"ثلاث علامات من اجتمعن له كان من عظماء الرجال، وكان له حقُّ في الخلود: فرط الإعجاب من محبيه ومريديه؛ وفرط الحقد من حاسديه والمنكرين عليه؛ وجوٌّ من الأسرار والألغاز يحيط به كأنه من خوارق الخلق الذين يحار فيهم الواصفون...، فيردون تلك القدرة تارة إلى الإعجاز الإلهي، وتارة إلى السحر والكهانة"؛ هذه ثلاثيّة الخلود التي وضع قانونها عباس العقّاد (ت 1964هـ) في كتابه ‘رجعة أبي العلاء المعري‘، ونراها نحن مجتمعة في الشخصية التي جعلناها موضوع مقالتنا هذه: الحسين بن منصور الحلاج الفارسي (ت 309هـ).
وقصدنا في هذا المقال أن نكشف عن حال الحلاج، ونجعل لقارئ سيرته نهجا في شأنه يسير عليه بحيث لا يشكل عليه اختلاف الناس ولا تباين أقوالهم وآرائهم في أبي منصور. وحاصل مقالتنا أن الحلاج صوفي سُنِّي، وقائد لحركة سياسية سرية، تروم خلع بني العباس ونقض خلافتهم. وسنبدأ بذكر اختلاف الآراء فيه، ثم نعرّج على معتقده وسبب اضطراب الناس فيه، ثم نلقي نظرة على حياته السياسية والإشكال الذي طرأ للناس في فهم حركته ومراسلاته.
تصور مشوش
غلا المنكرون على الحلاج حتى كفّره طائفة من العلماء في عصره وقالوا: "قُـتِـل الحلاجُ بسيف الشرع على الزندقة"، وألّف في "زندقته" أعلام مثل الإمام الذهبي (ت 748هـ) –وهو صاحب العبارة المتقدمة- الذي يقول عن الحلاج "جمعتُ بلاياه في جزأين". وقبله صنّف ابن الجوزي (ت 597هـ) ‘القاطع لمِحال اللِّجاج القاطع بمُحال الحلاج‘؛ ثم جاء في عصرنا المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون (ت 1962م) فجعله مسيحًا ثانيًا بعد عيسى بن مريم عليه السلام.
وقد روت كتبُ الطبقات عن الحلاج خوارق ومعجزات يحار فيها الذهن حتى صيّره بعضهم "إلهًا"، ونُسبت إليه أحوال وأقوال غامضة توارت حقيقتها حتى عن أهل بيته؛ يقول ابنه حمد بن الحلاج: "ثم دعا الناس لشيء لم أقف على حقيقة أمره"؛ كما روى ابن باكويه الشيرازي (ت 428هـ)، والأخير لعله أول من أفرد للحلاج تأليفًا يضم ترجمته وأخباره، وقد وصف الذهبي ابن باكويه هذا بأنه "الإمام الصالح المحدث شيخ الصوفية".
لقد كان الحلاج طِلَسْمًا من طلاسم تراثنا وشخصية جدّ محيّرة لدارسيه، ولا نجد نصًا يحكي هذه الحيرة في أمره كنص للذهبي أورده في ترجمته، يعرض فيه الاحتمالات الثلاثة لموقف الناس منه، مع ميله هو إلى إثبات زندقته.
يقول الذهبي: "فتدبر -يا عبد الله- نحلة الحلاج الذي هو من رؤوس القرامطة ودعاة الزندقة، وأنصف وتورّع...؛ فإن تَبَرْهَنَ لك أن شمائل هذا المرء شمائل عدوّ للإسلام، محبّ للرئاسة حريص على الظهور بباطل وبحق، فتبرأ من نحلته؛ وإن تبرهن لك -والعياذ بالله- أنه كان... محقًّا هاديا مهديا، فجدد إسلامك واستغث بربك أن يوفقك للحق...؛ وإن شككت ولم تعرف حقيقته وتبرأت مما رُمي به أرحت نفسك، ولم يسألك الله عنه أصلا".
والذهبي عندنا متهمٌ عموما على الشخصيات الجدلية من أهل التصوّف. فمع وضعه لقاعدة ذهبيّة في حال المختلَف فيهم؛ فإنه لم تطب نفسه بالترحم على الحلاج والاستغفار له. وتجاهل ما سطره -قُبيل نصه السابق بسطرين- حيث يقول: "إن مَن كان طائفة مِن الأمة تضلله، وطائفة من الأمة تُثني عليه وتبجله، وطائفة ثالثة تقف فيه وتتورع من الحط عليه؛ فهو ممن ينبغي أن يُعرَض عنه، وأن يفوَّض أمرُه إلى الله، وأن يستغفَر له في الجملة، لأن إسلامه أصلي بيقين وضلاله مشكوك فيه؛ فبهذا تستريح ويصفو قلبك من الغلّ للمؤمنين".
شواهد تزكية
الحلاجُ صوفيّ سُنيّ، ومن زعم أنه صوفي حلوليّ أو من متصوفة الفلاسفة أو قرمطي فقد أخطأ وأبعد التأويل، وأغفل الأدلة الواضحة؛ هذه هي الدعوى التي نقيمها هنا ونستدل لها من وجوه عدة:
أولها: مصادر تصوّفه؛ فهي مصادر سُنيّة لا خلاف في سنيّتها بشهادة الذهبي نفسه. فأول شيخ تتلمذ عليه كان سهل بن عبد الله التستري (ت 283هـ)؛ قال عنه الذهبي في ‘سير أعلام النبلاء‘: "شيخ العارفين.. الصوفي الزاهد..، له كلمات نافعة، ومواعظ حسنة، وق