[ وجد الكتّاب والمؤلفون في دمشق والقدس والقاهرة فرصا معيشية مزدهرة في عصر المماليك (ويكي كومونز) ]
في حين شهد تاريخ الكتابة الموسوعية في أوروبا القرون الوسطى عناية واهتماما بالغين، لا تزال أغلب الموسوعات العربية غامضة نسبيا ومحدودة الانتشار رغم كونها تعود لعصور مبكرة، ويرى بعض الباحثين أن مؤلفات للجاحظ وابن قتيبة يمكن اعتبارها أولى الموسوعات العربية.
ويوصف العصر المملوكي في مصر والشام (1250-1517/ 648هـ -923 هـ) بأنه العصر الذهبي للأدب الموسوعي العربي، إذ ألفت فيه الموسوعات على نطاق واسع من قبل علماء مرموقين مقربين من البلاط السلطاني، مثل شهاب الدين النويري وابن فضل الله العمري وأبي العباس أحمد بن علي القلقشندي وجمال الدين الوطواط وغيرهم.
وبخلاف النظرة التقليدية لعصر ما بعد المغول كزمن انحطاط وانحدار واستنزاف للثقافة العربية، تُلقي دراسة الموسوعات التي ازدهرت في زمن المماليك ضوءا على الأدب المملوكي والمعرفة البديلة التي وجدت في الشام ومصر بديلا لها عن بغداد التي سحقتها جيوش التتار ودمرت مكتباتها.
وعرف التراث العربي كذلك رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء في القرن العاشر الميلادي، وتناولت رسائلهم الـ52 مواضيع في الرياضيات والطبيعة وعلوم النفس والأديان والفلسفة، كتبت بلغة أدبية بليغة وقُسّمت لأربعة أقسام مرتبة، وكذلك عرف التراث العربي أعمالا موسوعية مبكرة مثل عيون الأخبار لابن قتيبة ومفاتيح العلوم لمحمد الخوارزمي.
وكتب الجاحظ (المتوفى 868 للميلاد/255هـ) سفره الكبير "الحيوان"، وضمنه أخبار الحيوانات وطباعها، وناقش موضوعات فلسفية وعلمية مثل الكمون والتولد، والجواهر والأعراض، وفي "البيان والتبيين" قدّم مختارات نثرية وشعرية مبينا أسس البيان وفلسفة اللغة.
ويشكل الكتابان معا، وكذلك أعمال أبو الحسن المسعودي في القرن العاشر الميلادي ( المتوفى سنة 346 هـ)، ما يمكن اعتباره بدايات مبكرة للتقاليد الموسوعية العربية.
انتقال المراكز
أثار غزو المغول عام 1258 للميلاد (656 هـ) خوفا لدى العلماء دفعهم لكتابة موسوعات بهدف الحفاظ على تراث السابقين، وسط شعور عام بعدم الأمان وتوالي الكوارث على الحواضر العربية بما في ذلك الطاعون الكبير أو الموت الأسود 1348 للميلاد (756 هـ).
وتقول الرواية التقليدية إنه بعد سقوط بغداد، ورثت بلاد الشام والقاهرة دورها كمركز ثقافي للعالم الإسلامي، وفرّ العلماء والشعراء من العراق، ليجدوا في المدن المملوكية ملاذا بديلا.
وبعد قرنين ونصف من دمار بغداد، كتبت الموسوعات العربية -التي تعكس قلقا على دمار المعرفة- في خضم الخوف من مصير مشابه لكتب ومخطوطات بغداد التي أحرقت أو ألقيت في نهر دجلة.
ومع ذلك ينقل الأكاديمي المختص بالأدب المقارن إلياس مهنا عن الرحالة الأندلسي ابن جبير (المتوفى 1217 للميلاد/617هـ) وصفه لبغداد بأنها فقدت الكثير من معانيها وبقيت "كالظل الدارس، والأثر الطامس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها يستوقف البصر ويستدعي من المستوفز (المتعجل) العقلة (الوقوف) والنظر".
ويرى مهنا أن مصطلح الموسوعة لم يكن رائجا قبل القرن الثامن عشر، إذ استعمل للإشارة إلى الأعمال المرجعية الضخمة التي تمكّن من الانتقال بين التخصصات المختلفة بسهولة، ومع ذلك فقد جرى لاحقا تصنيف عدد من الأعمال القديمة كموسوعات.
ويمكن الإشارة إلى "روح موسوعية" ميزت مجموعة من المؤلفات العربية الكبيرة، وخاصة في القرن 14 للميلاد الذي اعتبر عصرا ذهبيا لهذا التقليد الفكري.
ولم يبدأ تقليد كتابة الموسوعات العربية في العصر المملوكي، لكن أعمال القرن 14 الميلادي تتميز بنطاقها الموضوعي الواسع، وتنظيمها وترتيبها المنهجي وتنوع مصادرها، وهي السمات التي في مجملها تكسب أدبيات هذا القرن صفحتها الموسوعية المميزة.
