"وصلت الأخبار بتسليم القدس إلى الفرنج، فقامت القيامة في بلاد الإسلام، واشتدت العظائم بحيث إنه أقيمت المآتم…؛ [فـ]ـيا خجْلة ملوك المسلمين"!! هذا مشهد آخر من تاريخنا.. ليس من موقع الانتصارات ولا مكلَّلا بالشرف والبطولة، بل هو جانب آخر مظلم نعاه الإمام المؤرخ ابن سبط الجوزي (ت 654هـ) بتلك الكلمات، حين تحدث عن لحظة تسليم القدس يداً بيد إلى المحتلين الصليبيين، عبر "صفقة" مشبوهة أبرمها معهم سلطان مسلم في كواليس مظلمة، لكنها تنضح بالكثير كنظائرها التي تشترك معها في هاجس واحد عند كل بائع: ديمومة السلطة وثمراتها!!
تاريخ المسلمين -مثل أي تاريخ- هو تاريخ الناس والحياة، ويجب ألا يُختزل في صورة مثالية براقة، بل إننا نحتاج كثيرا إلى أن نهدئ وتيرة دراسة تاريخ الأمجاد والانتصارات لصالح مراجعة تاريخ الهزائم والخيانات، فلحظات الانهيار قد تكون أشد كشفا للحقيقة من لحظة الصعود. وهذا المقال محاولة لاستقراء بعض صفقات بيع الأوطان في تاريخنا؛ لنحكي كيف توغل المحتل؟ وهل دخل عبر الحدود فقط أم أيضا عبر الجيوب الداخلية؟ بعرض تفاصيل تروي الجانب الآخر من قصص الحروب الصليبية وسقوط الأندلس، وكيف أنها لم تكن قصة جيش قد يُهزم بل حديثَ نزوةِ سلطةٍ وقضايا بيعت في "صفقات قرون"!!
انبطاح للصليبيين
لم يكن الشرق الإسلامي سباقا إلى ظاهرة خيانة الأمة والأوطان، ومع ذلك فسنبدأ به نظرا لمركزيته وتعدد جبهات الغزو الأجنبي له؛ فقد شهدت بلاد الشام ومصر خلال عصر الحروب الصليبية –الذي تواصل بين 490-690هـ- عدة خيانات أدت -أو كادت- إلى سقوط بعض المناطق والمدن الإسلامية ذات الأهمية الكبيرة في يد العدو الصليبي، فالأمير الصليبي بلدوين الأول (ت 512هـ) -الذي استطاع احتلال مدينة الرها (= ‘أورفا‘ التركية اليوم) وإقامة أول إمارة صليبية بها عام 491هـ- توجّه صوب مدينة سُمَيْساط (موقعها اليوم جنوبي تركيا) فاحتلها. وفي ذلك يقول ابن أبي الدم الحموي (ت 642هـ) في كتابه ‘المختصر في تاريخ الإسلام‘: "ودخلت سنة تسعين وأربعمئة: … وفيها فتحت الفرنج أنطاكية وسُميساط".
ولكن بلدوين -قبل أن يشرع في حصار سُمَيْساط- أرسل إليه حاكم المدينة السلجوقي -الذي يُسمَّى "بولدق" حسب غالب الدليمي في كتابه ‘موقف الأرمن من الحروب الصليبية‘- يعرض تسليم سُمَيْساط مقابل عشرة آلاف دينار ذهبي (أي نحو 1.7 مليون دولار أميركي الآن)، الأمر الذي وافقَ عليه بُلدوين ورآه فرصة لا تعوض. وهكذا سقطت سُميساط بسبب خيانة ذلك الأمير الذي باعها بثمن بخس؛ وفقا لرواية أوردها المؤرخ المعاصر للحروب الصليبية وليم الصوري (ت 582هـ) في كتابه ‘تاريخ الحروب الصليبية‘؛ ونقلها عنه غالب الدليمي في كتابه المذكور.
وفي العام نفسه؛ سقطت أنطاكية -وهي المدينة الشامية الساحلية الكبرى آنذاك- في أيدي الصليبيين بخيانة أيضًا؛ فقد حاصرها الصليبيون في حملتهم الأولى حين كان يحكمها -منذ عام 479هـ- الأمير السلجوقي ياغي سيان (ت 491هـ) باسم السلطان السلجوقي ملكشاه (ت 485هـ). وللتضييق عليها أقام الصليبيون بالقرب منها قلعة على تل قريب لإحكام الحصار الذي استمر تسعة أشهر، وكان ياغي سيان قد عهد إلى قائد أرمني أسلم أخيرًا بحماية أبراج المدينة، لكن هذا الأرمني خان المسلمين فسلمها إلى الأعداء مقابل رشوة!
وفي ذلك يقول المؤرخ عز الدين بن الأثير (ت 630هـ) في ‘الكامل‘: "فلما طال مُقام الفرنج على أنطاكية راسلوا أحد المستحفَظين للأبراج، وهو زرّاردٌ (= صانع دروع) يُعرف بـ‘رُوزبة‘، وبذلوا له مالا وإقطاعًا، وكان يتولى حفظ برجٍ يلي الوادي، وهو مبني على شباك في الوادي، فلما تقرّر الأمر بينهم وبين هذا الملعون الزرّاد، جاءوا إلى الشُّبّاك ففتحوه، ودخلوا منه"؛ وسقطت المدينة بسبب هذه الخيانة لتصدق عليها بذلك مقولة إن "القلاع والحصون لا تسقط إلا من الداخل"!
وكادت مصر أن تسقط في أيدي الصليبيين بسبب طمع وخيانة ولاتها؛ فقد دخلت مصر -بعد وفاة الخليفة الفاطمي المستنصر بالله (ت 487هـ)- في عصر جديد سُمي بعصر سيطرة الوزراء، تصارع فيه الوزراء الأقوياء وكبار القادة وبعض الولاة على الحكم والسُّلطة في ظل خلفاء فاطميين ضعاف.
وكان أشهر هذه الصراعات ما وقع -في رمضان سنة 558هـ- بين القائد العسكري ضرغام بن عامر اللخمي (ت 559هـ) والوزير شاور بن مجير السعدي (ت 564هـ)؛ إذ استطاع ضرغام انتزاع منصب الوزارة الفاطمية، فما كان من شاور إلا أن انطلق صوب دمشق ليطلب العون والغوث من السلطان الزنكي نور الدين محمود (ت 569هـ) الذي أكرمه وعزم على مساعدته في مقابل أن "يعود إلى منصبه، ويكون لنور الدين ثُلث دخل البلاد بعد إقطاعات العساكر، ويكون معه من أمراء الشام مَن يقيم معه في مصر، ويتصرف هو بأوامر نور الدين واختياره"؛ كما يقول المقريزي (ت 845هـ) في ‘اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا‘.
