وفق كتاب غينيس للأرقام القياسية ومنظمة اليونسكو، تعد جامعة القرويين في فاس بالمغرب أقدم جامعة في العالم ما زالت عاملة إلى الآن بدون انقطاع، ويُنسب فضل إنشائها إلى فاطمة الفهري التي أسست جامع القرويين في منتصف القرن التاسع الميلادي/منتصف القرن الثالث الهجري.
لكن روايات المؤرخين الذين شهدوا عصر جامعة القرويين بعد عصر فاطمة مثل ابن خلدون وأبي الحسن علي بن أبي زرع الفاسي، لا توحي بأنها تأسست كجامعة، بل كمسجد جامع بنته فاطمة بمالها من الحجر والطين بعدما اشترت الأرض التي خصصت للجامع والجامعة فيما بعد من ميراثها الكبير.
واعتبر جامع القرويين أقدم جامعة لكونه لم يمر بمراحل التعثر التي مرت بها معاهد الزيتونة والأزهر والمدرسة المستنصرية العلمية، وظلت القرويين بعيدة عن أحداث عواصم الشرق وتحولاتها الكبيرة مما حفظ لها استمرار نظامها وتقاليدها، واستغنت بأوقافها وأراضيها الفسيحة عن دعم السلطات والدول التي مرت بها.
ولا تبدو الإجابة عن سؤال وقت بداية التدريس بالقرويين سهلة، لكنها بالتأكيد تشبه دراسة تواريخ المساجد الكثيرة التي جمعت بين وظيفة العبادة وإقامة الصلاة وبين كونها مركزا للتعليم والتدريس.
ويرى مؤرخ القرن الرابع عشر الميلادي علي الجزنائي في كتابه "جنى زهرة الآس في بناء مدينة فاس"، أن بداية تحول القرويين إلى جامعة جاء مع العلماء الذين وضعوا قبلة القرويين، وعرف عن الشاعر بكر التاهرتي والإمام يحيى الرابع عقدهما مجالس علمية في القرويين.
وبالنظر إلى تواريخ تأسيس الجامعات الأوروبية (بولونيا الإيطالية منتصف القرن 12، والسوربون أول القرن 13)، تبدو القرويين بالفعل أقدم جامعة في العالم، وتشبه قصة تأسيسها قصة جامعات السوربون وبولونيا وأكسفورد التي بدأت أيضا بتدريس اللاهوت من قبل الرهبان قبل أن تتطور تدريجيا إلى جامعات عريقة، بحسب المؤرخ المغربي عبد الهادي التازي مؤلف كتاب "جامع القرويين".
فاطمة الفهري أم البنين
لا توجد سوى مصادر محدودة عن حياة فاطمة الفهري وقصتها، ومنها ما دونه المؤرخ ابن أبي زرع الذي عاش في القرن 14 ميلادي في كتابه "روضة القرطاس"، ووصف الأرض التي اشترتها فاطمة وبنت فيها الجامع.
ويروي ابن أبي زرع رحلة وفد القرويين التونسي إلى الملك الإدريسي يحيى الأول واستقرارهم حول منحدر القرويين، بمن فيهم "المرأة المباركة فاطمة" ابنة الرجل التونسي العربي محمد بن عبد الله الفهري. وكانت فاطمة مع أختها مريم، وورثت ثروة طائلة أنفقتها على أعمال الخير وبناء المسجد.
ويذكر ابن خلدون في القرن 14 عن صنيع فاطمة بعد أن ينقل ما رواه ابن أبي زرع، مشيرا إلى انتقال خطبة الجمعة إلى جامع القرويين وازدحام المنطقة المحيطة به، ويعقب قائلا "فكأنما نبهت عزائم الملوك بعدها".
ورأى المؤرخ عبد الهادي التازي في دراسته التي كانت بالأصل أطروحة دكتوراه عن جامع القرويين، أن بناء الجامع بدأ في عهد السلطان داود بن إدريس استنادا إلى وثيقة تاريخية تعود لزمن الأدارسة عثر عليها أثناء أعمال الترميم الحديثة، وربما كانت جهود فاطمة الفهري وفق هذه المعطيات هي أعمال توسعة واستكمال.
ورغم أنه لا يعرف الكثير عن حياة فاطمة من المصادر القديمة، فقد روى ابن أبي زرع وابن خلدون القصة بإيجاز، وشرح الأول قصة بناء المسجد من الطين والحصى والرمال الصفراء، وروى حفر البئر في فناء الجامع وإنفاق فاطمة الوفير على البناء حتى يكون عملا صالحا مستمرا تنال ثوابه في الدار الآخرة.
وبعد رحيلها، تنافس الأمراء في زمن دول الزناتيين والمرابطين والموحدين والمرينيين على العناية بالجامع وتوسعته وتجديد بنائه.
التحول إلى الجامعة
أسهمت هذه العناية التي بذلها الحكام للفوز بمكانة معنوية عبر دعم العلم والعلماء، في ازدهار الجامعة وإضفاء الطابع الرسمي على أنظمتها التعليمية العريقة، وبهذه الطريقة أنجب الجامع جامعة. وبدأت الإشارة إلى المكانة العلمية الفريدة لجامع القرويين منذ القرن 12 الميلادي، ونمت مكتبته تدريجيا عبر الكتب والتبرعات والأوقاف وجهود الأمراء لزيادة مقتنياتها، وحافظت القرويين على قيمتها كمركز للمعرفة الدينية والعلمية في العالم الإسلامي.
ورغم أنه يصعب العثور على تاريخ دقيق لتحول الجامع إلى جامعة، فإن بعض المؤرخين يعتقدون أن بداية التحول كانت في العهد المرابطي (1056-1147م)، بالتزامن مع تغيير شكل القرويين في عهد المرابطين عن شكله السابق في عهد الزناتيين، إذ شيدوا منبرا جديدا للجامع مزخرفا بآيات القرآن، بينما يرى آخرون أن التحول الحقيقي جاء خلال عهد الدولة المرينية التي ارتأت إصلاح الجامع وبناء المدارس حوله وتعزيز حضورها، تمهيدا للتدخل في تعيين خطباء الجامع الذي كان الأعيان يشرفون على إدارته.
وعرفت جامعة القرويين نظام الكراسي العلمية، وخُصصت أوقاف للإنفاق عليها. ويعتبر الكرسي العلمي درجة عريقة عالية يمكن مقارنتها بالمناصب الأكاديمية الحديثة.
وجذبت الجامعة العديد من العلماء والفلاسفة، ومنهم ابن رشد، وابن باجة، وابن خلدون، وموسى بن ميمون، والشريف الإدريسي، وكذلك بابا الفاتيكان "سيلفستر" الذي يعتقد أنه نقل الأرقام العربية إلى أوروبا.