[ الخاطر أكد أن الاقتصاد القطري أثبت أنه من أكثر الاقتصادات الخليجية صلابة في وجه الصدمات (غيتي) ]
قبل عامين، وبعد أسبوع من فرض الحصار على قطر، ذكرتُ أن الاقتصاد القطري سيخرج من هذا الحصار أقوى مما سبق. فكيف حاله الآن؟ وكيف واجهت قطر هذا الحصار؟
نستطيع القول إن الاقتصاد القطري كان مستعدا تلقائيا إلى حد كبير لهذا الحصار، لعاملين أساسيين هما ضعف التركيبة البنيوية لاقتصادات دول مجلس التعاون، وبعض الميزات النسبية التي يتمتع بها الاقتصاد القطري.
حقائق عن الاقتصادات الخليجية
ولمعرفة لماذا فشل حصار قطر، يجب علينا أولا معرفة بعض حقائق عن الاقتصادات الخليجية.
فهذه الاقتصادات ضعيفة هيكليا، بمعنى أنها جميعها متخصصة في استخراج مورد واحد هو النفط وتصديره إلى العالم الخارجي، في مقابل استيراد ما تحتاج إليه من سلع استهلاكية ورأسمالية وعمالة من الخارج عبر البحار والأجواء الدولية المفتوحة.
لذلك لا يوجد لديها الكثير مما يمكن أن تتبادله فيما بينها، أو ما تضغط به على قطر من خلال الحصار التجاري.
وظلت التجارة البينية في دول المجلس تراوح مكانها عند 10% من مجموع تجارتها الخارجية لعقود حتى الآن.
وبعد أكثر من نصف قرن من تصدير النفط، فشلت دول المجلس في تنويع اقتصاداتها، وبالتالي فشلت أيضا في التكامل الاقتصادي بينها، وذلك لأسباب سياسية وعوامل اقتصادية.
بل إن دول المجلس هي نفسها من دمر التكامل الاقتصادي فيما بينها (ومن أمثلة ذلك: الاتحاد النقدي، والربط بشبكتي إمداد بالغاز الطبيعي، وسكك الحديد، ومد جسر بين قطر والبحرين.. وغيرها)، وهي من قوض الاتفاقية الاقتصادية الخليجية الموحدة من أساسها، كما أنها تدمر الآن التعاون والتجارة الدولية بينها.
لذلك لا يوجد الآن الكثير مما يمكن أن تضر به دول المجلس دولة قطر، أو ما يمكن أن تخسره هي أو قطر جراء هذا الحصار.
فهذه الدول لم ترتبط أساسا بعلاقات اقتصادية قوية ولا منظومات وحدوية يمكن أن يؤدي تفككها إلى زعزعة الاستقرار الاقتصادي أو خسائر اقتصادية كبيرة تتكبدها هذه الدول. هذه هي البيئة الاقتصادية الخليجية التي ولد فيها الحصار.
اقتصاد قطر الأفضل
في مقابل ذلك ليس الاقتصاد القطري بالاقتصاد الضعيف في هذه المجموعة، بل هو من أفضلها أداء وصلابة حتى وهو تحت الحصار، فهو يتمتع ببعض الخصائص والميزات النسبية التي مكنته من مواجهة الحصار وتحييد آثاره.
ويمكن تقسيم السياسات الاقتصادية التي تبنتها قطر إلى نوعين: سياسات اقتصادية سليمة قبل فرض الحصار، وسياسات اقتصادية سليمة مضادة للحصار.
ففيما يتصل بالنوع الأول، تبنت قطر مبكرا سياسات اقتصادية كلية سليمة لاستغلال الموارد الطبيعية الضخمة وبناء اقتصاد حقيقي قوي وقادر على امتصاص الصدمات خلال عقدين أو أكثر قبل فرض الحصار، وذلك من خلال الاستثمار في:
أ) بنى إنتاجية، من خلال تأسيس أكبر بنية تحتية لإنتاج وتصدير الغاز الطبيعي المسال في العالم، وهذا شكّل مصدر دخل مستقر لقطر إلى حد مقبول خلال الأزمات السابقة وخلال هذه الأزمة.
ب) بنى تحتية (من شبكة اتصالات ومواصلات وموانئ ومطار) حديثة ومتطورة، تربط قطر بالعالم الخارجي وتساعدها على تجاوز الحصار، والوصول إلى مصادر الاستيراد الأصلية والبديلة.
ت) بنى استثمارية، لضمان التراكم واستثمار عوائد القطاع الهيدروكربوني وتوزيعها جغرافيا عبر العالم، واقتصاديا عبر استخدام الأصول (المالية والحقيقية كالنفط والصناعة وغيرهما) لإدارة الدورة الاقتصادية وتعزيز الاستقرار الاقتصادي في أوقات الركود والأزمات، وتنويع مصادر الدخل وحفظ حقوق الأجيال.
ث) تبني سياسات احترازية كلية متحفظة لتحصين القطاع المالي مبكرا مع بداية ارتفاع أسعار النفط، وتحصين الدورة المالية مع بدايات العقد الماضي عامي 2003 و2004، وهذه شكلت درعا واقيا للقطاع المالي ضد الصدمات والأزمات المالية السابقة والحالية.