على أن شاور انقلب على ذلك الاتفاق مع نور الدين، وأمعن في الخيانة حين تحالف مع الصليبيين فطمعوا في الاستيلاء على مصر. وطبقا للمقريزي؛ فإنه ما جاء عام 564هـ إلا وقد "تمكّن الفرنجُ من ديار مصر وحكموا فيها حُكماً جائراً، وركَبوا المسلمين بالأذى العظيم، وقد تيقنوا أنه لا حامي للبلاد، وتبيّن لهم ضعف الدولة، وانكشفت لهم عوراتُ الناسِ". ولولا أن السلطان نور الدين أرسل -مجددا وعلى وجه السرعة- القائديْن أسد الدين شيركوه (ت 564هـ) وصلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ) لِسَحْق هذا التحالف والقضاء على شاور والوجود الصليبي؛ لاحتل الصليبيون مصر كما احتلوا فلسطين وسواحل الشام.
خيانة للأجداد
بيد أن ما يثير الدهشة والتعجب في حوادث خيانة الحكام في ذلك التاريخ هو أن تأتي من الأبناء بعد ميراث الأجداد المشرّف في ساحات الوغى، ولمّا تجفَّ دماؤهم في سبيل نصرة دينهم وحماية أوطانهم؛ بل وتكون ثمرة هذه الخيانة تسليم مدينة مقدسة بحجم القدس التي كانت قِبلة المسلمين الأولى. فبعد أن استعادها السلطان صلاح الدين عام 583هـ بإعداد طويل وجهاد جليل؛ عاد بعض أقاربه فسلموها مجددا إلى المحتلين الصليبيين ليكون فعلهم ذاك "سمةَ العارِ في حياةِ الملوكِ"؛ كما قال بحق أحد الشعراء.
وقد تكررت خيانة تسليم القدس مرتين؛ كانت أولاهما سنة 626هـ فيما عُرف بالحملة الصليبية السادسة، حين أسلمها سلطان مصر الأيوبي الكامل محمد بن العادل (ت 635هـ) إلى الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني (ت 648هـ/ 1250م)، دون التضحية بقطرة دم واحدة في سبيل حمايتها! وذلك ليترك له فريدريك السيطرة على مدن مثل نابلس والخليل. وقد تحدث المؤرخ ابن الأثير عن أثر تلك "الصفقة" في نفوس المسلمين حينها فقال: "وتسلّم الفرنج البيت المقدس، واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه؛ يسر الله فتحه وعوده إلى المسلمين". وتبعه في تصوير هذا الأثر المؤرخ الواعظ سبط ابن الجوزي في ‘مرآة الزمان‘؛ فقال: "ووصلت الأخبار بتسليم القدس إلى الفرنج، فقامت القيامة في بلاد الإسلام، واشتدت العظائم بحيث إنه أقيمت المآتم…؛ [فـ]ـيا خجْلة ملوك المسلمين"!!
والغريب أن السلطان الكامل راسل -قبل فترة قليلة من عقد اتفاقه مع فريدريك- أخاه ملك ديار الجزيرة الأشرف موسى (ت 635هـ)؛ فقال فيما نقله عنه ابن الأثير: "إنني ما جئتُ إلى هذه البلاد (= الشام) إلا بسبب الفرنج، فإنهم لم يكن في البلاد من يمنعهم عما يريدونه…، وأنت تعلم أن عمّنا السلطان صلاح الدين فتح البيت المقدس، فصار لنا بذلك الذكر الجميل على تقضي الأعصار وممرّ الأيام، فإن أخذه الفرنج حصل لنا من سوء الذكر وقبح الأحدوثة ما يناقض ذلك الذكر الجميل الذي ادّخره عمُّنا، وأي وجه يبقى لنا عند الناس وعند الله تعالى"؟!!
ويقول المؤرخ ابن واصل الحموي (ت 697هـ) –في ‘مفرج الكروب في أخبار بني أيوب‘ ناقلا عن والده الذي كان في القدس مشاهدًا لتلك الخيانة- إنه "لما وقعت الهدنة بعث السلطان من نادى في القدس بخروج المسلمين وتسليمه إلى الفرنج…؛ قال: لما نُودي بالقدس بخروج المسلمين وتسليم القدس إلى الفرنج وقع في أهل القدس الضجيج والبكاء، وعظُم ذلك على المسلمين، وحزنوا لخروج القدس من أيديهم، وأنكروا على الملك الكامل هذا الفعل واستشنعوه؛ إذ كان فتح هذا البلد الشريف واستنقاذه من الكفّار من أعظم مآثر عمّه الملك الناصر صلاح الدين"!!
وظلت القدس في أيدي الصليبيين أكثر من عشر سنوات حتى استردها منهم سنة 637هـ السلطان الناصر داود ابن المعظم (ت 656هـ)، لكنه -نكايةً في ابن عمه سلطان مصر الصالح أيوب (ت 647هـ)- عاد فسلّمها للصليبيين مرة أخرى في نفس العام، يقول المؤرخ ابن أيبك الدَّوَاداري (ت بعد 736هـ) في ‘كنز الدرر وجامع الغرر‘: "وفيها (= سنة 637هـ) سلَّم الناصرُ داود صاحب الكرك القدس الشريف للفرنج".
وقد فعل الناصر داود ذلك خيانة وسعيا وراء مصلحته الشخصية كي يظل الصليبيون على تحالف معه ضد الصالح أيوب؛ متناسيا أنه كلّف سبط ابن الجوزي الواعظ بإلقاء خطبة عصماء بالجامع الأموي تنديدا بما فعله عمه "الكامل" من تسليم للقدس! ثم بقيت القدس أسيرة للصليبيين حتى عام 642هـ؛ إذ استطاع السلطان الصالح أيوب أن يسحق الصليبيين والأيوبيين الشوام المتحالفين معهم في ‘معركة غزة‘ حيث ساروا "تحت أعلام الفرنج وعلى رؤوسهم الصُّلبان"!! على حد وصف سبط ابن الجوزي.
تبعية للتتار
تعرضت الدولة العباسية لسلسلة طويلة من الخيانات عبر تاريخها الذي امتد أكثر من خمسة قرون، بيد أن أشهر هؤلاء الذين تسببوا في القضاء عليها ومحو آثارها كان الوزير مؤيد الدين بن العلقمي (ت 656هـ)، الذي عمل -بدأب وعلى عدة محاور- لإسقاط العباسيين ومحو معالمهم ولو بالتعاون مع المحتلين التتار.
