تحتل علاقات العراق مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية مكانة حيوية على الساحة الإقليمية والدولية في سياق مواجهة التحديات المشتركة وتعزيز التعاون وبناء الثقة المتبادلة.
ويشكل الخليج العربي قاسما مشتركا بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون وكل من اليمن والعراق الذي طالب منذ عقود بالانضمام الى المجلس، لكن عوامل عدة حالت دون ذلك أبرزها قد يكون عدم انسجام طبيعة تلك الأنظمة مع نظام الحكم في العراق الذي انتقل من الملكية إلى الجمهورية قبل أكثر من ستة عقود، إلى جانب حاجة تلك الأنظمة لبناء شراكات مع أنظمة مستقرة أمنيا وسياسيا.
واتجهت دول الخليج العربية للعراق بثقة أكبر بعد انتهاء الحرب على تنظيم "داعش" وانتقال العراق تدريجيا نحو الاستقرار الأمني الذي كان عنوانه "العملي" نجاح العراق في تنظيم بطولة كأس الخليج في البصرة بداية العام الجاري.
ومنذ مارس/ آذار 2018 وضعت حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي خطة "حوار استراتيجي" شاملة لتطوير العلاقات مع الدول الخليجية خلال خمس سنوات تركز على تبادل الزيارات الرسمية وتأسيس مجالس عمل مشتركة لتطوير العلاقات بين العراق وتلك الدول في المجالات كافة استثمارا لقرار القمة الخليجية في الكويت التي اعتبرت العراق "شريكا أساسيا".
ويؤسس الزخم غير "الاعتيادي" لزيارات المسؤولين الخليجيين إلى العراق ومشاركة بغداد في معظم المؤتمرات والقمم التي استضافتها الكويت والمنامة والرياض، لشراكات أمنية واقتصادية تعطي المزيد من الفرص لرأس المال الخليجي للاستثمار في قطاعات الطاقة وإعادة الإعمار والبنى التحتية.
واستعاد العراق ثقة الدول الخليجية بقدرته على ممارسة دوره في محيطيه العربي والإقليمي بعد نجاحه في فتح نافذة حوار بين القوتين المتنافستين على النفوذ في الخليج، السعودية وإيران، وتمهيد الطريق لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما بعد قطيعة دامت نحو سبع سنوات.
ومنذ أبريل/ نيسان 2021 استضاف العراق بجهود رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي أول جولة حوار بين السعودية وإيران تبعتها جولات عدة انتهت باتفاق استئناف العلاقات بينهما في مارس/ اذار من هذا العام برعاية الصين، الأمر الذي لقي ترحيبا من طهران التي شكرت جهود بغداد في تصريحات لرئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته أمير حسين عبد اللهيان.
ويمكن القول إن حكومة الكاظمي أسست لبدايات الانفتاح العراقي على محيطه العربي وفك الارتباط التدريجي عن إيران التي لا تزال تتمتع بالنفوذ الأكبر في بلاد الرافدين من بين عدة دول أبرزها الولايات المتحدة.
وتعوّل الرياض والكويت على جهود عراقية لوقف التصعيد والتوصل إلى حلول مع طهران لأزمة حقل" الدرة" النفطي المشترك بين السعودية والكويت والذي تشير مصادر رسمية كويتية إلى أن الحقل ملك للبلدين، وأنه ليس لإيران أي حق بالحفر فيه، او الاستخراج منه.
وشهد العام الحالي زيارات لمسؤولين خليجيين، أبرزهم أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم محمد البديوي، ووزيري خارجية كل من السعودية والكويت فيصل بن فرحان، وسالم عبد الله الجابر الصباح، ومشاركة مسؤولين عن الدول الست في مؤتمر "طريق التنمية" ببغداد ومشاركة العراق في أكثر من مؤتمر وقمة خليجية وإسلامية استضافتها الرياض وعواصم خليجية أخرى.
وفي مارس الماضي، أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عن مشروع "طريق التنمية".
ويمثل مشروع "طريق التنمية" فرصة استثمارية للدول الخليجية في قطاعات الموانئ وخطوط الربط السككي أو الطرق البرية أو المنشآت والمرافق على جانبي الطريق المقرّر له أن يربط دول الخليج العربية بتركيا والدول الأوربية عبر الأراضي العراقية.
وتركز الدول الخليجية على بناء علاقات مع العراق لتعزيز التعاون الأمني في مكافحة الإرهاب والحد من تجارة المخدرات وتغيرات المناخ والمشاركة في الاستثمار في قطاعات الطاقة وإعادة تأهيل البنى التحتية، وتشجيع الشركات الخليجية للاستثمار في السوق العراقية، والتعاون في مجالات استرداد الأموال العراقية وتسليم المطلوبين للقضاء العراقي بتهم الفساد المالي.
وعلى صعيد التجارة، فقد ارتفع حجم التبادل التجاري بين العراق والسعودية من 900 مليون دولار في العام 2020 إلى نحو مليار و500 مليون دولار مع مساع لزيادة المساهمة في الاستثمار في قطاعات متنوّعة برأسمال يتجاوز الثلاثة مليارات دولار.