هذه السياسات والبنى التحتية تؤتي أكلها الآن وتشكل روافد لدعم استقرار واستمرار الاقتصاد القطري في وجه الحصار.
سياسات مضادة للحصار
أما فيما يتصل بالسياسات المضادة للحصار بعد فرضه، فيمكن تقسيمها إلى:
أولا- سياسات قصيرة الأجل لمواجهة أثر الصدمة وتعزيز استقرار قطاع الاستيراد والقطاع المالي من خلال الدعم والتدخل المباشر وتحويل خطوط ومصادر الإمداد إلى وجهات بديلة.
كما تم توسيع الطاقات التخزينية لأغراض الأمن الغذائي والإمداد اللوجستي لضمان تدفق السلع بالأسعار المناسبة، بالإضافة إلى ضخ سيولة في القطاع المالي للتعويض عن خروج رؤوس أموال (معظمها لدول الحصار) وتعزيز استقرار العملة والاستقرار المالي.
ثانيا- سياسات متوسطة وطويلة الأجل، وتتركز حول العمل على تنويع الاستيراد والإنتاج، والاعتماد أكثر على الذات، والحد من الانكشاف على دول الحصار، وبناء اقتصاد قوي بمعزل عن جيران لا يوثق بهم لتجنب التعرض للصدمات وزعزعة الاستقرار الاقتصادي مستقبلا.
ففي القطاع الحقيقي، تبنت قطر مجموعة من السياسات لدعم الإنتاج الزراعي والحيواني والصناعات الخفيفة وجذب السياحة والاستثمار، وتنويع الشركاء التجاريين والماليين، وهي مستمرة في برامج البنى التحتية وكأس العالم، وفي "تركيم" وتنويع الاستثمارات الخارجية اقتصاديا وجيواقتصاديا (لبناء علاقات على مصالح مشتركة مع دول مؤثرة على ساحتي الاقتصاد والسياسة العالمية).
كما زادت إنتاج الغاز الطبيعي لدعم الاحتياطات والنمو والثقة في الاقتصاد وتقوية علاقات قطر الجيواقتصادية، من خلال ربط صادراتها بدول مؤثرة اقتصاديا وسياسيا على الساحة العالمية.
ويبقى قطاعا النقل والسياحة الأكثر تضررا بالحصار نظرا لظروف الجغرافيا، وقد تبنت قطر سياسات لجذب السياحة ودخلت في شراكات مع بعض خطوط الطيران العالمية الأخرى.
قطاعات تأثرت إيجابيا
من القطاعات التي تأثرت إيجابيا بفعل الحصار، قطاع الإنتاج الحيواني والزراعي والصناعات الخفيفة والإمداد اللوجستي، فأصبح هناك زيادة وتنوع في الإنتاج مع قدر جيد من الاكتفاء الذاتي بدرجات متفاوتة.
وأصبح قطاع الاستيراد أكثر مرونة وأقل انكشافا على دول الحصار بفضل تحويل خطوط الإمداد إلى وجهات بديلة وإلى مصادر الاستيراد الأصلية مباشرة دون الحاجة للعبورعن طريق دول الحصار.
إذن نستطيع القول إنه أصبحت هناك مرونة أكبر في الاستيراد وتنوع أكثر في الإنتاج وانكشاف أقل على دول الحصار.
فالحصار أتى بنتائج عكسية، على غير ما تشتهي دول الحصار، فعوضا عن إضعاف الاقتصاد القطري، عمل الحصار على تقويته واعتماده أكثر على الذات والتنويع بالضرورة، وهذه نتائج إيجابية حولت الحصار إلى جرعة تحصين لإكساب الاقتصاد القطري المناعة والقوة، فرب ضارة نافعة.
لقد أثبت الاقتصاد القطري أنه من أكثر الاقتصادات الخليجية صلابة في وجه الصدمات، وأفضل أداء من اقتصادات محاصريه.
توقعات قوية
وتقدر التوقعات أن يصل معدل النمو السنوي للاقتصاد القطري على المدى المتوسط حتى العام 2020، إلى 3% (يدعمه في ذلك ارتفاع إنتاج وأسعار النفط والغاز، والإنفاق الحكومي السخي على برامج البنية التحتية وكأس العالم، وسياسات دعم وتنويع الإنتاج في القطاع الحقيقي، مع فوائض في الميزانية والحساب الجاري تقدر بنحو 4.7% و8.7% على التوالي من الناتج المحلي الإجمالي، ومعدل تضخم معتدل عند 2% حتى العام القادم.
ويبقى التحدي الأكبر الذي يواجه الاقتصاد القطري على المدى الطويل هو التنويع بعيدا عن الموارد الهيدروكربونية الناضبة والمعرضة لتقلبات أسعار الطاقة ومفاجآت التكنولوجيا وعلل الاقتصاد الريعي الكثيرة. والعنصر الأهم والتحدي الأصعب في تنويع الاقتصاد هو بناء رأس المال البشري.