ويُفصّل ابن الساعي (ت 674هـ) –وهو مؤرخ بغدادي معاصر لأحداث سقوط مدينته- بعض أوجه خيانة ابن العلقمي بقوله في ‘مختصر أخبار الخلفاء‘: "وكاتبَ التاتار (= التتار/ المغول) وأطمعهم في البلاد، فيُقال إن (القائد المغولي) هولاكو (ت 663هـ) لما وصلت إليه مكاتبة الوزير تنكَّر ودخل بغداد في زي تاجر واجتمع بالوزير وأكابر الدولة وقرروا القواعد معهم، ورجع إلى بلاده فتجهّزوا، وسار إلى بغداد في جموع عظيمة من المُغل (= المغول)، ونزلوا على الجانب الشرقي في سنة ست وخمسين وستمئة، وخرج إليهم الوزير فاستوثقهم على أهلِه ونفسه، وقال [للخليفة المستعصم المتوفى 656هـ]: إن هذا قد جاء ليزوج ابنته بابنك. ولم يبرح به حتى أخرجَه إليه، فأنزلوه في خيمة، وجعل الوزير يُخرج إليهم أكابرَ بغداد طائفة بعد طائفةٍ حتى كمُلوا عند التاتار، فوضعوا فيهم السيف وقتلوا الخليفة".
وقد ظن ابن العلقمي أنه سيُمتّع بخيانته فيرتقي فوق الأعناق بعدما بلغ مآربه، بيد أن التاريخ يخبرنا أن ما حدث كان العكس؛ فقد احتقره المغول حتى "كان في الدِّيوان جالسا فدخل بعض التتار ممَّن لا وجاهة له راكبًا فرسه، فساق إلى أن وقف بفرسه على بساط الوزير وخاطبَه بما أراد، وبالَ الفرسُ على البِساط وأصاب الرشاشُ ثيابَ الوزير وهو صابرٌ لهذا الهوان، يُظهر قوَّة النَّفس وأنه بلغ مراده"؛ طبقا لرواية ابن أيبك الصفديّ (ت 764هـ) في ‘الوافي بالوفيات‘.
ولئن سقطت بغداد بالخيانة والمكر سنة 656هـ؛ فإن دمشق سقطت هي الأخرى في العام التالي بالوسيلة نفسها، وكان حاكم دمشق آنذاك الملك الأيوبي الناصر الثاني يوسف (ت 659هـ) حفيد الناصر الأول صلاح الدين، غير أن هذا الحفيد لم يكن مثل جدّه فابن أبي أُصَيبعة (ت 668هـ) يصفه -في كتابه ‘عيون الأنباء‘- بأنه كان "جباناً متوقفاً عن الحرب". ولما جاءته رسالة هولاكو التي يقول فيها حسب رواية ابن العبري (ت 685هـ) في ‘تاريخ مختصر الدول‘: "يعلمُ الملكُ الناصر أننا نزلنا بغداد في سنة ستّ وخمسين وستمئة، وفتحناها بسيف الله تعالى، وأحضرنا مالكها..؛ فليكُن لكم فيما مضى مُعتبَر، وبما ذكرناه وقُلناه مُزدجَر".
ومع جبن الملك الناصر؛ فقد كان وزيره الطبيب زين الدين الحافظي (ت 662هـ) وحاجبه الأمير نجم الدين من الرجال الضعفاء الجبناء الأقرب إلى مواقف الخيانة منهم إلى المواجهة والصمود في سبيل حماية الأوطان، وقد حرضا الملك الناصر على التسليم. وفي تصوير دوافع ذلك الموقف يقول ابن أبي أصيبعة: "جاءت رسل التتر من الشرق إلى الملك الناصر وهم في طلب البلاد والتشرط عليه بما يحمله إليهم من الأموال وغيرها؛ فبعث زين الدين الحافظي رسولاً إلى خاقان هولاكو ملك التتر وسائر ملوكهم، فأحسنوا إليه الإحسان الكثير واستمالوه حتى صار من جهتهم ومازجهم، وتردد في المراسلة مرات [بينهم وبين الناصر]، وأطمع التتر في البلاد، وصار يهوّل على الملك الناصر أمورهم ويعظّم شأنهم ويفخّم مملكتهم، ويصف كثرة عساكرهم ويصغّر شأن الملك الناصر ومَن عنده من العساكر".
تخذيل وتهويل
ويروي لنا المؤرخ جرجس بن العميد (ت 672هـ) -في تاريخه ‘أخبار الأيوبيين‘- هذا التخذيل الذي جرى -قُبيل دخول المغول إلى الشام- على لسان نجم الدين الحاجب، الذي بدا معارضا لبيبرس (ت 676هـ) وقادة المماليك المؤيدين للمواجهة العسكرية مع المغول؛ فقد خاطب الحاضرين قائلا: "كل مَن يقول إنه يتلقّى هلاون (= هولاكو) يتحدث وما يعرفُ ما يقول، ومن هو الذي يلتقى هلاون ومعه مئتا ألف فارس؟".
وحين اقترب المغول من دمشق؛ هرب ملكها الناصر إلى جهة مصر للاستيلاء عليها ثم خاف من المماليك واتجه إلى الأردن، ثم خانه بعضُ أعوانه فدلّ أحدُهم هولاكو على مكانه. يقول قطب الدين اليونيني (ت 726هـ) -في تاريخه ‘ذيل مرآة الزمان‘- متحدثا عن مصير الناصر الثاني إثر خيانته لأمته: "فكبَسه التتار بها، وتفرّقَ عنه معظم أصحابه، ثم استأمنَ له بعض أصحابه وسَار إليهم (= التتار)، فكان معهم في ذُلٍّ وهوان"، ثم أخذوه معهم -بعد هزيمتهم في عين جالوت سنة 658هـ- إلى مدينة تبريز (تقع اليوم شمال غربي إيران)؛ وظل معهم حتى قتله هولاكو عام 659هـ!
أما الوزير زين الدين الحافظي –ذو التاريخ الحافل بالخيانة والغدر- فقد أوضح لنا ابن أبي أصيبعة الثمن الذي قبضه من التتار، وما صار له من بغض في قلوب المسلمين جراء فعلته تلك. يقول: "ملكت التتر (= التتار) دمشق بالأمان وجعلوا فيها نائباً من جهتهم، وصار زين الدين أيضاً بها وأمّروه وبقي معه جماعة أجناد حتى كانوا يدعونه ‘الملك زين الدين‘. ولما وصل الملك المظفر قطز (ت 658هـ) صاحب مصر ومعه عساكر الإسلام، وكُسر التتر في وادي كنعان الكسرة العظيمة المشهورة (= وقعة عين جالوت)، وقُتل من التتر الخلق العظيم الذي لا يحصى؛ انهزم نائب التتر ومَن معه من دمشق، وراح زين الدين الحافظي معهم خوفاً على نفسه من المسلمين"!!
