بجامعة عين شمس.
نشرت له عدد من الأبحاث العلمية عن القضايا الثقافية والفنون والأدب. يكتب في عدد من المجلات والصحف والمواقع العربية.
صدر له كتاب "الرواية الخليجية.. قراءة في الأنساق الثقافية"، وهو دراسة نقدية لانعكاسات الواقع الخليجي في الرواية.
كما صدر له كتاب "القصيدة السياسية.. الرؤية والفن"، وهو دراسة نقدية في الشعر السياسي، وصدر له كتاب "وشاية الليل"، وهو مجموعة قصصية فازت بجائزة الشارقة للإبداع العربي في مجال القصة القصيرة.
في هذا الحوار يرسم فارس البيل صورة متكاملة عن المشهد الأدبي في اليمن، كما يقدم عددا من الملاحظات والرؤى والأفكار المهمة حول الأدب والأدباء اليمنيين.
نص الحوار:
* دكتور فارس كانت مجموعتك القصصية "وشاية الليلك" أولى أعمالك الأدبية بعدها لم نشاهد لك عملاً أدبيا جديدا؟
** الخوف، وربما المسؤولية التي حملتنيها الجائزة، عدا عن أن الإنسان ينضج كلما مر الوقت وتختلف رؤاه، وبالتالي عليه أن يقدم شيئاً أكثر نضجاً وجودة، وأشعر أني لم أصل إلى هذه الغاية بعد، مازلت في مرحلة أدنى من الكتابة الإبداعية كما أشعر، ثم إن النقد يأخذ أغلب اهتمامي، وهو مهمتي الأولى ولم تكن الكتابة الإبداعية سوى تجريب، ومحاولة لاجتراح المهمة والوقوف في منطقة المبدع لا الناقد، حتى أدرك كيف هي العلاقة بينهما، ولأن النقد كاشف؛ فإني أتابع ما يعتمل في الفضاء العام من سيولة في الإصدارات والمطبوعات الإبداعية، وإن كان الإنتاج الإبداعي بحد ذاته ظاهرة صحية، لكن رداءة جزء كبير مما ينتج، يصيب الناقد بالأسى، ويحرض المبدع على التأني وألا ينساق وراء هذا السيل العكر.
قد أقدم على هذه المهمة من جديد، لكن لم أمتلك أسلحتها كلية، ولا مناخها الملائم، أو ربما هذا تقديري القاصر.
* في اليمن هناك غياب للمنهج في النقد الأدبي، لماذا برأيك يغيب المنهج وهل النقد لا يتم إلا من خلال منهج بعيدًا عن الذائقة الحسية للناقد؟
** ليست الفكرة تخص اليمن وحده، فالنقد توجه في إطار اللغة، ومن يبدع بها وينتقد بوساطتها، ثم إن النقد مناهج ونظريات وآراء متعددة، وممارسته ليست بالشكل المؤطر والمقيد، هو حالة من النضوج العلمي في قراءة الفن والإبداع، يمتلكه من يثابر ويطلع ويشتغل أكثر، تسنده طريقة التفكير وسلوكيات القراءة والتذوق، وبالتالي يمكن القول بضعف النقد في اليمن بعامة، فالمدرسة النقدية اليمنية تكاد تكون غائبة، أو على الأقل لا توازي مساحة الإبداع اليمنية على قلتها، ولكي يزدهر الإبداع في اليمن وحتى الفنون، لا بد من نشوء ظاهرة نقدية تقوم على التوجيه والتطوير والرفع من مكانة الإبداع، ولا بد لممارسي النقد من أن يكونوا على قدر كبير من العلم والذائقة في آن، الاعتماد على واحد منهما دون الآخر لا يصدر حكما رصينا إزاء الإبداع، فالنقد عملية كبيرة ينبغي أن يتصدرها أكفاء مقتدرون.
* تحدثت ذات مرة أنك تحب المضي في النقد الثقافي كنظرية صاعدة عن النقد الأدبي.. من باب الفضول فقط أحب أعرف الفرق بين النقد الثقافي والنقد الأدبي كنظريتين في النقد؟
** النقد الثقافي منهج حديث نسبياً، نشأ في أمريكا في تسعينيات القرن الماضي، ثم شاع في أوروبا وغيرها، وما يزال حديثا عن منطقتنا العربية، لكننا بحاجة له ربما أكثر من غيرنا من الثقافات، لأننا أعمق تاريخًا وأكثف موروثاً، ولطرائق الحياة التي نعيشها وسلوكياتنا المتفردة، كل هذا يمثل ميداناً خصبا للنقد الثقافي.
