[ ديفيد كورنويل (جون لو كاريه) عاش حياة مزدوجة كجاسوس ودبلوماسي ثم كأديب روائي (شترستوك) ]
توفي جون لو كاريه ملك روايات التجسس البريطاني عن 89 عاما جراء إصابته بالتهاب رئوي حاد على ما قال وكيل أعماله وعائلته.
وقال جون غيلر رئيس مجموعة "كورتيس براون" ومقرها في لندن "بحزن كبير أعلن وفاة ديفيد كورنويل المعروف في العالم بأسره باسم جون لو كاريه بعد مرض قصير (غير مرتبط بكوفيد-19) في منطقة كورنويل مساء السبت 12 ديسمبر/كانون الأول 2020. كان في سن التاسعة والثمانين. تتجه أفكارنا إلى أبنائه الأربعة وعائلاتهم وزوجته العزيزة جاين".
وُلد لو كاريه باسم ديفيد كورنويل عام 1931، وعمل في المخابرات البريطانية "إم آي5″ (MI5) و"إم آي6" (MI6) خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
ودارت روايات الأديب الراحل حول الحرب الباردة ورسم عالم الجاسوسية في تلك الحقبة التي عرفت قصصا مثيرة للجواسيس الأميركيين والسوفيت على حد سواء. وقدم لو كاريه صورة مختلفة لعالم الاستخبارات البريطانية حيث تزول الحدود الفاصلة بين الصواب والخطأ، وتبرر الغاية الوسيلة، بعيداً عن الصور المثالية والرومانسية التي رسمها سواه من الروائيين الذين كتبوا في الأدب البوليسي والجاسوسية.
حياة سرية أضحت روايات شهيرة
وعاش لو كاريه طفولة صعبة مع أبيه بعيدا عن والدته، وانتقل إلى سويسرا ليلتحق بجامعة برن لدراسة اللغات الحديثة، وهناك تم تجنيده من قبل جاسوس بريطاني يعمل متخفيا في السفارة، حيث بدأت حياة التجسس لقرابة 16 عاما قبل أن يحول خبرته في الجاسوسية إلى الكتابة الأدبية عنها.
لفترة وجيزة، عاش حياة ثلاثية: دبلوماسي، وجاسوس، وروائي، ومنعته السلطات من الكتابة باسمه، فاختار "جون لو كاريه" الذي اشتهر به.
كتب تيموثي غارتون آش في مجلة نيويوركر (New Yorker) عام 1999، "من الناحية الموضوعية، موضوع لو كاريه الحقيقي ليس التجسس. إنها متاهة خادعة لا نهاية لها للعلاقات الإنسانية: الخيانة هي نوع من الحب، الكذبة التي هي نوع من الحقيقة، الرجال الطيبون يخدمون القضايا السيئة والأشرار يخدمون الخير"، بحسب ما نقلته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
اعتبر بعض النقاد أن رسالة السيد لو كاريه مفادها أن النظامين -الشرق والغرب- متكافئان أخلاقيا، وكلاهما سيئ بالقدر نفسه لكنه لم يصدق ذلك، إذ قال لو كاريه في إحدى المقابلات "هناك فرق كبير في العمل من أجل الغرب والعمل من أجل دولة شمولية"، في إشارة إلى عمله كجاسوس في الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي.
وعنه يقول المؤلف إيان ماك إيوان لصحيفة "ذا تلغراف" (The Telegraph) البريطانية في عام 2013 "أعتقد أنه خرج بسهولة من كونه كاتبًا من النوع الأدبي، وسوف يُذكر على أنه ربما يكون أهم روائي في النصف الثاني من القرن العشرين في بريطانيا"، مضيفًا "لقد رسم خريطة تدهورنا وسجل طبيعة بيروقراطياتنا كما لم يفعلها أي شخص آخر".
في عام 1954، تزوج كورنويل (لو كاريه) من أليسون آن فيرونيكا شارب. وأنجبا 3 أبناء – قبل أن ينفصلا في عام 1971، ويتزوج في العام التالي من فاليري جين يوستاس، وهي محررة كتب لدار هودر وستوكتون العريقة (Hodder & Stoughton)، وأنجبا ابنا واحدا.
واشتهر لو كاريه بروايته العالمية "الجاسوس الذي جاء من البرد" (1963) وتحولت لفيلم سينمائي، وتحولت أيضًا رواياته له -منها "سمكري خياط جندي جاسوس" و"أكثر رجل مطلوب"- لأفلام شهيرة.
