[ ترى مليشيات الحوثي في ثورة 26 سبتمبر 1962 كابوسا مزعجا كونها تدين نهجها الظلامي ]
ازدادت عظمة ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 لدى اليمنيين بمختلف توجهاتهم، بعد أن أدركوا حقيقة الكابوس الإمامي الذي كان جاثما على أجزاء واسعة من البلاد، وأدركوا عظمة جيل الآباء الذين فجروا تلك الثورة والتفوا حولها ودافعوا عنها ببسالة وقدموا تضحيات جسيمة للحفاظ عليها، رغم شراسة المؤامرات التي حاكتها قوى أجنبية لوأد تلك الثورة، ولم يُعرف أن أحدا من قادة تلك الثورة ذهب للنضال ضد الإمامة الكهنوتية من الفنادق في عواصم عربية أو غيرها، أو خضع لإملاءات أجنبية لحرف الثورة عن مسارها، أو أهمل شؤون البلاد وتنازل عن سيادتها لأجل مصالح خاصة، بصرف النظر عن بعض الأخطاء أو الخلافات المستوردة بين فصائل سياسية معينة، لكنها خلافات ظلت منضبطة تحت راية الثورة رغم ما تسببت به من متاعب للثوار.
وبقدر ما تمثل ثورة الـ26 من سبتمبر حصانة صلبة للنظام الجمهوري، فإنها في الوقت نفسه تمثل كابوسا موحشا بالنسبة لمليشيات الحوثيين، التي ترى في تلك الثورة أكبر إدانة تاريخية لمشروعها الظلامي الذي ورثته عن أجدادها الأئمة السلاليين الكهنوتيين، وبالتالي فإنها تسعى إلى طمس كل ما له علاقة بثورة 26 سبتمبر وإنهاء ميراثها السياسي والاجتماعي، لدرجة تغيير أسماء المدارس والشوارع والمؤسسات الحكومية التي تحمل مسميات لرموز الثورة، كما تحرص على أن تجعل تحركاتها الانقلابية والتوسعية متزامنة غالبا مع شهر سبتمبر من كل عام، مثل انقلابها في 21 سبتمبر 2014 على السلطة الشرعية، ومحاولتها اقتحام مأرب في سبتمبر 2020، لكنها فشلت، وكررت محاولتها تلك في فبراير الماضي وما زالت مستمرة حتى اليوم، كما حاولت في سبتمبر الجاري تحقيق اختراقات ميدانية في محافظتي شبوة ومأرب.
- تكرار أخطاء الماضي
تعد ثورة 26 سبتمبر 1962 أول ثورة عربية تتعرض للانتكاسة من بين ثورات التحرر العربية التي اندلعت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كما أنها تعد أطولها زمنيا كون الحرب التي تلتها بين الجمهوريين والملكيين استمرت سبع سنوات، وها هي في انتكاستها المتمثلة في عودة الإمامة ما زالت الحرب بين الجمهوريين والإماميين مستمرة منذ سبع سنوات، وكل ذلك نتيجة الأخطاء في صفوف الجمهوريين التي يتشابه بعضها في كلتا الحالتين، بل فبعض الأخطاء تتكرر اليوم بشكل أكثر فداحة وخطرا على النظام الجمهوري، خصوصا ما يتعلق بالانقسامات والخلافات البينية، وبطء الحركة الثورية، والاستسلام لإملاءات الخارج وتنفيذ رغباته، وغلبة أسلوب المماحكات والنكايات والخيانات لدى كثير من النخب السياسية والإعلامية التي يفترض مناصرتها للجمهورية ضد أبشع خطر يهدد البلاد ووحدتها ونظامها السياسي.
لقد اكتسبت ثورة 26 سبتمبر 1962 لحظة اندلاعها زخما شعبيا بفضل الإجراءات السياسية والثورية التي اتخذها تنظيم الضباط الأحرار، وكان لتلك الإجراءات دور كبير في التعريف بالثورة وأهدافها في أوساط الشعب، مما أكسب الثورة التفافا شعبيا كان بمثابة صدمة كبيرة للإمامة، التي تعمدت تجهيل الشعب وإذلاله ليبقى مطيعا خانعا لها ومصدقا لخرافاتها وخزعبلاتها، لكن الأخطاء التي سادت مرحلة ما بعد الثورة أدخلت البلاد في مآزق سياسية واجتماعية حرجة، حيث أثرت على وحدة الصف الجمهوري، وأطالت أمد المعركة وتأخير الحسم العسكري ضد الإمامة التي استغلت خلافات الثوار وظلت تجمع صفوفها وترتب تحالفاتها الخارجية وتحاول استعادة السيطرة على مدينة صنعاء واستعادة الحكم.