لكن هذا الوزير الخائن لاقى بعد ذلك مصير الملك الناصر حين اتهمه هولاكو بأنه يراسل المماليك في مصر. وينقل المؤرخ ابن الدواداري هذا الحوار الذي يُلخص بعض نهايات الخونة في التاريخ الإسلامي: "وكان من كلام هلاون (= هولاكو) إليه -لما أراد قتله- أن قال له: قد ثبت عندي نحسك وتلاعبك بالدول، فإنك خدمتَ صاحب بعلبك طبيبًا فخُنته، واتفقتَ مع غلمانه على قتله حتى قُتل؛ ثم انتقلتَ إلى خدمة الملك الحافظ (= صاحب قلعة جعبر نور الدين أرسلان شاه بن العادل المتوفى 639هـ) الذي عُرِفتَ به، فباطنتَ عليه الملك الناصر [الثاني] صاحب الشام حتى أخرجته من قلعة جعبر، ثم صِرتَ إلى خدمة الملك الناصر ففعل معك ما لم تسْمُ أطماعُك إليه مِن كلّ خيرٍ، فخُنتَه معي…؛ ثم أمرَ به فقُتل وجميعُ أهله"!
ويقدّم الصفديّ -في ‘الوافي بالوفيات‘- تفاصيل تبين مصير الحافظي وخلفيته؛ فيقول: "قتله وقتل أولاده وأقاربه وكانوا نحوا من خمسين، وكان من أسباب ذلك كُتُبٌ بعثها إلى الظاهر [بيبرس] وذلك سنة اثنتين وستين وستمئة".
خيانات الأندلس
رأينا فيما سبق بعض مشاهد خيانة الحكام للأمانة في أقطار الشرق الإسلامي، لكن زمنيا ربما كان الغرب الإسلامي أسبق منه إلى هذه الظاهرة المؤسفة، وقد أخرناه في الذكر توخيا لتحقيق الوحدة الجغرافية في سرد الأحداث وتداعيتها حتى النهاية، رغم تباعد أزمنتها.
فقد تعرضت ديار الإسلام في الأندلس لسلسلة من الخيانات حتى لكأن تاريخها سيل لا ينقطع منها، فشهدت قصور الحكم فيها مجموعة من القادة والأمراء كانوا على درجة عالية من انعدام الشرف، والتباغض إلى درجة التعاون مع العدو ضد بعضهم بعضا في سبيل مطامع شخصية قصيرة الأمد، كانت عاقبتها وبالا على دولة الإسلام وحضارته في تلك الأصقاع.
فحين ارتقى الأمير الأموي الحكم بن هشام (ت 206هـ) إلى كرسي الحكم في الدولة الأموية بالأندلس؛ لم يرضَ عمّاه سليمان (ت 184هـ) وعبد الله (ت 208هـ) بصعود هذا الأمير الشاب على حسابهم، خاصة أن أباه هشامًا سبق أن آثره والدهما عبد الرحمن الداخل (ت 172هـ) بتولي الحكم من بعده. ولذلك قررا الخيانة العملية بالتحالف مع الثائرين في ولاية الثغر الأعلى (كانت عاصمتها سرقسطة) شمالي الأندلس، ثم بالتحالف مع مملكة الفرنجة وقائدها شارلمان (ت 198هـ/ 814م).
ويتحدث المؤرخ محمد عبد الله عنان (ت 1986م) -في كتابه ‘دولة الإسلام في الأندلس‘ نقلا عن مصادر لاتينية ومخطوطة لم تحقق بعدُ لكتاب ‘المقتبس‘ لابن حيان القرطبي (ت 469هـ) تؤرخ لسنوات ما قبل 233هـ- عن هذه الخيانة والتحالف مع الأعداء، إلى حد تجشم من قام بها عناء السفر من قرطبة إلى ألمانيا وبين المدينتين مسافة 2100 كلم!!
يقول عنان: "سار عبد الله [بن عبد الرحمن الداخل] إلى الثغر الأعلى يؤلّب البلاد ويحشد الأنصار لمقاتلة الحكَم، ثم عبر جبال البرنيه إلى بلاد الفرنج (= فرنسا)، وسعى إلى مقابلة شارلمان (كارل الأكبر) في مدينة إيكسلا شابيل (= أكس لاشابيل وهي حاليا مدينة آخن الألمانية) حيث كان يعقدُ بلاطَه يومئذٍ، والتمسَ إليه العونَ والمؤازرة، فأكرمَ ملك الفرنج وفادَته، واستجاب إلى دعوتِه، وألفى الفُرصة سانحة للتدخّل في شؤون الأندلس، وتحقيق مطامعه القديمة. وسيّر شارلمان جيشاً مع ولده لويس أمير أكوتين، فعبَر البرنيه واستولى على مدينة جيرونة (جيرندة)، ثم توغل في ولاية الثغر الأعلى بممالأة بعض الزعماء الخوارج" من ثوار تلك المناطق.
ورغم فشل ثورات وتحالف الأخوينِ الخائنينِ سليمان وعبد الله مع الملك الفرنجي شارلمان، حيث قُتل الأول على أيدي جنود الحكَم الأموي سنة 182هـ، وفرَّ الثاني إلى مدينة بلنسية طالبا الأمان من ابن أخيه الأمير؛ فإن شارلمان أدرك نقاط الضعف في ولايات الثغر الأندلسي الأعلى، كما استغل الخلاف الأموي الداخلي بين الأمير الحكم وعمّيه، فكانت المصيبة بسقوط مدينة كبيرة مثل برشلونة.
وقد لاحظ المقّري (ت 1041هـ) –ببصيرة ثاقبة- تداعيات ذلك؛ فقال في كتابه ‘نفح الطيب‘: "واستفحل ملكه (= الحكم الأول)، وباشرَ الأمور بنفسه. وفي خلال فتنة كانت بينه وبين عمّيه؛ اغتنم العدوّ الكافر الفرصة في بلاد المسلمين، وقصدوا برشلونة فملكوها سنة خمس وثمانين [ومئة]، وتأخرت عساكر المسلمين إلى ما دونها".