فما هو، أما النقد الأدبي فهو منهج تحليل النص الإبداعي في داخله، والعناية بكل جمالياته، من اللغة والبنية والشكل والمضمون والفكرة وحتى الدلالة، أي أنه يغوص في جماليات النص وحسب.
أما النقد الثقافي فميدانه خارج النص، وليس النص سوى الإشارة لمجاله، إذ يدرس النقد الثقافي من أين جاء النص، وكيف جاء، وما مؤثراته، يبحث في جذوره الفكرية وأسبابه الثقافية، ثم يحلل أبعاد النص الثقافية وآثاره، بشكل عام، أي أنه يتعامل مع أي نص كان جيدا أم رديئاً، كان شعرا أو حتى نكتة شعبية، كلها في مجاله لها دوافع ثقافية عميقة، ولها مدلولات ثقافية خارجية أعمق، وهكذا.
فالنقد الثقافي تحليل لكل ما يحيط بالنص، والعلائق التي ينتج منها ويؤثر فيها ويسبح خلالها، إنه ميدان فكري صاخب يتعامل مع كل العلوم، ويتداخل مع كل الفلسفات والفنون ونتاجات البشر.
* هل يمكن أن نُحمّل غياب النقد مسؤولية تكريس الرداءة في النتاج الأدبي في اليمن؟
** نعم، قلت في ردي السابق إن غياب النقد يسمح بالفوضى الإبداعية، النقد كالميزان، يزن الإبداع حتى يخرجه بأدق المعايير، فعندما نفقد الميزان، نفقد المعيارية، ونفقد الجودة والدقة، وتُظلم الأشياء، ويحدث النفاق، والمغالطات، ولا تصبح هناك مرجعية حاسمة تقدر الأشياء بقدرها، وعندما يكون هذا المشهد كله متواترا، فبالطبع تفسد الذائقة العامة للناس لأن لا دليل لها ولا معيارا ولا مرجعية يعود إليها الناس، أو تأثر في تذوقهم.
النقد قيمة عليا ضابطة وحاكمة للإبداع، فإذا ما غابت اختلت كل موازين الإبداع، وساد الهرج.
* هل هناك كاتب أو روائي أو شاعر يمني تتوقع له مستقبلا مشرقا في عالم الكتابة الإبداعية؟
** التوقع على هذا النحو، ليس بهذا التجاوز والسهولة، قلنا إن النقد معايير وموضوعية في آن، وبالتالي فإن إصدار الحكم على الأشياء لا ينبغي أن يكون سهلاً بلا اعتماد.
ولذلك يمكن القول إن هناك جيلاً جيداً يحاول ويفيد من تجارب الآخرين في ظل فضيلة الفضاء المفتوح والمعرفة المتاحة، وهناك أصوات إبداعية يمنية، تصعد تارة وتختفي تارة، تجيد مرة وتخفق أخرى، ولم تعد باعتقادي صورة البطل الإبداعي الكامل هي الرائجة، ستجد حتى في السياق الإبداعي نفسه، من يقدم عملا مدهشاً، ثم يمر به الزمن فيتراجع في عمله وتجد أنه لا يوازي سابقه، أو العكس.. وأسباب ذلك كثيرة، أهمها أن في عصرنا لا نجد المبدع المثابر، الذي ينحت الصخر ليقدم أثمن ما تجود به قريحته، إنما يخضع الأمر لخليط من المزاج والموهبة والمنافسة وحب الظهور والواجب والضرورة والوجاهة، وغيرها.
لذلك لا نكاد نحفل برموز إبداعية يمكن أن تضع فيها كامل ثقتك التفاؤلية، عوضا عن الحالة العامة، وطرق الحياة والتكنولوجيا، والقلق العام، كل هذه عوامل تنتج لنا إبداعا مهزوزاً، لا يصمد كثيرا، أو ربما لا تجد أنه من النوع الذي يخلد وتتناقله الأجيال.
* هل يتقيد النقد الأدبي بالأخلاق الاجتماعية والموروث الديني أم أن "الأدب جزء لا يتجزّأ من الفن، والفن لا حدود أخلاقية فيه" كما يدعي بعض الأدباء؟
** هذه قضية كثر فيها الجدل، والحق أن النقد هو صاحب الفصل فيها، كما القاضي صاحب الفصل في قضايا الناس العامة.
الفن من حيث هو فن، ينبغي أن يكون حراً وبلا حدود، الفن تعبير واسع الفضاء، ثم إنه يعبر عن الحياة، بمساوئها وجمالياتها، هو ناقل، لكنه ناقل في إطار فني وقالب جمالي.
