[ موسم الرياض الترفيهي الذي احتفى بإحدى الفرق الكورية (واس) ]
تتوالى الاعتقالات في السعودية على خلفية انتقاد أنشطة هيئة الترفيه الحكومية، التي جاءت لاستعادة ما يقال إنها الحالة الطبيعية للمجتمع السعودي قبل عصر الصحوة الإسلامية، غير أن أطيافا مختلفة من ذلك المجتمع تقبع في غياهب السجن؛ مما يشكل مفارقة في المشهد السعودي في عهد ولي العهد محمد بن سلمان.
وإذا كان الترفيه بصورته الحالية مطلبا شعبيا، وعودة للحياة الطبيعية للمجتمع السعودي قبل أن تختطفه الصحوة، كما تردد السلطة وإعلامها؛ فلماذا يُعتقل أناس يفترض أنهم يمثلون شرائح من الشعب، بعيدا عن حجمهم في المجتمع في ظل غياب مقاييس للرأي العام في الدولة؟
أرادت السلطات السعودية أن تعيش حداثة وتقدم ما حُرم منه الشعب عقودا، فقد قال ولي العهد السعودي في مؤتمر مبادرة المستقبل في أكتوبر/تشرين الأول 2017 إن "المجتمع السعودي لم يكن بهذا الشكل قبل 1979 (قيام الثورة الإيرانية وبداية انتشار الصحوة الإسلامية في السعودية)، نحن فقط نعود إلى ما كنا عليه، إلى الإسلام المنفتح على جميع الأديان والتقاليد والشعوب".
وأضاف "نريد أن نعيش حياة طبيعية"، مهددا بالقضاء على ما أسماها "بقايا التطرف"، وهو يشير إلى الرموز الدينية والصحوية التي يمكن أن تنتقد توجهاته الاجتماعية، ومنها الترفيه.
غير أن تلك التصريحات صاحبتها حملة اعتقالات واسعة لمشايخ وعلماء دين مؤثرين في المجتمع، أو أكاديميين وناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، استباقا لظهور أي نقد للترفيه أو سياسات الأمير محمد بن سلمان.
وإذا كان الكثير من تلك الرموز اعتقلوا، وهم الذين لم تعرف عنهم انتقادات واسعة للسلطة، فليس غريبا أن تعتقل السلطات شخصيات أخرى على خلفية انتقادات صبت جام غضبها لا على الترفيه كونه حاجة من احتياجات المجتمع، بل على النمط الذي يرونه يسير بالمجتمع بعيدا عن مراعاة تقاليده وعاداته الدينية، حسب رأيهم.
فقد اعتقلت سلطات المملكة عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام (سابقا) الشيخ عبد الرحمن المحمود على خلفية قيام عدد من تلامذته بإعادة نشر جزء من إحدى حلقات برنامج كان يقدمه في مايو/أيار 2017.
وانتقد الشيخ في المقطع المتداول من سمّاهم "السفهاء"، في إشارة إلى هيئة الترفيه. وحذر من خطورة السماح لهم بإفساد المجتمع، على حد قوله، كما ذكر حساب "معتقلي الرأي" المعني بحقوق المعتقلين في السعودية.
اعتقال شيخ قبيلة
وأمس، كُشف عن اعتقال السلطات فيصل بن سلطان بن جهجاه بن حميد شيخ قبيلة عتيبة، على خلفية تغريدات انتقد فيها هيئة الترفيه عبر رئيسها تركي آل الشيخ، ودعا فيها إلى أن يكون الترفيه بطريقة منطقية ومقبولة من دون المس بجوهر الدين والثوابت.
كما استدعت السلطات الشاعر الشعبي سفر الدغيلبي للتحقيق معه بسبب قصيدة تضمنت انتقادات غير مباشرة إلى آل الشيخ، واعتقلت السلطات كذلك قبل أيام الشاعر حمود بن قاسي السبيعي ومصمم الفيديو قنصل بن سبيع، على خلفية مقطع فيديو ينتقد ممارسات رئيس هيئة الترفيه.