ثغرة التساقط
والحق أن سقوط برشلونة قد فتح للفرنجة النصارى الباب لإنشاء ولاية تسمى "الثغر الإسباني" أو "الثغر القوطي"، فأضحت منذ ذلك الحين شوكة في خاصرة المسلمين في الأندلس، وقد تطورت مع الزمن حتى أصبحت "كونتينة قطالونيا" التي اتّحدت لاحقا مع مملكة أرغون، وأنهت الجانب الشرقي من الوجود الإسلامي في الأندلس فيما بعدُ؛ فكانت الخيانة التي ظهرت في نهايات القرن الثاني الهجري سببًا في سقوط وانهيار الأندلس عبر عدة قرون!
وحين ضعفت قبضة الدولة الأموية في الأندلس بعد وفاة الخليفة الحكَم المستنصر سنة 366هـ، واعتلاء ابنه الصغير هشام المؤيَّد بالله (ت 403هـ) إلى سدة الحكم؛ جُعل تدبير أمر الدولة إلى حاجبه المنصور بن أبي عامر (ت 392هـ) الذي كان مقربا من أم الخليفة الصغير المسماة صُبح البشكنسية (ت 390هـ تقريبا، وتنسب إلى بلاد البشكنس = إقليم الباسك الإسباني). وقد استطاع ابن أبي عامر بدهائه إقصاء منافسه الوزير المكين في البلاط الأموي جعفر بن عثمان المصحفي (ت 372هـ).
لكن بقيت أمام طموحات ابن أبي عامر عقبة كأداء هي صهره القائد العسكري القوي غالب بن عبد الرحمن الناصري (ت 371هـ)، صاحب البطولات والانتصارات الفذة في الساحتين الأندلسية والمغربية، بوصفه قائدا عاما للقوات البرية والبحرية و"شيخ الموالي قاطبة وفارس الأندلس يومئذ غير مُدافَع له"، كما يقول ابن عذاري المراكشي (ت نحو 695هـ) في كتابه ‘البيان المُغرب‘. وذلك بعد أن تمالأ الرجلان على إقصاء المصحفي من دائرة النفوذ في أروقة البلاط الاموي.
فقد أدرك غالب الناصري خطورة الوزير ابن أبي عامر وأهدافه الرامية للهيمنة على مقاليد السلطة، خاصة أنه "ضبط المدينة (= العاصمة قرطبة) ضبطا أنسى أهلَ الحضرة من سلف من أفراد الكُفاة وأولي السياسة"؛ حسب تعبير ابن عذاري. بيد أن الناصري -بدلا من التفاهم مع غريمه أو خوض مواجهة داخلية معه- قرر على الفور إعلان التحالف مع الأعداء النصارى الذين دوّخهم وهزمهم مرارًا، وعلى رأسهم راميرو الثالث (ت 375هـ/ 985م) ملك ليون الذي سمح له باللجوء إليه. يقول المقري: "ولحق غالبُ بالنصارى فجيَّشَ بهم، وقابله ابن أبي عامر بمن معه من جيوش الإسلام، فحكمتِ الأقدار بهلاك غالب، وتمَّ لابن أبي عامر ما جدَّ له، وتخلصت دولته من الشوائب".
على أن تلك الخيانة القديمة في تاريخ بني أمية في الأندلس؛ أضحت ظاهرة في عصر ملوك الطوائف (422 – 484هـ) ومَنْ تلاهم؛ ذلك أنهم تسابقوا على تقديم فروض الولاء والطاعة والجزية لملوك ليون وقشتالة النصارى، ولو على حساب دينهم ووطنهم طمعا منهم في هزيمة خصومهم من ملوك الطوائف الآخرين، وتجلى ذلك في عصر ألفونسو السادس (ت 502هـ) الذي ألقى في قلوب ملوك الطوائف الرعب وعلى رأسهم المعتمد بن عباد (ت 488هـ) ملك إِشبيلية وقرطبة.
وقد شاهد العلامة ابن حزم الأندلسي (ت 456هـ) هذه الحقبة السوداء من تاريخ بلاده، ورأى خيانات ملوك الطوائف المتواطئين الدافعين للجزية لملوك قشتالة، البائعين لأوطانهم بثمن بخس، فكتب بحسرة وغضب واصفا استعدادهم المنفلت للخيانة؛ فقال: "والله لو علموا أن في عبادة الصُّلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدّون النصارى فيمكّنُونهم من حُرُم المسلمين وأبنائهم ورجالهم يحملونهم أُسارى إلى بلادهم…، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعًا فأخلوْها من الإسلام وعمَّروها بالنواقيس، لعن اللهُ جميعَهم وسلَّطَ عليهم سيفاً من سيوفه" .
معاول هدم
تمكن ألفونسو السادس من احتلال كثير من بلدان وقلاع الأندلس دون قتال كما ذكر ابن حزم؛ بل انضم بعض هؤلاء الملوك إلى جيوشه ضد أبناء دينهم ووطنهم، مثل المأمون بن ذي النون ملك طُليطلة (ت 467هـ) وحفيده الأمير القادر بن ذي النون (ت 485هـ)، ذلك الخائر الجبان الذي كان ملك قشتالة يطالبه "بالمال تباعاً، وبتسليم بعض حصونه القريبة من الحدود، وقد تسلم منها بالفعل حصون سرية وفتورية وقنالش، كل ذلك والقادر عاجز عن رده، مرغم على إرضائه" ؛ وفقا لرواية عنان نقلا عن دراسة تاريخية عن ابن عباد كتبها المستشرق الهولندي رينهارت دوزي (ت 1883م).
لم يكتف القادر بخيانة تسليم الحصون لعدوه بل وإسقاط طليطلة عاصمة مُلكه، بعد انسحابه منها لكي يدخلها ألفونسو وتضيع من ديار الإسلام منذ عام 478هـ؛ بل تمادى في خيانته بتقديم العون العسكري لألفونسو ليحتل بلنسية. يقول المقّري: "كان الطاغية ابن أذفونش (= ألفونسو) قد استفحلَ أمره، لمّا خلا الجوّ من مكان الدولة الخلافية (= الخلافة الأموية بالأندلس)، وخفّ ما كان على كاهله من إصر العرب، فاكتسَح البسائط، وضايق ابن ذي النون حتى أخذ من يده طليطلة، فخرج له عنها سنة ثمان وسبعين وأربعمئة، وشرط عليه أن يُظاهره على أهل بلنسية فقبِل شرطه، وتسلّمها ابن أذفونش؛ ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم" .