ومن أبرز الأخطاء، الخلافات الأيديولوجية التي برزت بين قيادات الثورة، وهي خلافات تسبب بها حينها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي أرسل عددا كبيرا من جنود جيش بلاده لمساندة الثورة، لكنه أخطأ بنقله الخلافات الأيديولوجية بين التيارات المحافظة والتيارات العلمانية التي كانت سائدة في مصر ودول عربية أخرى إلى اليمن، وكان من نتائج تلك الخلافات أنها تسببت ببطء الحركة الثورية وزيادة كلفة الثورة ومنح الإمامة الفرصة لترتيب صفوفها وتحالفاتها الخارجية ومحاولة الانقضاض على الثورة واستعادة السلطة.
ثم إن قادة الثورة أخطؤوا عندما وافقوا على مقترح السعودية بإجراء ما سمته "مصالحة وطنية" بين الجمهوريين والملكيين، والتي بموجبها تم الاتفاق على أن يقبل الملكيون بالنظام الجمهوري مقابل استيعابهم فيه باستثناء آل حميد الدين، علما بأن تلك المصالحة اقترحتها السعودية لإنقاذ الملكيين الإماميين من هزيمة عسكرية تخرجهم من المشهد السياسي والعسكري تماما، وذلك بعد أن وصلت إلى قناعة باستحالة انتصار الملكيين وعودة الإمامة مرة أخرى، خصوصا بعد انسحاب الجيش المصري من اليمن إثر نكسة 1967، الذي كانت ترى أنه العائق الأكبر أمام عودة الملكية السلالية.
وبعد انتهاء الحرب وما سمي "المصالحة الوطنية" وزوال خطر الإمامة الكهنوتية، أخطأ الجمهوريون بإهمالهم العمل على تحصين الثورة والجمهورية، خصوصا أن الإمامة تلبست ثوب الجمهورية من بوابة "المصالحة الوطنية" لتنخر الجمهورية من داخلها، وكانت النتيجة أن الجمهوريين قطعوا رأس الإمامة لكنهم تركوا جسده الأساسي المنتشر داخل البلاد وداخل أجهزة الدولة كالسرطان، المتمثل في السلالة الهاشمية القادمة من خارج البلاد، التي تتعالى على اليمنيين بنسبها الذي لا علاقة لها باليمن.
كما أنه في مرحلة ما بعد الثورة لم تتواصل عملية التغيير السياسي والاجتماعي والإداري والاقتصادي والثقافي والإداري بشكل متسارع لإنهاء كل ما له علاقة بالعهد الإمامي، وزاد الطين بلة أن السلالة الهاشمية استغلت انتهازية الرئيس السابق علي صالح بعد وصوله إلى السلطة، وعمقت من حضورها في أجهزة الدولة والجيش، وتغلغلت في الأحزاب والبرلمان، وظلت تعمل حتى تحين الفرصة المناسبة للانقلاب على الجمهورية واستعادة حكم الإمامة السلالية العنصرية، وهو ما حدث في 21 سبتمبر 2014.
- درس ثورة 26 سبتمبر
كانت ثورة 26 سبتمبر 1962 أكبر لحظة تحول في تاريخ البلاد، ما يعني أن انتكاستها اليوم تمثل ردة تاريخية خطيرة، لا سيما أن تطور أدوات القمع والعنف والإرهاب والتي تتوفر لدى مليشيات الحوثيين ولم تكن متوفرة للإمامة السلالية، يعني أن اليمنيين يكتوون اليوم بالإمامة الجديدة أكثر من اكتواء آبائهم وأجدادهم بالإمامة القديمة، خصوصا أن الحوثيين مسنودين بتحالفات طائفية إقليمية عدوانية لم تكن تتوفر لدى الإمامة السلالية القديمة، كما أن أنماط الصراعات والتحالفات الإقليمية العابرة للدول والقوميات ستظل تغذي استمرار وبقاء مليشيات الحوثيين ما لم يبادر الصف الجمهوري إلى التوحد وتناسي الخلافات البينية للقضاء على المليشيات الحوثية، واستئصال خطر الاستعلاء السلالي والعنف الطائفي.
أخيرا، لقد اكتسبت ثورة 26 سبتمبر زخمها وتأثيرها من طبيعة أدواتها وأهدافها، كونها جاءت مغايرة لكل ما سبقها من محاولات ثورية للتحرر من الإمامة الاستبدادية الكهنوتية، كون تلك المحاولات، مثل ثورة 1948 الدستورية، وحركة 1955، كانت تهدف إلى إصلاح نظام الحكم الإمامي من داخله أو ترميمه وتجميل واجهته في أحسن الأحوال، لكن ثورة 26 سبتمبر اندلعت لاقتلاع النظام الإمامي الكهنوتي من جذوره واستئصال ما يسمى "الحق الإلهي" في الحكم، وأعلنت قيام نظام جمهوري عادل أساسه المواطنة المتساوية، ويستفاد من ذلك أن أي محاولة لاستيعاب مليشيات الحوثيين ضمن منظومة الحكم أو تحقيق السلام معها مصيره الفشل، ولن يتحقق الأمن والاستقرار في البلاد إلا بالقضاء عليها تماما، وتحصين النظام الجمهوري بأدوات ردع تمنع أي انبعاث للإمامة السلالية مرة أخرى.