والحديث عن الأخلاق والقيم في الفن لا يحددها سوى الناقد أو النظرية، ثم إن الإبداع والفن عملية تأويلية وليست واقعاً، وبالتالي لا حكما جنائيا عليها، هذا من ناحية.
من ناحية أخرى مهمة الفن والإبداع تعزيز القيم والسلوكيات، ونقد السيئ، لكن طريقة العرض تختلف دلالة وإيحاء، فلا تجد فنا يدعو إلى القتل صراحة مثلا، أو يعلمه بتحريض مباشر، لا تجد ذلك، بينما تجده في خطابات دينية ولا يقول أحدًا عنها إنها تخالف القيم.
الفن والإبداع معركتهما مع المجتمع معركة تنوير، شابها التشويه، لكن أنا مع حرية الإبداع والفن، والجيد من الأداء تقبله الذائقة مهما كان جريئا، والرديء في الأداء والتعبير ترفضه الذائقة مهما كان محتشماً، على الذائقة أن تحكم على أداء الإبداع في إطاره الفني لا في إطارها الأخلاقي.
لكن هل هذا يعني أن يكون الإبداع داعية لهدم السلوك والقيم ومعاديا للمجتمع، عندها لا يصبح فنا ولا إبداعا يمكن أن يكون شيئا آخر، لكن بالعموم على المبدع أن يجد لإبداعه أثرا جيدًا عند المتلقين وعليه إتقان رسالته مهما كانت، وأحيانا نحتاج للصدمة والجرأة، وأحيانا لا نحتاجها كاملة، كل هذا بقدر، والحكم عليه يكون فنياً لا جنائياً.
* راهناً ماذا عن المشهد الأدبي في اليمن؟ لماذا لا نلحظ أدب الحرب؟ أليست هذه الفترة أخصب فترات الإبداع؟ للتعبير عن المأساة والألم؟ لا أعني الرقص على الجراح، لكن إذا لم يقل الإبداع كلمته في هذا الخضم الهادر وغياب الرؤية، فمتى يقول؟
** ضعيف، ومحبط، وبطيء النشوء، على أن الإبداع لا ينبغي أن يتأثر بأي أحوال للناس، الإبداع ينشط في الأزمات والمآسي كما ينشط في أوقات الرفاهة، أليس الإبداع تعبيرا عن أحوال الناس كلها؟
وإذن لا نتعلل بحالة الصراع في اليمن، صحيح لها انعكاساتها، من إهمال وتخلي وعدم دعم للمبدعين، ولا سلطة لهم، ولا قدرة، لكن الفضاء مفتوح، ووسائل التعبير صارت أيسر وأسهل ولم تعد ذات كلفة.
صحيح لدينا كنوز أدبية في اليمن، لكن يكاد يكون المشهد الأدبي في اليمن خافتاً، والظاهر منه ليس بذلك النضوج المطلوب، والأصوات الجديدة تحاول لكنها ما تزال بحاجة لمران كبير، وما تزال المدرسة الأدبية اليمنية بعيدة عن التأثير العربي، والحضور الذي ينبغي، باستثناءات لرموز يمنية معينة لا يمكن إغفالها.
* أنا أعتقد أن الشعر في اليمن من حيث هو نتاج أدبي عابر للحدود المحلية توقف عند البردوني والمقالح، هل تتفق معي حول هذه الجزئية؟
** لست مع أن الأدب أو الإبداع يتوقف عند شخص ويتحرك معه، صحيح لكل هذه الرموز كل التقدير، وتجربتهم عظيمة وملهمة، لكن الإبداع نهر لا ينضب، وهو متجدد، ومتنوع، وكل صوت إبداعي له نمطه وبصمته وطريقته التي تختلف عن غيره.
أما الشعر خاصة، فالشعر اليمني لم يكن رائجاً من قبل كما ينبغي، ولا يكاد يعرف إلا عند قليل، حتى جاء البردوني وغيره وذاع، لكن ما ذاع منه هو تجارب شخصية، وليس تيارا شعريا أو اتجاهاً، وما زال الشعر كغيره من إبداعات اليمن يخضع لذات المشكلات اليمنية في الظهور والنضوج والانتشار.
* ما هي علة المشهد الشعري في اليمن.. ما هي اتجاهاته وأين وصلت مسيرة التحديث في الشعر؟
** علاته كثيرة، أولها الخفوت وعدم الظهور والسفر إلى العوالم العربية الأخرى، ينتظر اليمني حتى يقدره الآخرون من بعيد دون أن يقدم نفسه، وقد لا يجد تقديراً في حياته وهو في حالة الانتظار، باستثناء الشاعر الكبير المقالح الذي ربط علاقات واسعة وقدم اليمن والإبداع اليمني للعالم كما لم يقدم من قبل.