وبالفعل؛ دخلت قوات القشتاليين بلنسية وعاثوا فيها فسادًا ونهبًا وتخريبًا، وأمَّروا عليها القادر بن ذي النون حاكمًا تابعًا لهم، فمقته أهل المدينة وكرهوا خيانته وبيعه لطُليطلة وتبعيته وذلّه لألفونسو، واستغلوا انتصار المرابطين على القشتاليين في ‘معركة الزلاقة‘ سنة 479هـ، فأعلنوا ثورتهم على القادر وقبضوا عليه، فقتله زعيم تلك الثورة جعفر بن جحّاف (ت 488هـ) "بيده… وحُمل رأسه على عصًا يُطاف به الأسواق والسِّكك، واحتوى ابنُ جَحّاف على ما كان معه، وطُرحت جُثّته في سبخة، فواراه رجل من التجّار اجتاز به على بابٍ مغطّىً بحصير خَلِقٍ، ودفنَه دُون كفن" في شهر رمضان سنة 485هـ، في نهاية بشعة تكررت بصور مختلفة مع كثيرين من خونة الحكام!
ولعل دعوة ابن حزم -المتقدم ذكرها- على هؤلاء الملوك الخانعين لاقت إجابتها حين تدخل المرابطون لحماية ما تبقى من الأندلس، فهزم سلطانهم يوسف بن تاشفين (ت 500هـ) ألفونسو السادس في موقعة الزلاقة الشهيرة سنة 479هـ، ثم خلفهم الموحّدون في حكم الأندلس منذ مطلع أربعينيات القرن السادس الهجري، لكن هزيمة الموحدين في ‘معركة العِقاب‘ (= جمع عَقَبة) الشهيرة عام 609هـ فتحت الباب واسعًا لظهور العديد من الولاة والأمراء الموحدين الخائنين والمتواطئين مع العدو النصراني، المصمِّم على إعادة الأندلس إلى حكمه وطرد المسلمين منها.
عمالة وتنصّر
لقد انقسم الأمراء الموحدون على أنفسهم بعد ارتقاء السلطان عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن الموحدي سنة 620هـ، حيث اعترض على بيعته ابنُ أخيه والي الشرق الأندلسي -وعاصمته مُرسية- أبو محمد عبد الله بن يعقوب الموحدي (ت 624هـ) الذي أعلن نفسه سلطانا جديدًا متلقبًا بـ"العادل"، ودان له معظم الجزيرة الأندلسية، وقد بايعه ابن عمه والي جيان وبيّاسة عبد الله بن محمد ابن عبد المؤمن الموحدي (ت 623هـ). أما أبو زيد ابن محمد الموحدي -والي بلنسية ودانية وشاطبة وأخو البياسي- فقد رفض هذه البيعة. ويقول ابن خلدون (ت 808هـ) -في تاريخه ‘العِبَر‘- إنه بسبب هذا الانقسام بين هؤلاء الإخوة "تفاقمت الفتنة، واستظهر كلٌّ على أمره بالطاغية (= فرناندو الثالث)، ونزلوا له عن كثير من الثغور، وقلقت من ذلك ضمائر أهل الأندلس"!!
وسرعان ما انقلب البياسي على بيعة ابن عمه "العادل" ودعا لنفسه وتلقب بـ"الظافر"، ثم هرب إلى مدينة بيّاسة القريبة من جيان، وتحصن بها لما أحسّ ببأس "العادل" وخطره فسُمي منذئذ بـ"البيَّاسي". وكما يقول عنان؛ فإن البياسي لمواجهة ابن عمه "بعث إلى فرناندو الثالث (ت 650هـ/ 1252م) ملك قشتالة يستنصر به، ونحن نعرف -منذ أيام الطوائف- ماذا كان الثمن الذي يتقاضاه الملوك النصارى نظير هذه المعونة، فقد كان [الثمن] دائماً قطعة من أشلاء الأندلس تُبذل دون تحفظ، إلى جانب الخضوع والطاعة. ولم يشذّ البياسى عن هذه القاعدة المؤلمة"!!
ويقول ابن عذاري المراكشي -في ‘البيان المُغرب‘- إن البياسي "خرج عن طاعة الموحدين، واستعان بالنصارى عليهم ودلهم على عورات تلك البلاد…، فتملكوا الأموال وقتلوا الرجال وسبوا الحريم والأولاد، ثم دخل بهم حصن باجة ولوشة وغيرهما من الحصون الإسلامية". ويعلق المؤرخ المغربي ابن أبي زرع الفاسي (ت 726هـ) -في ‘الأنيس المطرب‘- على ما فعله هذا الخائن بقوله: "أعطى البياسي حصن شلبطرة للنصارى، وبالأمس بذل (السلطان الموحدي) الناصـر (ت 610هـ) في أخـذه الأموال الجليلة حتى ملكه المسلمون"!!
ولم تتوقف خيانة البيّاسي عند هذا الحد؛ بل إن ابن عبد المنعم الحميري (ت 900هـ) يقول -في ‘الروض المعطار‘- إنه "سار مع ألفنش (= فرناندو الثالث) ليأخذ معاقل الإسلام باسمه، فدخل قيجاطة (= مدينة قرب جيّان) بالسيف وقتل العدو فيها خلقاً وأسرَ آخرين، وكان حديثها شنيعًا تنفر منه الأسماع والقلوب؛ ثم سار [البيّاسي] إلى لُوشة -من عَمل غرناطة- فقاتل أهلها وقاتلوه وأسمعوه ما غاظه، فسلَّط عليهم النصارى ففتكوا فيهم أشد الفتك".
بل إن ابن عذاري يتهم البياسيَّ بأنه -لتحقيق طموحاته في السلطة- قام بارتكاب "أمور شنيعة منها أنه دخل في دين النصرانية وكان شيخا مُسنًّا؛ فنسأل الله العافية وحسن العاقبة"!! ثم إن البيّاسي أراد الاستيلاء على مدينة إشبيلية وما حولها، لكنه هُزم وعاد إلى قرطبة التي كان أهلها قد مقتوه لخيانته وتحالفه مع النصارى، فثاروا عليه وقتلوه سنة 623هـ "وحُمل رأسه إلى إشبيلية".
وعلى خُطى البياسي في الانخراط في حلف الأعداء وتسليمهم حصون الإسلام بل واعتناق ديانتهم؛ سار أخوه أبو زيد عندما ثار عليه أحد قادته يسمى زيّان ابن مَرْدَنيش (ت 637هـ) فـ"بعث إليه يلاطفه في الرجوع فامتنع، ولحق السيد أبو زيد بطاغية برشلونة ودخل في دين النصرانية؛ أعاذنا الله من ذلك"؛ كما يقول ابن خلدون. ويضيف عنان -نقلا عن المصادر النصرانية الإسبانية- أن أبا زيد هذا "نبذ اسمه المسلم واختار اسما نصرانياً هو ‘بثنتى‘ (= القديس بثنتي San Vicente)…، وكان يُسمَّى في الوثائق النصرانية: ‘بثنتى ملك بلنسية وحفيد أمير المؤمنين‘"!!
