حوّلت عاصمة حكمها إلى مركز للعلوم والثقافة، وأحيت طريق الحج إلى مكة، ونفذت مشروعا غير مسبوق لتوزيع المياه في مكة المكرمة، حتى أنها قالت ردا على التكلفة المرتفعة للمشروع "اعمل ولو كلفت ضربة الفأس دينارا".
لم تنقطع تلاوة القرآن في قصرها، وأناقتها كانت مصدر إلهام، ودورها في حكم البلاد معروف للجميع، وليس هذا كل شيء عن الأميرة زُبَيدة زوجة هارون الرشيد، ابنة أبو جعفر المنصور.
ابنة للمنصور وزوجة للرشيد
كانت "أمة العزيز بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور" الملقبة بـ "زبيدة" من أهم نساء الدولة العباسية، فهي حفيدة مؤسس الدولة العباسية الخليفة أبو جعفر المنصور من ابنه جعفر، وزوجة الخليفة هارون الرشيد، ووالدة الخليفة الأمين.
لكن أهميتها لم تنبع من حسبها ونسبها، فقد صنعت مجدها الخاص في الثقافة والعلم والسياسة، وكانت رائدة في مجال البناء، إذ صممت إمدادات المياه في مكة المكرمة، وطريق الحج من الكوفة إلى مكة المكرمة، وحتى اليوم بقي اسمها خالدا على أعمالها.
راعية العلم والأدب
كانت "زبيدة"، وهو الاسم الذي داعبها به جدها المنصور طوال طفولتها لجمالها وشدة بياضها حتى التصق بها، ذات جمال وشجاعة وحكمة أحاطتها بالاحترام والإعجاب، ووفقا لمنظمة "وايس مسلم وومن" Wisemuslimwomen، كانت زبيدة شاعرة، راعية للثقافة والفنون، تقدر العلماء والشعراء والأدباء، وقدمت مبالغ كبيرة من المال لتحويل بغداد إلى عاصمة علوم وثقافة تجذب رموز العلوم المختلفة.
كما أن الحب الذي حمله لها زوجها وابن عمها هارون الرشيد، وثقته في سلامة رأيها ورجاحة عقلها، جعلا منها مستشارة له.
قصر صاحبة اليد البيضاء
في قصرها الواقع على شاطئ دجلة الغربي، والذي يسمى "قصر زبيدة"، ويلقب "دار القرار" وتحيطه الحدائق والبساتين ولم يكن له شبيه في تلك الحضارة، يشير "جرجي زيدان" الكاتب والمفكر اللبناني في كتابه "العباسة أخت الرشيد"، إلى أن "زبيدة" احتفظت بـ 100 جارية يحفظن القرآن، ولكل واحدة ورد عشر من القرآن، ويقمن على تلاوته طيلة اليوم، حتى كان يسمع في قصرها كدوي النحل من القراءة.
كانت "زبيدة" صاحبة اتجاه جديد في الملابس في العصر العباسي آنذاك، وأول من اصطنع القباب من الفضة والأبنوس والصندل، تفضل الحرير الطبيعي والألوان الزاهية كالأحمر والأصفر والأخضر والأزرق. وتتخذ الخفاف المرصعة بالجواهر، وكانت النساء في بغداد حريصات على نسخ تصاميم ملابسها البراقة.
وعلى الرغم من أن الرائي قد يجد فيما تنفقه بذخا كبيرا وإسرافا، فإنها لقبت على الصعيد الآخر بـ"صاحبة اليد البيضاء"، فكانت تنفق الكثير من الأموال على أعمال الخير وإعانة الفقراء.
ساقية الحجيج
خلال إحدى رحلاتها إلى مكة لقضاء فريضة الحج، وكان عاما جافا بشكل استثنائي، لاحظت "زبيدة" معاناة الحجاج والمقيمين في مكة المكرمة من نقص المياه في الوادي الجاف، وبمجرد عودتها إلى قصرها، قررت أن تأخذ الأمور بيدها، وكان أول عمل لها هو تعميق بئر زمزم، وتخفيف بعض المعاناة على الفور.
كان أيضا لديها بعد نظر، وبحسب مقال للكاتبة سنية أيمن (Saina Aiman) على "ذي ديلي ستار" (The daily star)، فطنت زبيدة إلى أنه لا يجب الاعتماد على البئر فقط، فكلفت مهندسيها بمهمة إيجاد طرق لجلب المياه إلى مكة.
وكانت الوديان القريبة من المدينة تحتوي على بعض الآبار، ولكن تم العثور على مصدر المياه الوحيد المناسب لمثل هذه المبادرة على بعد حوالي 35 كم، في وادي حنين بين مكة والطائف، ويقال إن "زبيدة" اشترت الوادي بأكمله، وكلفت فريقها من المهندسين المعماريين ببناء قنوات لجلب هذه المياه، ومن بئر أخرى مجاورة إلى مكة.
وبالفعل، تم بناء الآبار على طول القناة للسماح للناس بالوصول المياه وتم استخدام جميع القنوات الأخرى وأي مصادر مياه متاحة موجودة في مكان قريب لتعزيز إمدادات المياه في القناة، وقد كلفها ذلك المشروع ما يقرب من 1.7 مليون دينار، تحملت "زبيدة" كامل هذه التكلفة من خزائنها الخاصة.
روت "زبيدة" الحجيج وأطلق على مشروعها فيما بعد "عين زبيدة"، وأطلق الناس عليها "ساقية الحجيج".
درب زبيدة
على الرغم من إنجازها الكبير في سقاية حجيج مكة، فإن ثمة إنجازا أكبر لها، استخدمت فيه "زبيدة" ثروتها ونفوذها وذكاءها ومن قبل كل ذلك نفسها التواقة لعمل الخير.
كان طريق الحجاج من العراق إلى مكة قاحلا وموحشا، فعهدت "زبيدة" إلى مهندسيها ومعمارييها بتمهيد الطريق من الكوفة إلى مكة، وأقامت على امتداده الآبار والمنازل للارتواء والراحة، وتحملت نفقاته كاملة وأطلق عليه "درب زبيدة".
ابن مات وآخر لم تلده
لم تمنعها رجاحة عقلها وسلامة بصيرتها من أن تستحوذ عليها مشاعر الأمومة، وفضلت أن يتولى ابنها الأمين الخلافة بعد والده بدلا عن شقيقه الأكبر المأمون ابن الجارية، وذلك على الرغم من أنها ربت المأمون الذي توفيت والدته بعد ولادته بثلاثة أيام.
تفضيل وصل إلى حد الخلاف مع زوجها، لكنها أصرت، وأمام إصرارها وافق الخليفة، وتولى الأمين الخلافة بعد وفاة والده، لكن الفتنة اشتعلت بين الأخوين وعلى إثرها قُتل الخليفة الأمين في الحرب ضد أخيه وتولى المأمون الخلافة.
حزنت "زبيدة" كثيرا، لكنها ومع ذلك كتبت إلى المأمون، بحسب ما جاء في كتاب "دور النساء في الخلافة العباسية"، للكاتبة أمل محيي الدين الكردي، "أهنئك بخلافة قد هنأت بها عنك قبل أن أراك، ولئن كنت قد فقدت ابنا خليفة، فقد عوضت ابنا خليفة لم ألده".
هرع إليها الخليفة الجديد، وأقسم أنه لم يأمر بقتل شقيقه، وطوال 32 عاما عاشتها بعد ذلك، عامل المأمون زبيدة باحترام كبير، ولجأ إليها لسماع المشورة في أمور الدولة، وقبل رأيها في كثير من الحالات.