وما تزال علة الشعر اليمني هي المحلية والانكفاء وعدم التداخل، وضعف الإنتاج وغيرها كثير.
صحيح هناك مدرسة حديثة تحاول أن تقدم شعراً حديثاً، لكن سطوة القديم الشكلي وفن العمود والقافية هي المتسيدة، تأثراً بالمبدعين الكبار وعدم مفارقة، ويمكن القول إن اتجاهات الشعر اليمني بالعموم ما تزال هي تلك الاتجاهات القديمة، بلا اجتراح لعوالم وأفكار جديدة، ذلك أن التقليد هو السائد، والخوف من الاجتراح الجديد هو المسيطر، أضف إلى عوامل كثيرة في البنية الثقافية تتحكم في طبيعة الإنتاج الشعري وتوجهه.
* هناك غزارة في الإنتاج الأدبي في اليمن شعرا ورواية، مع ذلك ليس هناك روايات أو نصوص شعرية أخذت مكانتها الرائدة بين النتاجات العربية الأكثر إبداعاً كما لم تحرز أي من تلك النتاجات على أي من الجوائز العربية فضلاً عن البوكر؟
** قد لا تكون الغزارة المرتجاة، ما يزال الإنتاج الإبداعي اليمني ضعيفاً، وأقل من مثيلاته، وجزء مما ينتج ضعيف بالأساس ومحلي ومستهلك أو تقليدي، ليست لدينا حتى الآن تجارب متمردة وصاخبة يمكن الإشارة إليها، كانبعاثات أولية ماهرة ستشق طريقاً جديدا للإبداع الأدبي، باستثناءات خجولة.
ولذلك لا غرابة ألا تحصل الأعمال اليمنية على جوائز مرموقة، صحيح هناك عدد لا بأس به يمنياً حاز هذه الجوائز، لكنه ما يزال عدد قليل، مقارنة بالدول الأخرى، لذلك نحتاج إلى أن يندمج الموهوبون في الشأن الإبداعي العربي والعالمي بشكل جاد، وألا يشعر المبدع أنه فلتة زمانه ويصيبه الغرور من مديح وسائل التواصل، ويعتقد أنه جاء بما لم يأت به الأوائل، ما يزال الإبداع اليمني في مرحلة ما قبل النضوج، وعلى المبدع اليمني أن يثابر ليحوز المكانة اللائقة، وإلا فلا لوم لاختفائنا عن مشهد التكريم العربي، لدينا موهوبون، لكنهم يكتفون بما وصلوا إليه، ولا يشتغلون على إبداعهم بشكل جاد وعميق، وليسألوا أنفسهم كيف يجدون إبداعهم منذ بدء مسيرتهم إلى مرحلة ما هل يجدون نضوجا وإفادة من غيرهم؟ أم أنهم يجترون ذات الأفكار والمضامين والوسائل والتقانات التعبيرية؟
* كباحث مهتم في الرواية الخليجية أود لو تحدثنا عما يميز الرواية اليمنية عن الرواية الخليجية؟
** التميز من حيث المضامين والإنتاج والانتشار هو للرواية الخليجية على اليمنية، لا العكس.
الرواية اليمنية ما تزال في مراحل متأخرة، وإن تحمس الشباب مؤخرا للكتابة، لكن الرواية اليمنية بالمجمل، بحاجة لجهود كبيرة، لتخرج من عباءة التقليد، والانتقاء المبتسر، والتعالق غير الناضج، والاقتفاء اللاواعي، والمحلية المنغلقة، والضعف الكتابي، والضمور الفني، وعيوب أخرى كثيرة..
ليس هذا جلداً، لدينا نماذج جيدة، لكنها ليست مانريد ويرتجيه الإبداع، نحتاج رواية أكثر قدرة على التعبير والاجتراح، وأكثر جرأة على التناول، وأكثر فناً في التعبير والأسلوب ، وأكثر تميزاً وبراعة.
اما الرواية الخليجية فقد خطت خطوات بعيدة، ونالت مكانة مرموقة في الحيز العربي، ونضجت عبر مراحل طويلة، صحيح أنها لم تصل لدرجات عالية من الإتقان والتأثير ، لكنها صارت فناً مشهوداً، به اتقان يتطور، وتناولاتها كان مؤثرة وناقدة وثاقبة لغيوب مجتمعاتها.