إدمان الخيانة
أتت الخلافات الداخلية للموحدين على مُلكهم في المغرب والأندلس، بيد أن ذلك لم يُغنِ من ظاهرة الخيانة شيئًا؛ فقد انقسمت الأندلس بعد الموحدين بين رجلين: هما محمد بن يوسف ابن هود الجذامي (ت 635هـ) الذي استولى على شرقي الأندلس، ومحمد بن يوسف ابن الأحمر الخزرجي (ت 671هـ) الذي سيطر على جنوب ووسط الأندلس. ورغم وقوع الصلح بين الرجلين؛ فإن القشتاليين استطاعوا محاصرة قرطبة لعدة أشهر دون أن يمدها ابن هود –الذي كانت تابعة له- بأي نوع من المساعدة والمقاومة!
ولئن صمتت أغلبية المصادر التاريخية الإسلامية عن أسباب إحجام ابن هود عن إنجاد قرطبة؛ فإن المصادر النصرانية الإسبانية –حسبما ينقله عنها عنان- تفيد بأنه كان يعتمد في جيشه على عدد من مرتزقة النصارى القشتاليين، وقد خوّفوه من صاحبهم ملك قشتالة فرناندو الثالث الذي كان يحاصر قرطبة بجيوشه الجرارة، وقد حملت هذه الخدعة ابن هود على ترك قرطبة عاصمة المسلمين في الأندلس تواجه مصير السقوط وحدها في شوال سنة 633هـ جراء خذلانها.
واللافت أننا نجدُ -في روايةٍ للمقَّري- أن كلا من المتنافسيْن على جثة الأندلس (ابن هود وابن الأحمر) قد سارعَ إلى معاونة فرناندو الثالث، وتقديم القرابين له وخيانة أوطانهم ورعيتهم؛ حيث تتابع سقوط مدن الأندلس وحواضرها الإسلامية الكبرى في أيدي الأعداء بمعاونتهم، ولاسيما ابن الأحمر الذي أصبح بمثابة التابع لفرناندو.
يقول المقّري: "وكان ابن الأحمر أول أمره وصل يدَه بالطاغية (فرناندو الثالث) استظهارًا على أمره فعضّدَه، وأعطاه ابن هود ثلاثين حصنًا في كفّ غَرْبِه (= يأمن شرّه) بسبب ابن الأحمر، وليعينه على ملك قُرطبة، فتسلمها ثم تغلّب على قرطبة سنة ثلاث وثلاثين وستمئة، أعادها الله؛ ثم نازَل (فرناندو الثالث) إشبيلية سنة ست وأربعين وابن الأحمر معه، ثم دخلها صُلحًا وملَك أعمالها، ثم ملك مُرسية سنة خمس وستين، ولم يزل الطاغية [القشتالي] يقتطع ممالك المسلمين كورة كورة، وثغرًا ثغرًا"!!
لم يهنأ ابن هود بتلك الخيانة؛ فقد توفي سنة 635هـ فانفرط عِقد مملكته شرقي الأندلس إثر وفاته، وظل بعده ابن الأحمر أسير التبعية لفرناندو الثالث يعاونه في تسليم بلدان الأندلس إليه، حتى إذا لاح له أن هذا الملك القشتالي يطمح إلى ضم كل الأندلس استصرخ بدولة بني مَرِينْ في المغرب فأنجدوه وصدوا عنه القشتاليين، ثم توفي ابن الأحمر سنة 671هـ بعد سنوات طويلة من الخيانة وبيع الأوطان، وهو ما ورثه عنه -طوال قرنين- عدد من أحفاده أمراء دولة غرناطة!
السقوط الأخير
وإذا كانت الأندلس قد تعرضت لتلك المواقف في عصور بني أمية وملوك الطوائف والموحدين ومن تلاهم؛ فإن سقوطها بالكلية لم يكن نتاج ضعف وتشرذم فقط، بل كان -على نحو أقوى- إحدى ثمرات شجرة الخيانة الملعونة بممالأة العدو النصراني طمعا من الأمراء الأندلسيين المتصارعين في حيازة الحكم والثروة. وقد عاشت الأندلس هذه الحقبة السوداء في عصر ملوك بني الأحمر عقودا عددا، وكانت مأساتها الكبرى في مشهد النهاية بين الأمير محمـد بن علي الشهير بأبي عبد الله الصغير (ت 933هـ) وعمه محمد بن سعد المعروف بـ"الزَّغل" (ت بعد 895هـ).
فقد كان أبو عبد الله ينقم على عمّه صعوده للعرش بعد وفاة والده، والتفاف الجند وأهل غرناطة حوله، ودفاعه المستميت عن مقدرات الأندلس في وجه اتحاد أرغون وقشتالة بقيادة الملكة إيزابيلا (ت 910هـ/ 1504م) وزوجها الملك فرناندو الثاني الأرغوني (ت 922هـ/ 1516م).
وفي سعيه للاستئثار بحكم غرناطة؛ وقَع أبو عبد الله الصغير في مواقف الخيانة حين طلب الدعم والعون من النصارى الإسبان -وعلى رأسهم فرناندو- ضد عمه "الزغل"؛ حيث أمدّوه "بالرجال والأنفاط والبارود والقمح والعلف والبهائم والذهب والفضّة وغير ذلك؛ ليشد به عضد الفتنة ويُقوّي الشرّ"؛ كما يروي ذلك صاحب كتاب ‘نبذة العصر في انقضاء دولة بني نصر‘، وهو مؤلف مجهول كان شاهدَ عِيانٍ على تلك الأحداث.
وبسبب هذه الحرب الأهلية، ولجوء أبي عبد الله الصغير للاستنجاد بالأعداء؛ انقسمت مملكة غرناطة إلى شطرين: شرقي يحكمه الأمير "الزغل" وعاصمته مدينة ‘وآدي آش‘، وغربي تابع لأبي عبد الله الصغير وعاصمته غرناطة. وقد استغل ملك قشتالة هذه الأحداث فاستولى على عدة مدن وحصون، وما جاء عام 895هـ حتى وقَع أيضا الأمير "الزغل" في فخ الخيانة فتحالف مع فرناندو انتقاما من ابن أخيه؛ وهو انتقام فادح أودى بالأندلس كلها في النهاية!!