وقبل شهر، أكد حساب "معتقلي الرأي" اعتقال الداعية عمر المقبل الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة القصيم، الذي قال في خطبة جمعة "لسنا ضد الترفيه، لكننا ضد سلخ المجتمع من هويته باسم الترفيه".
وإذا كانت السلطات تريد أن يعود المجتمع إلى حالته الطبيعية في الانفتاح داخليا وخارجيا، فإن السؤال الذي يتبادر إلى ذهن المراقب: لماذا تقمع الدولة وبشدة أصواتا عديدة ومن أطياف مختلفة من الشعب تنتقد هذه العودة لما يفترض أنهم يريدونه ويطالبون به؟ ألا تمثل هذه الشخصيات أطيافا واسعة أو حتى معتبرة من هذا الشعب الذي تتحدث عنه السلطات؟
ويطرح متابعون إشكالية أخرى ناتجة عن هذا السؤال، وتعبر عن تحديد المجتمع الذي تريد عودته أو إعادة تشكيله السلطات هناك؛ فبالنظر إلى أن الفئة الرافضة هي أقلية وأصوات نشاز لا تؤثر في المجتمع كما تردد وسائل الإعلام السعودية؛ فيفترض ألا تتخوف منها السلطات كل هذا الخوف، وتتابع أي انتقاد حتى لو كان من شخصيات مغمورة.
أما بالنظر إلى أن هذه الفئة شريحة واسعة ترفض هذه التوجهات الترفيهية، فإن ذلك يدحض رؤية السلطات القائمة حاليا برغبتها في تنفيذ ما يريده المجتمع وإعادته إلى وضعه الطبيعي.
ويبدو الترفيه ووسائله المختلفة حاجة اجتماعية في أي بلد، خاصة في بلد حُرم منها عقودا، إلا أن اللافت في دولة الحرمين الشريفين إصرارها على الانتقال من المحافظة الشديدة التي تميز بها المجتمع السعودي إلى الانفتاح غير المنضبط، واستيراد ترفيه خارج سياق البيئة العربية والإسلامية، فضلا عن البيئة السعودية، ومحاولة تطبيعه في المجتمع، وهو ربما ما يفسر حملات الاعتقالات المنددة بالترفيه.
فقد استضاف موسم الرياض الترفيهي -الذي بدأت فعالياته الشهر الجاري، ويستمر حتى ديسمبر/كانون الأول القادم- فرقة "بي تي أس" الكورية في ملعب الملك فهد الدولي، وقدمت عروضا غنائية احتوت على بعض المقاطع الخادشة للحياء، حسب منتقدين.
ويرى نقاد أن سببا رئيسيا آخر من أسباب اعتقال من ينتقدون الترفيه، وهو نفوذ رئيس الهيئة تركي آل الشيخ الذي يعد أحد أقرب الشخصيات لمحمد بن سلمان وأكثرها ولاء له، وهو المعروف بتعامله الفظ حتى مع صحفيين ومصورين غير معروفين.
ولا يمكن إغفال الجانب الدولي في قضية الترفيه؛ فسعودية محمد بن سلمان تولي أهمية كبيرة للظهور دوليا بمظهر الدولة المنفتحة اجتماعيا ودينيا، فأنشأت جهازا حكوميا لبث الترفيه في المجتمع على الطريقة التي يمكن أن يراها الغرب دولة منفتحة قد تخلصت من قيود النزعة الدينية المحافظة التي طالما عيّرها بها.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذه الأصوات الناقدة يمكن أن تخدش صورتها التي تدفع من أجلها الملايين ترويجا وتسويقا عالميين عبر مؤسسات الدعاية والرأي العام الغربي.
ورغم أن الدولة لم تجبر أحدا على الترفيه، فإنها لم تترك نافذة لنقده كونه هيئة حكومية يمكن أن تتعرض للنقد مثل أجهزة حكومية أخرى يُسمح بنقدها، وهو ما يترك تساؤلات عديدة بشأن حصانة هذه الهيئة، والغاية التي أنشئت من أجلها.