[ تعداد الحمير في العالم يقدر بنحو 44 مليونا يتهددها الآن خطر الانقراض (شترستوك) ]
حذر القائد السياسي والعسكري الفرنسي نابليون بونابرت ذات يوم من أن "الصين عملاق نائم إن استيقظ سيهز العالم"، لكن كثيرين لم يتوقعوا على الأرجح أن يتجاوز مدى مقولته تلك كل الحدود المعقولة سياسيا واقتصاديا، وبالتالي تتطور "الصحوة الصينية" المرتقبة إلى نمط استهلاكي زاحف وعابر للحدود يأتي على الأخضر واليابس.
وإحدى الصور القاتمة لهذا النمط الصيني "المتوحش" استهلاكيا ما تتعرض له الحمير، التي شكلت على الدوام جزءا لا يتجزأ من المشهد بالدول النامية في أفريقيا وآسيا، من استنزاف بسبب مزاعم باحتواء جلودها على مادة ذات خصائص علاجية تدعى "إيجياو" تنتج منها الصين وحدها 5 آلاف طن سنويا.
ويقدر تعداد الحمير في العالم بقرابة 44 مليونا، لكن أعدادها شهدت انخفاضا ملحوظا خلال العقد الأخير بسبب الطلب الصيني الكبير على مادة الـ"إيجياو".
ولا تعد هذه المرة الوحيدة التي يتسبب فيها النهم الصيني في حدوث تناقص ضخم في تعداد بعض أنواع الحيوانات، حيث سبق أن تسبب ولع الصينيين بعاج الأفيال الأفريقية مثلا في انخفاض كبير جدا في عددها.
وتشكل الصين السوق الاستهلاكية الأبرز لمادة الـ"إيجياو"، إذ تحتاج إلى أكثر من 10 ملايين حمار سنويا لتلبية الطلب في سوقها المقدر قيمته بملايين الدولارات، في حين يقتصر العرض العالمي على 1.8 مليون فقط، وفق إحصائيات لمنظمة "دونكي سانكشواري" (The Donkey Sanctuary) البريطانية.
علاج "سحري"
ورغم عدم ثبوت خاصيات الإيجياو العلاجية علميا؛ فإن الطب التقليدي الصيني يعتبرها بمثابة "علاج سحري" يتمتع بخصائص مشابهة لتلك المنسوبة إلى قرون وحيد القرن، ومن أبرزها تحسين الدورة الدموية وإبطاء الشيخوخة وتحفيز الرغبة الجنسية وزيادة الخصوبة.
وتُقدَّم هذه المادة على شكل مشروب أو مع المكسرات كفاتح للشهية، وبينما كانت تُخصص في الماضي للأباطرة يتزايد الطلب عليها حاليا من الطبقة الوسطى في الصين.
وفي "مسالخ الحمير" الصينية، يقوم العمال بقتل الحيوان ثم سلخه قبل إلقاء جثته في القمامة أو حرقها، أما الجلد المسلوخ فيتم الاستفادة منه بعد تقطيعه واستخراج مادة الجيلاتين منه.
ويقول كابيلو نكوان -من وحدة حماية الحمير بمنطقة هايفيلد الجنوب أفريقية- "إن هذه الحيوانات تقتل بطريقة وحشية للغاية بواسطة ضربات مطرقة على الرأس أو بطعنات سكين، وهو وضع مشابه لما يحصل على صعيد تهريب حيوانات وحيد القرن".
نهم إيجياو
وبسبب الانخفاض الشديد في أعداد الحمير داخل الصين التي تراجعت بمقدار النصف تقريبا خلال العقد الأخير بسبب الاستهلاك المفرط؛ تحول التنين الصيني لإشباع نهمه بالإيجياو صوب القارة السمراء.
وذكر تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" (The New York Times) الأميركية في 2018 إلى أن آلاف الحمير تسرق سنويا من أفريقيا لسلخها واستخراج مستحضر الإيجياو من جلودها، ما تسبب في ارتفاع قيمتها السوقية، مشيرا إلى وقوع حوادث سرقة عديدة للحمير، منها سرقة ألف حمار خلال 3 أشهر فقط في كينيا عام 2017.
كما أفاد موقع "ناشيونال جيوغرافيك" (National Geographic) -في تقرير له- أن المئات من حمير أفريقيا تنتظر في المسالخ لذبحها، وهو ما قال عنه الموقع إنه من "أسوأ المشاهد وحشية" إزاء الحيوانات على الإطلاق، مؤكدا أن تهريب الحمير بطرق غير شرعية مستمر في العديد من دول القارة.
عمليات سرقة
وتعد كينيا المركز الأساسي لتجارة جلود الحمير في أفريقيا، حيث يصدر هذا البلد ما يصل إلى 160 ألفا من الجلود كل عام، وفق منظمة "بروك للأحصنة والحمير" (Brooke Action for Horses and donkeys) الدولية.