يقول مؤلف ‘نبذة العصر‘: "ثم خرج الأمير محمـد بن سعد (= الزغل) من مدينة وادي آش تابعًا لصاحب قشتالة، فلما لحقه بايعه ودخل في ذمّته وتحت طاعته على أن يُعطيه.. كل مدينة وحصن وقرية كانت تحت طاعته وحكمه، فأجابه إلى مطلبه، ورجع معه إلى وادي آش (سنة 895هـ) وهو فرح مسرور، فدخلها العدو وقبض قصبتها (= عاصمتها)…، ودخل في ذمّته جميع فرسان الأمير.. وجميع قواده، وصاروا له عونا على المسلمين، وطوّعوا له جميع البلاد والقرى والحصون التي كانت تحت طاعتهم"!!
بل إن ثمة رأيًا آخر قد تردد آنذاك مفاده أن الأمير "الزغل" قبض مع قوّاده وفرسانه ثمن هذه الخيانة مالا، يقول أحد شهود العيان: "وزعمَ كثير من الناس أن الأمير محمـد بن سعد وقواده باعوا من صاحب قشتالة هذه القرى والبلاد التي كانت تحت طاعتهم وقبضوا منه ثمنها، وذلك على وجه الفرصة والانتقام من ولد أخيه الأمير محمـد بن علي (= أبي عبد الله الصغير) وقوّاده؛ لأنهم كانوا في غرناطة ولم يكن تحت طاعتهم غيرها، وكان في صلح العدو؛ فأراد بذلك قطع علائق غرناطة لتهلك كما هلك غيرها".
ولم تمرّ سوى ثلاث سنوات على خيانة الأميريْن (العم وابن أخيه) إلا وقد حُوصرت غرناطة، وأخلف فرناندو وإيزابيلا وعودهما الكاذبة للأمير الصغير؛ فاحتلّوا غرناطة لتسقط نهائيا دولة الإسلام في الأندلس بعد ثمانية قرون من قيامها!
وقد سجل نتائج هذا الصراع بحسرةٍ المؤرخُ المصري ابن إياس (ت 930هـ) -في ‘بدائع الزهور‘- بقوله: "وفيه (= ذي الحجة سنة 886هـ) جاءت الأخبار من بلاد الغرب (= المغرب) أن.. ابن الأحمر قد ثار على أبيه.. صاحب غرناطة وملكها..، وجرت بينهما أمور يطول شرحها، وآل الأمر بعد ذلك إلى خروج الأندلس عن المسلمين وملكها الفرنج؛ والأمر لله في ذلك"!!
والمغرب أيضا
وغير بعيد من لأندلس؛ شهدت بلاد المغرب الأقصى بعض تلك الخيانات الشنيعة التي فتحت الأبواب أمام الأعداء، في مقابل مكاسب رخيصة؛ ولعل أشهرها ما وقع في عهد الدولة السعدية (956-1065هـ) أيام السلطان المتوكل (ت 982هـ) الذي ارتقى العرش بعد وفاة والده عام 982هـ/ 1574م، لكن عمّيه المعتصم عبد الملك السعدي (ت 986هـ) وأحمد السعدي (ت 1141هـ) رفضا ذلك، واستنجدا بالدولة العثمانية التي كانت آنذاك تحكم الجزائر، فأمدته بقوات عسكرية استطاع بها السيطرة على معظم البلاد.
هرب المتوكل إلى طنجة التي كانت خاضعة لاحتلال البرتغاليين، وطلب العون منهم فاشترطوا عليه التنازل عن مدن الساحل المغربي كلها. يقول صاحب كتاب ‘تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية‘ -وهو مؤلف مجهول توفي بعد مطلع القرن الـ11 الهجري- إن البرتغاليين "قالوا لمولاي محمد: نحن خارجون وأنت معنا، فإن ظفرنا بالبلاد فلا قِسْم لنا معك فيها إلا السواحل، وما دونها فهو لك، فأنعم لهم بذلك وتعاهدوا عليه، فعند ذلك حلفوا لهم في صُلبانهم وحلف لهم هو على ما ذكر".
وكان السلطان المخلوع المتوكل قد تنازل عن مدينة أصيلا للبرتغاليين عربونَ صداقة، وفي أثناء ذلك أرسل إليه علماء المغرب رسالة شديدة اللهجة يتهمونه فيها بالخيانة والكفر والتحالف مع الأعداء؛ ومما جاء فيها: "اتّفقتَ معهم (= البرتغاليين) على دخول أصيلا وأعطيتهم بلاد الإسلام، فيا لله ويا لرسوله هذه المصيبة التي أحدثتَها وعلى المسلمين فتقتها، ولكن الله تعالى لك ولهم بالمرصاد، ثم لم تتمالك أن ألقيتَ نفسك إليهم، ورضيت بجوارهم وموالاتهم…؛ وأما قولك في النصارى (= البرتغاليين) إنك رجعتَ إلى أهل العُدْوة (= الأندلس) -واستنكفتَ أن تُسمّيهم بالنصارى- ففيه المقت الذي لا يخفى"!
انطلق تحالف المتوكل مع جيش البرتغاليين -بقيادة ملكهم دون سباستيان (ت عام 986هـ/ 1578م)- فتوغّلوا في الأراضي المغربية للقضاء على السلطان الجديد عبد الملك السعدي، والتقى الجانبان عند ضفة ‘وادي المخازن‘ يوم 30 جمادى الأولى عام 986هـ، حيث دارت إحدى ملاحم التاريخ الإسلامي الكبرى؛ فقُتل فيها المتوكل وحليفه دون سباستيان وخصمهما السلطان عبد الملك، فسميت هذه الوقعة: ‘معركة الملوك الثلاثة‘.
انهزم البرتغاليون هزيمة ساحقة في هذه المعركة، وأمر السلطان الجديد المنصور أحمد السعدي "بسلخ جلد ابن أخيه مولاي محمـد وحشوه تِبْنًا، وأرسله إلى مراكش فطيف به ليُعاينه الناس على تلك الحالة ويعتبرون به، فمن يومئذ سُمي ‘المسلوخ‘" جراء خيانته وبيعه لوطنه ومحالفته لأعداء أمته.
تلك بعض مشاهد بارزة من ظاهرة خيانة الحكام للأمة في تاريخنا القديم؛ رأينا فيها أشكالا قاتلة من التحالف مع العدو، على حساب مصالح الأمة وعزّتها، وبدافع من الأنانية السياسية المقيتة. واللافت أن عاقبة كثير من هؤلاء السلاطين كانت خُسرانًا مبينا في دنياهم الفانية؛ قتلا أو طردًا ونفيًا أو احتقارًا من العدو الذي خدموه، ولعنة ومقْتاً في نفوس الشعوب وصفحات التاريخ!!