مفردات مميزة
في كتبه، كان جهاز المخابرات السرية، والمعروف باسم "إم آي6" (MI6)، هو "السيرك"، وكان العملاء "محبطين"، والعمليات التي تنطوي على الإغواء كانت "مصائد العسل"، وكان العملاء الراسخون بعمق داخل العدو "حيوانات الخُلد"، وهي كلمة كان يُنسب إليه الاستخدام الواسع إذا لم يخترعه. تم استخدام مثل هذه التعبيرات من قبل جواسيس بريطانيين حقيقيين لوصف عملهم ، مثلما استوعبت المافيا لغة "الأب الروحي" في أساطيرهم.
في حياته المهنية التي امتدت لأكثر من نصف قرن، كتب لو كاريه أكثر من 20 كتابًا ووضعها في أماكن بعيدة مثل رواندا والشيشان وتركيا ومنطقة البحر الكاريبي وجنوب شرق آسيا. وتناول مواضيع متنوعة مثل قوة شركات الأدوية، والصراع العربي الإسرائيلي، وبعد سقوط جدار برلين وأصبحت رواياته أكثر إثارة للجدل.
مواقفه السياسية
انتقد لو كاريه الكاتب سلمان رشدي بخصوص كتاب الأخير "آيات شيطانية"، مشيرًا إلى أنه "لا أحد لديه حق إلهي لإهانة دين عظيم ونشر هذه الإهانة مع الإفلات من العقاب"، بحسب تقرير لصحيفة إيكونوميست (Economist).
وفي يناير/كانون الثاني 2003، قبل شهرين من الغزو الأميركي للعراق، نشرت صحيفة التايمز البريطانية مقال لو كاريه بعنوان "لقد جن جنون الولايات المتحدة" ينتقد التصعيد لحرب العراق ورد الرئيس جورج دبليو بوش على هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، وقال إنها "أسوأ من المكارثية، وأسوأ من خليج الخنازير. وعلى المدى الطويل قد تكون كارثية أكثر من حرب فيتنام" و"أبعد من أي شيء كان أسامة بن لادن يأمل فيه، خلال أحلامه الشريرة"، على حد تعبيره.
وفي عام 2017، أعرب لو كاريه عن مخاوفه بشأن مستقبل الديمقراطية الليبرالية، قائلاً "أفكر في كل الأشياء التي كانت تحدث في جميع أنحاء أوروبا في الثلاثينيات، في إسبانيا، في اليابان، ومن الواضح في ألمانيا. بالنسبة لي، هناك إشارات قابلة للمقارنة تمامًا مثل صعود الفاشية، وهو معد، فالفاشية قائمة وتعمل في بولندا والمجر. وهناك تشجيع"، وكتب لاحقًا أن نهاية الحرب الباردة تركت الغرب دون أيديولوجية متماسكة، على عكس "فكرة الحرية الفردية، والشمولية، والتسامح -وكل ما نسميه معاداة الشيوعية" السائد خلال ذلك الزمن.
عارض لو كاريه كلاً من الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بحجة أن رغبتهما في السعي إلى الحفاظ على مكانة بلديهما كقوتين عظميين تسببت في اندفاع "للأوليغارشية – حكم الأقلية" (Oligarchy)- ورفض الحقيقة، وازدراء الناخبين والنظام الديمقراطي"، معتبرا أن الولايات المتحدة "تتجه مباشرة إلى أسفل الطريق نحو العنصرية المؤسسية والفاشية الجديدة".
وفي روايته الأخيرة "عميل يجري في الميدان" كتب أن بوتين كان "جاسوسًا من الدرجة الخامسة.. فسّر الحياة كلها من منظور مؤامراتي" وحكم روسيا بـ"عصابة من الستالينيين غير النادمين"، منتقدا في الوقت ذاته سياسة ترامب الخارجية باعتبارها تابعة لروسيا وتعيق الحكومة البريطانية لمواصلة التعاون مع الولايات المتحدة في ظل رئاسته التي لا تبالي بالوحدة الأوروبية ولا الناتو ولا حقوق الإنسان.
كان لو كاريه مدافعًا صريحًا عن التكامل الأوروبي وكان ينتقد بشدة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، واتهم لو كاريه السياسيين اليمينيين مثل بوريس جونسون، بالترويج للحنين القومي إلى النظام الطبقي، والحرب العالمية الثانية، والإمبراطورية البريطانية، معتبرا أن السياسيين يخلقون حنينا مزيفا إلى إنجلترا غير حقيقية، وهو شيء لا يمكننا العودة إليه!
وفي عام 2019، كتب لو كاريه "أعتقد أن روابطي الخاصة بإنجلترا قد تلاشت بشكل كبير خلال السنوات القليلة الماضية. وهذا نوع من التحرر ، وإن كان محزنًا".