وعُرف هذا القرن كذلك بالعدد الكبير من الأعمال الموسوعية التي تم تأليفها في ظل رعاية سلاطين المماليك، كنشاط سائد للنخبة المصرية والشامية في ذلك العصر.
مدن المماليك المستقرة
توفر في المدن المملوكية نوع من الاستقرار والأمان في ظل إمبراطورية فتية، وفي حين سعى المماليك للتوسع، تزايد الاهتمام بالآداب التاريخية والجغرافية ووصف الأراضي البعيدة والمتنوعة من الهند إلى مالي وإثيوبيا والأندلس، ووجد كثير من العلماء فرص عمل في بلاط المماليك المزدهر، مما مكنهم من لقاء المسافرين والرحالة من جميع أنحاء العالم الإسلامي والمتوسطي.
وعمل المؤرخ والأديب الدمشقي ابن فضل الله العمري في بلاط السلطان الناصر قلاوون، وترأس ديوان الإنشاء الذي يتولى تحرير كتب الخليفة ورسائله، مما سهّل عليه كتابة موسوعته "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" التي تناول فيها جغرافيا المسالك والأقاليم والبحار، وطبقات الفقهاء واللغويين والفلاسفة والأطباء، والموسيقى والشعر، والحيوان والنبات والأعشاب، والمعادن والأحجار، والمذاهب والأديان، وتاريخ الملوك وغيرها من الموضوعات.
ولم يكن العمري فريدا من نوعه، فقد عمل كتاب موسوعيون آخرون في ذلك القرن على مقربة من البلاط المملوكي أو كموظفين فيه، وشهدت الفترة المملوكية ارتفاعا كبيرا في عدد المؤسسات التعليمية والمدارس الدينية في المراكز الحضرية، وانتشر الرحالة والمسافرون والباحثون العلميون المتفرغون على حد سواء في المدن المملوكية.
واكتسب هذا النشاط طابعا مؤسسيا بشكل متزايد في العصر المملوكي، عبر تحديد مناصب ووظائف تعليمية بأجر من قبل المسؤولين المماليك، بحسب دراسة الأكاديمي اللبناني إلياس مهنا المنشورة ضمن كتاب "الموسوعية من العصور القديمة وحتى عصر النهضة" الصادر عن مطبعة جامعة كامبريدج.
وفي القرن الرابع عشر للميلاد كذلك، كتب شهاب الدين النويري -الذي ولد في بني سويف المصرية ودرس بالقاهرة المملوكية- موسوعته الضخمة، وكان النويري قريبا كذلك من الناصر قلاوون، إذ عمل في بلاطه في مهام الكتابة والحسبة والمقايسات، ودوّن موسوعته "نهاية الأرب في فنون الأدب" في 33 مجلدا وقرابة 4500 صفحة، وفيها فصول عن الجغرافيا والإنسان وعلومه والحيوان والنبات والتاريخ من آدم وحتى عصره.
التقاليد الموسوعية
وعرفت طبقات المثقفين في الزمن المملوكي بتقاليدها العلمية التي تمزج ثقافات مختلفة ومعارف واسعة، واشتهر علماء ذلك العصر بالموسوعية والطلاقة في مجالات متعددة، وعكست الموسوعات المملوكية هذه الروح التي تمثل عودة لتقاليد عربية ويونانية أقدم.
وكتب أبو العباس القلقشندي الذي تولى ديوان الإنشاء في عهد السلطان المملوكي الظاهر برقوق، موسوعته المكونة من 14 جزءا "صبح الأعشى في صناعة الإنشا"، وفيها مواضيع وفصول عن أنظمة الحكم والإدارة والسياسة والمكتبات، والتقاليد والملابس في المشرق العربي، وتاريخ الدواوين والوزارات، وفنون الكتابة، وملابس الجنود وأسلحتهم، والألعاب الرياضية، ومظاهر المجتمع العربي، وكذلك علم الخط وأدواته.
واعتبرت موسوعة القلقشندي دليلا شاملا في فن الكتابة الرسمية للدولة وفنون التراسل والمخاطبة المكتوبة، وترجمت أجزاء منها للغات أوروبية.
ونتج عن زيادة القراءة والكتابة بين "الطبقات الوسطى" في مجتمع المماليك سوق كتب نابضة بالحياة، توفر بدائل للباحثين لكسب المعيشة عبر الكتابة والتأليف.
وبكل المقاييس، كان هذا هو الوقت المناسب للعمل في مجال الكتاب وصناعة التأليف، وقد ترك النويري وظيفة مرموقة في الإدارة المملوكية لكي يعمل ناسخا للمخطوطات الشعبية بينما كان يكتب موسوعته الضخمة.