[ العيطة كانت سلاح الحاجة الحمداوية لمقاومة الاستعمار زمن الخوف، وفي زمن الاستقلال كانت لحن فرح وبهجة (الجزيرة) ]
عاشت الفنانة المغربية الحاجة الحمداوية حياة الفقر والترف، جالت مدن العالم لتنشر تراث فن العيطة، تقلبت في ظلام المخافر والسجون، وكانت ضيفة محبوبة لدى الأميرات والملوك.
وبعد 7 عقود من الكلام الموزون، ركنت الحاجة الحمداوية (90 سنة) أيقونة العيطة المغربية، للصمت وأعلنت اعتزالها.
من المسرح للعيطة
ورثت الحاجة الحمداوية -واسمها الحقيقي الحجاجية الحمداوية- حب العيطة (وهي تراث شعري وموسيقي تقليدي) عن والدها الذي كان يعشق هذا الفن، وكان لا يدع مناسبة تمر دون الاحتفال بدعوة "الشيخات"، وهي فرقة غنائية نسائية تغني العيوط (جمع عيطة).
بعد إنهاء زواجها في سن 19 عاما، دخلت الحجاجية عالم الفن من باب المسرح ضمن فرقة الفنان المغربي الشهير بوشعيب البيضاوي، ولم تكن تعلم وهي تؤدي أدوارها المسرحية أن طريقا آخر سينفتح أمامها وسيكون لها فيه الريادة ولن يفارقها عنه سوى وهن الجسد وضعفه.
تحوّلت الحجاجية من المسرح إلى غناء العيطة بعدما لمس البيضاوي في صوتها بحة مميزة، وفي العيطة وجدت ذاتها وأبدعت وأتقنت حتى صارت أغانيها على كل لسان، وتركت بصمتها الخاصة على تراث مغربي عمره قرون.
ضيفة على السجن
كانت الحاجة الحمداوية ضيفة دائمة على مخافر الأمن الفرنسي في مرحلة الاستعمار، فبعد كل أغنية تغنيها يتم استدعاؤها واستنطاقها بشأن معاني كلمات الأغنية والمقصود منها والتلميحات التي وراءها.
وحين غنت الحمداوية في الخمسينيات أغنية "آش جاب لينا حتى بليتينا آ الشيباني (العجوز)… آش جاب لينا حتى كويتينا آ الشيباني… فمو مهدوم (مكسور) فيه خدمة يوم"، لم تكن تعلم أن هذه الكلمات التي صارت على لسان جميع المغاربة ستصبح علامة فارقة في قدرها.
فبسبب هذه الأغنية ذاقت مرارة السجن والتعذيب، إذ اتهمتها الإدارة الاستعمارية الفرنسية في الدار البيضاء بلمز وذم "ابن عرفة" الذي نصبته سلطات الحماية الفرنسية سلطانا على المغرب بعد نفي السلطان الشرعي محمد الخامس.
وكما تعرضت الحمداوية للاعتقال والتعنيف، تعرض عدد من فناني العيطة من جيلها للقمع والتضييق في تلك المرحلة، حيث كانت الفرق الغنائية التقليدية تتنقل بين المدن والقبائل بترخيص وإذن مختوم من الإدارة الاستعمارية، فكان يحرم منه الفنانون الذين يغنون أنواعا معينة من "العيوط" خاصة تلك التي يعتبرونها تحريضية وتقوي العاطفة الوطنية والدينية.
مغنية القصور
لم تتحمل الحمداوية المضايقات المستمرة التي تعرضت لها بسبب أغانيها، فحملت أوجاعها وهاجرت إلى باريس حيث تعرفت على ثلة من الفنانين المغاربة والعرب.
وفي عاصمة الأنوار، أبدعت في أداء أغان جديدة ظلت علامات فارقة في مشوارها الفني، لكن المضايقات والاستجوابات لم تتوقف من طرف عناصر الأمن، فرجعت إلى المغرب بعد عودة السلطان محمد الخامس من المنفى.
بعد الاستقلال بدأت نجاحاتها تتوالى، فغنت في القصور الملكية في عهد 3 ملوك: محمد الخامس والحسن الثاني ومحمد السادس، وغنت في حفلات الجنرال محمد أوفقير ورجال الدولة، كما شاركت في إحياء زفاف الملك محمد السادس وشقيقه الأمير الرشيد.
