زيارة مدير المخابرات الأمريكية وليامز بيرنز إلى ليبيا منتصف يناير/كانون ثاني الجاري، ولقائه رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة، وقائد قوات الشرق خليفة حفتر، يؤشر إلى أن الملف الليبي تحول من مسألة دبلوماسية إلى قضية أمنية بالنسبة لواشنطن.
إذ لم يسبق وأن زار مسؤول أمريكي بهذا المستوى ليبيا منذ ديسمبر/كانون أول 2011، عندما التقى وزير الدفاع الأمريكي ليون بانيتا، رئيس الحكومة المؤقتة برئاسة الراحل عبد الرحيم الكيب، ووزير دفاعه حينها أسامة الجويلي (قائد كتائب الزنتان حاليا)، بعد نحو شهرين من مقتل معمر القذافي، وسقوط نظامه.
بيرنز من الشخصيات الأمريكية المخضرمة التي تعرف ليبيا جيدا، فهو عراب إنهاء المشروع النووي الليبي الذي تخلى عنه القذافي طواعية بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
وكان بيرنز أول مسؤول أمريكي يزور ليبيا بعد عودة العلاقات في 2004، كما زارها في 2014، بصفته مساعدا لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط.
وهذه الزيارة الرسمية الثالثة له إلى ليبيا، لكن بصفته مديرا للاستخبارات الأمريكية هذه المرة، التي تولاها في مارس/آذار 2021.
** توقيت مدروس
لذلك تمثل زيارة بيرنز في حد ذاتها حدثا يستحق التوقف عنده، رغم أنه لم يرشح عنه الكثير، ولكنه جاء بعد أحداث مهمة تعكس عودة البلاد إلى دائرة الاهتمام الأمريكي.
أبرز هذه الأحداث القمة الأمريكية الإفريقية التي عقدت قبل شهر من زيارة بيرنز إلى ليبيا، والتي أعلنت واشنطن خلالها تخصيص 55 مليار دولار لإفريقيا لتقويض النفوذ الروسي والصيني في القارة السمراء.
وسقوط مدينة سوليدار الأوكرانية القريبة من باخموت (شرق) في يد عناصر شركة فاغنر الروسية بعد أيام من القتال العنيف، يثير قلق واشنطن أكثر من الدور الذي يمكنه أن تلعبه هذه الشركة الأمنية في ليبيا، قرب الخاصرة الجنوبية لحلف شمال الأطلسي (الناتو).
كما أن الزيارة جاءت بعد شهر من تسليم حكومة الوحدة الليبية مواطنها أبو عجيلة المريمي، المتهم بتصنيع القنبلة التي استخدمت في تفجير الطائرة الأمريكية فوق بلدة لوكربي الأسكتلندية عام 1988، وما أثير حول التسليم من انتقادات داخلية لحكومة الدبيبة.
ناهيك عن إعلان الولايات المتحدة وحلفائها عن ضرورة البحث عن "آليات بديلة" في حال فشل مجلسا النواب والدولة الليبيين في الاتفاق على قاعدة دستورية، وهو ما حدث فعلا، ما سيدفع واشنطن للتحرك نحو إيجاد خيارات بديلة.
ـ التوجه نحو القوى الفاعلة
تجنب مدير المخابرات الأمريكية لقاء كل من رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري) خالد المشري، فيه إشارة إلى احتمال توجه واشنطن نحو تهميش الرجلين، وتحميلهما مسؤولية عدم الاتفاق على قاعدة دستورية تفضي إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة.
لذلك اقتصر لقاء بيرنز على شخصيتين رئيسيتين في المشهد الليبي الحالي، أولها الدبيبة، بصفته رئيس الحكومة التي تملك الاعتراف الدولي، والمدعومة من أبرز الكتائب الأمنية في المنطقة الغربية والمسيطر الفعلي على العاصمة طرابلس وعلى ميزانية الدولة ومؤسساتها السيادية، وبالأخص البنك المركزي ومؤسسة النفط.
أما الشخصية الثانية، فهو خليفة حفتر، الذي تسيطر قواته فعليا على المنطقتين الشرقية والغربية، وتمكن من إخضاع مختلف الكتائب والمليشيات والجماعات المناوئة له، والتخلص من القيادات المتمردة على سلطته.