ورغم أن هذا البلد قرر عام 2020 منع ذبح الحمير المعدة للاستخدام في الطب الصيني، فإن السلطات لاحظت ازديادا في عمليات سرقتها؛ وهو ما ترتب عنه أذى بالغ بمالكيها من المزارعين وحالة بطالة واسعة النطاق.
وتؤكد المنظمة من خلال أنشطة المراقبة والتحقيق التي تقوم بها خارج كينيا أن جلود الحمير يتم أيضا تداولها عبر دول أفريقية أخرى، من إثيوبيا شرقا إلى السنغال غربا.
جرائم بشعة
وفي المنطقة العربية زادت مصر صادراتها من جلود الحمير عام 2018، كما تسببت زيادة الطلب عليها في ارتكاب عشرات التجاوزات والجرائم البشعة من قبل مهربين ومهووسين بالثراء السريع.
وقد ألقت الأجهزة الأمنية المصرية في يونيو/حزيران 2021، القبض على مزارع في محافظة المنوفية بتهمة سلخ جلود 10 حمير بطريقة وحشية، بعد أن وُجدت حمير نافقة بدون جلودها ملقاة بأحد المجاري المائية.
وتمكن رجال الإدارة العامة لجمارك ميناء الدخيلة بالإسكندرية في يوليو/تموز 2020، من إحباط محاولة تهريب ألف قطعة من جلود الحمير المحظور تصديرها بموجب قرار من وزارة التجارة والصناعة وقوانين الجمارك والاستيراد والتصدير.
كما ضبط موظفو الجمارك بهونغ كونغ في أبريل/نيسان من نفس السنة 16 طنا من جلود الحمير، و500 كيلوغرام من خيار البحر، من شحنة مهربة قيمتها 187 ألف دولار مصدرها مصر.
وتؤكد دينا ذو الفقار الناشطة في مجال حقوق الحيوان، أن "مصر تصدر رسميا 8 آلاف جلد حمار للصين، فيما تُهرب أضعاف هذا الرقم بشكل غير رسمي عن طريق الحاويات؛ حتى أصبحت ثاني أكبر دولة تهرب جلود الحمير للصين، فيما بات هذا الحيوان معرضا للانقراض محليا".
وتوضح أن هذا الأمر له آثار سلبية على المستوى الاقتصادي وخصوصا الزراعي، مشيرة إلى أن بلدانا مثل أوغندا وتنزانيا والنيجر وبوركينا فاسو ومالي والسنغال أوقفت تصديره، "وفي حين تقدر البورصة العالمية الصينية ثمن جلد الحمار الواحد بـ473 دولارا، يباع الحمار كاملا في مصر بـ117 دولارا".
وكانت اللجنة العلمية التابعة للهيئة العامة للخدمات البيطرية في مصر قد وافقت على تصدير الحمير المصرية حية إلى الصين للحد من مخالفات ذبحها وتداول لحومها داخل البلاد، بعد فتوى دار الإفتاء بأنه لا يجوز ذبح وتداول لحوم الحمير في البلاد الإسلامية.
وبسبب زيادة الطلب؛ غيّر بعض المصدرين نشاطهم إلى تصدير جلود الحمير، كما قررت بعض الشركات أن تتخصص في تصدير الحمير الحية للخارج، وعقدت صفقات تصديرية مع شركات آسيوية.
إجراءات مشددة
وفي جنوب أفريقيا -حيث تشهد أعداد الحمير انخفاضا نتيجة الصيد غير المشروع- قررت السلطات في يونيو/حزيران الماضي تشديد إجراءات حمايتها منعا من تهريبها إلى الصين.
ويصدر هذا البلد الأفريقي رسميا 10 آلاف و500 من جلود الحمير سنويا إلى هونغ كونغ والصين، لكن الكميات الفعلية المصدرة إلى هذين البلدين أعلى بكثير في ظل وجود سوق غير شرعية.
وكانت السلطات الجنوب أفريقية قد صادرت عام 2015 نحو 3 آلاف من جلود الحمير اشتُبه في أنها كانت مخصصة لعمليات تهريب، وقُدرت قيمتها الإجمالية بأكثر من 300 ألف دولار، كما صادرت منذ بداية العام الجاري شحنتين غير شرعيتين محملتين بالجلود.
وفي ظل تزايد المخاوف من انقراض الحمير جراء الاستغلال المتزايد، اتخذت بعض الدول الأفريقية مثل كينيا وبوركينا فاسو وأوغندا وتنزانيا والنيجر ومالي والسنغال إجراءات حظر ذبحها أو تصدير جلودها، ورفعت ضريبة تصديرها للصين.
في حين نحت دول أخرى منحى مختلفا تماما، حيث تشير بيانات حكومية رسمية إلى أن باكستان مثلا تتطلع إلى إلغاء الحظر الذي فرضته على هذه التجارة. وفي البرازيل فتحت السلطات الباب على مصراعيه لتجارة جلود الحمير منذ العام 2017.