كانت وقفتها على المسرح وهي تحمل الدف وترتدي القفطان المغربي الأنيق، تضفي على أدائها سحرا جعلها تحظى بإعجاب الجمهور واحترامه وتقديره.
بصمة خاصة
حافظت الحاجة الحمداوية على فن محكي شفوي، وتركت بصمتها المميزة فيه، فهي -كما يقول الباحث المختص في فن العيطة حسن نجمي للجزيرة نت- أعطت هذا التراث الموسيقي والشعري نفسا عصريا، ويضيف "كلمات أغانيها مأخوذة من معجم العيطة بتوزيع موسيقي عصري أي أنها أخضعت العيطة لمقتضيات التوزيع الموسيقي الأوركسترالي، مما جعل فنها سريع الانتشار ويلامس العمق والوجدان المغربي العام".
ويوضح أن هذا التجديد لم يكن "تجديدا كاملا مبنيا على القطيعة مع أشكال الموسيقى التقليدية، بل بقي مرتبطا بالشكل التقليدي ولكن في الوقت ذاته فيه نفس مختلف ونوع من الاستيلاد والتطوير من الداخل".
والعيطة بحسب نجمي -الذي يعد من أهم الباحثين في هذا التراث الغنائي المغربي- هي موسيقى تقليدية تعود من حيث الجذور للقرن 12 الميلادي خلال الفترة الموحدية عندما توافدت القبائل العربية للمغرب واستقرت فيه.
ولغويا هي النداء والصراخ والبكاء، واصطلاحا هي تراث شعري غنائي موسيقي شفوي، وممارسة فنية عربية اللسان توارثتها وتناقلتها أجيال عن أجيال، ولا يعرف مؤلفها الشعري والموسيقي وإنما تقوم مثل كل تراث شفوي على مصدر مجهول.
والعيطة، بحسب نجمي، هي جزء من التنوع الموسيقي التقليدي المغربي، إذ يوجد في المغرب حوالي 52 نوعا موسيقيا يتوزع إلى أنواع أمازيغية وعربية مثل الملحون وموسيقى الآلة والغناء الأمازيغي والغناء الشائع في المغرب الشرقي وغناء البحر وغناء الجبل وغناء الصحراء وغناء السهول وغيرها.
قوة وضعف
أن تكون المرأة مغنية أو شيخة في بداية القرن الـ20 في المغرب فهذا تحد كبير خاصة في المرحلة الاستعمارية حيث تدهورت صورة الشيخة بكيفية جارحة وألصقت بها سمعة سيئة.
يقول حسن نجمي في كتابه "غناء العيطة.. الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية بالمغرب" إن الشيخة "تستمد قوة حضورها من الجماعة وفي نفس الآن تستمد من الجماعة ضعفها، إنها تصنع وتزرع الفرح في نفوس الأفراد والجماعات وتتلقى منهم في المقابل بكيفية مفارقة ما يخدش صورتها ويجرح كيانها الداخلي".
وذلك لأن المجتمع، بحسب نجمي، يعيش حالة انفصام سيكولوجية بين الانشداد إلى التطهرية الزائفة أو نفاق المظهر الأخلاقي وزيف الوقار الاجتماعي من جهة، وتحقيق حاجاته الاجتماعية والثقافية والفنية من جهة أخرى، على حد قوله.
في وقت كانت الخطوط الحمراء مرسومة للنساء، تاقت الحاجة الحمداوية للحرية وأصرت على ملاحقة حلمها، فتحدت محيطها المحافظ ونجحت في تحقيق الريادة في فن العيطة وأعادت لها مكانتها اللائقة ومجدها الضائع.
صدحت بصوتها كلاما خالدا وعبرت عن هموم الناس ومعاناتهم وقضاياهم اليومية وغنت "منين أنا ومنين أنت"، "أنا حاضية البحر لا يرحل"، "مشا سيدي مول التاج وجا بنعرفة مول العكاز"، "آويلي الشيباني دابا يعفو يتوب"، كانت العيطة سلاحها لمقاومة الاستعمار زمن الخوف، وفي زمن الاستقلال كانت لحن فرح وبهجة.