في 20 ديسمبر 1999، خاطب فلاديمير بوتين، الذي كان يشغل منصب رئيس وزراء روسيا آنذاك، كبار المسؤولين في جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB) في مقره في لوبيانكا بالقرب من الميدان الأحمر في موسكو، قائلا بطريقة ساخرة: "لقد تم إنجاز مهمة التسلل إلى أعلى مستوى في الحكومة".
ضحك زملاؤه السابقون. لكن النكتة كانت على روسيا بأكملها.
بعد ذلك بنحو أسبوعين، بات بوتين رئيسًا مؤقتًا لروسيا. ومنذ بداية حكمه، عمل على تقوية الدولة لمواجهة فوضى رأسمالية ما بعد الاتحاد السوفيتي والدمقرطة غير المستقرة، ولتحقيق هذه الغاية، رأى أنه من الضروري رفع مستوى الأجهزة الأمنية في البلاد وتكليف مسؤولين أمنيين سابقين بمسؤولية الأجهزة الحكومية الهامة.
لكن في السنوات الأخيرة، تغير نهج بوتين أكثر فأكثر، وحلت البيروقراطية محل الشخصيات البارزة التي كانت تهيمن في السابق. ومع اعتماد الرئيس الروسي على هذه المؤسسات البيروقراطية لتعزيز سيطرته، نمت سلطتها مقارنة بأجهزة الدولة الأخرى، بحسب مجلة "فورين أفيرز".
وأكدت المجلة أن ذلك أصبح واضحا في فبراير الماضي، عندما أعطى بوتين أوامره أولاً بالاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، ثم بعد أيام قليلة، لإرسال قوات روسية إلى أوكرانيا.
وأشارت إلى أنه في الأيام الأولى للحرب، بدت معظم أفرع الدولة الروسية في دهشة من تصميم بوتين على الغزو، وشكك بعض المسؤولين البارزين في حكمة القرار. لكن في الأسابيع التي تلت ذلك، اصطفت الحكومة والمجتمع على حد سواء خلف الكرملين.
ومع استمرار القتال، أصبحت المعارضة جريمة، ووجد الأفراد الذين كانوا يتمتعون بسلطة اتخاذ القرار - حتى لو كانت مقيدة - أنفسهم رهائن لمؤسسات هدفها الوحيد هو الأمن والسيطرة.
وأكدت المجلة أن ما حدث هو "انقلاب" جهاز الأمن الفيدرالي على نفسه، مشيرة إلى أن روسيا اعتادت أن تكون دولة تهيمن عليها قوات الأمن، ولكن الآن أصبحت دولة "بيروقراطية أمنية مجهولة الهوية مع وجود بوتين على رأسها".
بعد وصوله للسلطة، كان بوتين مقتنعاً بأن تعزيز "الأجهزة غير العادية" للدولة من شأنه أن يمنع الاضطرابات التي أدت إلى تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991. وأن تعيين عملاء سابقين في المخابرات السوفيتية (KGB) في بعض المناصب يوفر بعض الاستقرار الاقتصادي والسياسي.
في محاولة للحفاظ على هذا الاستقرار، قرر بوتين عام 2020 تمديد رئاسته، واقترح تعديلات دستورية للالتفاف على حدود الولاية التي من شأنها عزله من منصبه في عام 2024.
منذ التصديق عليها، أعطت التغييرات الدستورية للدولة مجالًا واسعًا لمعالجة المشكلات التي تتراوح من وباء كورونا إلى الاحتجاجات الجماهيرية في بيلاروسيا إلى عودة المحامي المعارض الروسي أليكسي نافالني إلى موسكو.
وشددت الأجهزة الأمنية بقيادة رئيس الوزراء، ميخائيل ميشوستين، ومجموعة متنوعة من المديرين من المستوى المتوسط داخل بيروقراطية النظام، قبضتها على البلاد.
"انقلاب جهاز الأمن الفيدرالي"
في 21 فبراير، خلال جلسة مجلس الأمن التي تم بثها على الصعيد الوطني لمناقشة الحرب على أوكرانيا، تعثر رئيس جهاز المخابرات الخارجية الروسي سيرغي ناريشكين، وبدأ أنه يتلعثم من الخوف.
بالنسبة للقرار الذي يترتب على غزو دولة مجاورة، فمن اللافت للنظر أن تناقشه أجهزة الدولة، لكن في روسيا كانت الكثير من المؤسسات خارج دائرة النقاش. فقد فوجئت المؤسسات الاقتصادية بهذا القرار، كما لم يكن الجيش على ما يبدو على علم بالخطة بأكملها أيضًا، وأمضى شهورًا في تحريك عشرات الآلاف من القوات حول الحدود، دون معرفة ما إذا كان سيُطلب منها الهجوم.
كما تم إخفاء عملية بوتين السرية حتى عن بعض قادة جهاز الأمن الفيدرالي المسؤولين عن تزويد الكرملين بالمعلومات الاستخبارية بشأن الوضع السياسي في أوكرانيا، وعلى سبيل المثال، لم يصدقوا تمامًا أن الغزو سيحدث.
ونقلت المجلة عن مصدر في الكرملين أن العديد من المسؤولين يتوقعون الآن كارثة شبيهة بالحرب في أفغانستان في الثمانينيات، والتي انتهت بانسحاب مشين وساعدت على تعجيل تفكك الإمبراطورية السوفيتية.
ولكن، وداخل أوساط حكومة أصبحت على نحو متزايد تكنوقراطية ومؤسساتية وغير شخصية، لم تعد مثل هذه الآراء مسموحًا بها.
ومع استمرار الصراع في شهره الثالث وتزايد الأدلة على جرائم الحرب، يواصل معظم المسؤولين والسياسيين دعم بوتين.
والتزمت بعض النخب الاقتصادية الكبيرة، على الرغم من أن البعض قد يتذمر في اللقاءات الخاصة، مثل رجل الصناعة الملياردير أوليغ ديريباسكا، الذي دعا مرارًا وتكرارًا إلى السلام.
وأطلقت الصحفية والكاتبة ماشا جيسن، على بوتين لقب "الرجل بلا وجه". واليوم، ومع ذلك، فإن وجهه هو الوجه الوحيد الذي يجلس على رأس بيروقراطية أمنية مجهولة تقوم بأوامره، بحسب المجلة الأميركية.
وأكدت المجلة أنه من غير المحتمل حدوث انقلاب، سواء في أروقة الكرملين أو في شوارع موسكو. لكنها أشارت إلى أن جهاز الأمن الفيدرالي هو وحده فقط القادر على إسقاط الرئيس.