في حين يبلغ حجم التبادل التجاري بين العراق والإمارات ما يصل إلى 16 مليار دولار، فان حجم التبادل التجاري بين الكويت والعراق انخفض من نحو مليار دولار في العام 2019 إلى أقل من 500 مليون دولار في العام 2021 والأعوام التي تلته.
ويبلغ حجم التبادل التجاري بين قطر والعراق أقل من 200 مليون دولار، إلا أن أمير الدولة الخليجية تعهد في زيارته للعراق هذا العام بالدخول إلى مجال الاستثمار بنحو خمسة مليارات دولار في طريق التنمية ومشاريع أخرى.
وخلال زيارة الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي إلى بغداد في الأول من أغسطس/ آب الجاري، اتفق الجانبان على توطيد العلاقات بينهما والمضي قدما بخطط التعاون الاقتصادي واستكمال مشروع الربط الكهربائي ومجالات أخرى تعزز التحول في رؤية العراق بالانفتاح أكثر على محيطه العربي.
ويبني العراق الذي يسعى لجذب الاستثمارات الخليجية آمالا على نتائج منتدى الأعمال الخليجي العراقي الذي سيُعقد بالشارقة في سبتمبر/ أيلول المقبل لدعم الشراكات الاقتصادية بين دول مجلس التعاون والعراق.
وعلى ما يبدو فان إيران لا تمانع من انفتاح العراق على محيطه العربي والخليجي وفق تصريحات مسؤولين إيرانيين من بينهم السفير الإيراني السابق لدى بغداد طهران مسجدي الذي قال لوكالة الأنباء العراقية الرسمية في فبراير/ شباط 2020 إن بلاده ترحب بتطوير العلاقات العراقية السعودية الذي يصب في سياق المصالح المشروعة لكل من العراق وايران.
وتنتهج إيران رسميا سياسة عدم التدخل بالشؤون الداخلية للعراق سواء السياسية أو ما يتعلق بالعلاقات مع الدول الأخرى حسب بيان للخارجية الإيرانية في أغسطس 2022، تعليقا على محاولة التيار الصدري الاستيلاء على المنطقة الخضراء في بغداد.
وتسعى طهران من خلال تشجيع العلاقات بين العراق والدول العربية لتخفيف حدة التوترات في المنطقة بما يسهم في إعادة إنعاش اقتصادها الذي يعاني من وطأة العقوبات الأمريكية وبما يفتح المزيد من المنافذ للالتفاف على تلك العقوبات المرتبطة بعدم امتثال إيران لالتزاماتها بشأن ملفها النووي وعدم العمل على تخفيف الأنشطة العسكرية للقوى الحليفة لها في المنطقة.
وتشهد المنطقة أزمات وتوترات إقليمية تهم كل من العراق والدول الخليجية مثل الحرب الأهلية في سوريا والصراع في اليمن والتوترات بين إيران والولايات المتحدة في الخليج العربي.
في مقابل ذلك، يمتلك العراق إمكانيات اقتصادية هائلة في قطاعات النفط والتجارة والاستثمارات يمكن لدول الخليج العربية التوسع في خلق فرص لتعزيز العلاقات وتحقيق المصالح المشتركة وتجاوز تبعات غزو العراق للكويت مطلع تسعينيات القرن الماضي، والاعتداءات التي نفذتها قوى حليفة لإيران على السعودية والإمارات وقضايا أخرى تسعى حكومة السوداني التي تمثل قوى الإطار التنسيقي المقرّب من إيران لخلق حالة توازن بين مصالح العراق في محيطه العربي والخليجي وعدم المساس بالمصالح الإيرانية في العراق والمنطقة.
وتركز الدول الخليجية على تدعيم الجوانب الاقتصادية والاستثمارات في علاقاتها مع العراق الذي من المتوقع أن تشهد السنوات المقبلة حاجة متزايدة للأموال الأجنبية للمضي في إنجاز مشروع طريق التنمية الذي تتجاوز كلفته التقديرية 17 مليار دولار متوقع أن يخدم مصالح دول الخليج مجتمعة إضافة إلى كل من إيران وتركيا وسوريا.
وستظل الدول الخليجية بحاجة إلى استثمار علاقات بغداد "العميقة" مع طهران لتخفيف حدة التوترات والتوصل إلى حلول لمعظم الملفات الخلافية بين إيران من جهة وكل من الكويت والسعودية والامارات والبحرين من جهة أخرى.
من المهم للدول الخليجية اليقين بابتعاد العراق عن دائرة النفوذ الإيراني وعدم السماح لأراضيه بأن تكون منطلقا لتنفيذ اعتداءات مماثلة لهجمات أرامكو في سبتمبر 2019 وهجمات أخرى تعرضت لها مدن إماراتية وسعودية ومرافق حيوية أهمها قصر "اليمامة" الملكي في الرياض والذي تعرض لهجمات بطائرات مسيرة في يناير/ كانون الثاني 2021 قال مسؤولون امريكيون أنها انطلقت من العراق.