وعلى عكس ظهوره الرسمي مع الدبيبة وعدد من المسؤولين الليبيين، إلا أن بيرنز تجنب أي إعلان أو ظهوره في صورة مشتركة مع حفتر.
ما أعطى انطباعا أن واشنطن لا تعترف بشرعية حفتر "كقائد عام للجيش الوطني الليبي"، لكنها تقر به كأمر واقع في المنطقتين الشرقية والغربية.
وسبقت زيارة بيرنز، توجه وفد من قادة كتائب المنطقة الغربية إلى الأردن بالتزامن مع توجه صدام حفتر، نجل قائد قوات الشرق إلى البلد ذاته.
وكان هناك تسريبات عن لقائهم بممثلين عن وكالة الاستخبارات الأمريكية لبحث أمرين، تأمين زيارة بيرنز إلى طرابلس وبنغازي، وبحث إمكانية الوصول إلى تفاهمات بين الطرفين، وفق وسائل إعلام محلية وأجنبية.
** النفط وفاغنر والانتخابات
لم يصدر عن الاستخبارات الأمريكية أي بيان عن نتائج زيارة بيرنز إلى ليبيا، لكن وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش، تحدثت في تغريدة أن اللقاء في طرابلس شهد "تبادلا مثمرا في الآراء بشأن قضايا تتعلق بالأمن، وبتمهيد الطريق صوب الاستقرار وإجراء الانتخابات في ليبيا".
بينما أفاد بيان لحكومة الوحدة، أن بيرنز، أكد خلال اللقاء على "ضرورة تطوير التعاون الاقتصادي والأمني بين البلدين".
غير أن صحيفة "بوليتيكو" الأمريكية، كانت أكثر وضوحا عندما كشفت أن بيرنز بحث مع الليبيين قضايا مكافحة الإرهاب، وإنتاج النفط والغاز، وكذلك العلاقات مع روسيا، وأنشطة فاغنر في ليبيا.
فمكافحة الجماعات الإرهابية ما زال أولوية أمريكية، رغم تراجعه أمام التهديد الصيني والروسي.
لذلك تركز واشنطن على ليبيا ضمن رؤية أشمل في صراعها مع روسيا، خاصة في الحرب الأوكرانية وتداعيتها على أمن الطاقة العالمي.
وليبيا أصبحت قطعة أساسية ضمن لعبة الشطرنج التي طرفاها واشنطن وموسكو، نظرا لتواجد فاغنر بها، وامتلاكها لأحد أكبر احتياطيات النفط والغاز في إفريقيا.
ومصلحة واشنطن أن لا يؤدي انهيار العملية السياسية في ليبيا إلى اندلاع حرب جديدة تكون فاغنر طرفا فاعلا فيها، وأن يستمر تدفق النفط والغاز الليبيين حتى لا يعمق أزمة الطاقة في أوروبا، مع تراجع إمدادات الطاقة الروسية خاصة بعد قرار تسقيف أسعارها.
فالإنتاج الليبي من النفط تجاوز سقف 1.2 مليون برميل يوميا متفوقا على الجزائر، وأحيانا حتى على نيجيريا أكبر منتج للنفط في إفريقيا بعد تراجع إنتاجها لأسباب أمنية.
وتخشى واشنطن أن تستخدم روسيا فاغنر لقفل الحقول والموانئ النفطية الليبية لزيادة الضغط على أوروبا، وأيضا لتجنيد مقاتلين ليبيين في صفوفها للقتال في أوكرانيا.
فالضغط الأمريكي لا يشمل ليبيا فقط بل أيضا دولا أخرى تنشط بها فاغنر في تجنيد المرتزقة على غرار صربيا، التي ندد رئيسها ألكسندر فوتشيتش، علنا بهذا النشاط.
وتأتي الانتخابات الليبية تاليا، إذ ليس من المستبعد أن يسعى بيرنز إلى تقريب وجهات النظر بين الدبيبة وحفتر لتشكيل حكومة مشتركة تشرف على الانتخابات، بعيدا عن أي دور للبرلمان بغرفتيه.
فهناك طبخة أمريكية تحضر في سرية شديدة، تضمن استمرار وقف إطلاق النار وتدفق النفط والغاز، وإنهاء نشاط فاغنر وتشكيل سلطة تنفيذية تسيطر على كامل ليبيا وقادرة على إجراء الانتخابات وتأمينها.