السفير السعودي في اليمن، محمد بن سعيد آل جابر، لم يشأ أن يفوت فرصة احتفال اليمنيين بالعيد الـ54 لثورة السادس والعشرين من أيلول/ سبتمبر 1962، الذي خصه بمقال جاء بمثابة بيان سياسي أوضح الخطوط العريضة لمواقف المملكة حيال الجمهورية والثورة والتغيير وحيال السلام الذي يراد له أن يؤسس لشراكة وطنية لا يبدو أن المخلوع صالح وشركاءه في الانقلاب الحوثيين، جادون في بلوغها حتى هذه اللحظة.
السفير آل جابر وصف في مقاله ثورة 26 أيلول/ سبتمبر، بأنها "أحد أهم الأعياد الوطنية للجمهورية اليمنية".
ويعكس هذا الطرح ما يمكن اعتباره رهان المملكة على النظام الجمهوري الذي وقفت الرياض ضده يوماً ما بكل ما لديها من إمكانيات.
ولهذا الطرح السعودي المنحاز لثورة 26 أيلول/ سبتمبر، أيضاً أهميته من كون هذه المناسبة وذكراها الرابعة والخمسين، تحل في وقت يسعى فيه الحوثيون على وجه الخصوص إلى طمس ملامح الثورة السبتمبرية في اليمن تماماً والعمل حثيثاً على إحلال مناسبة 21 أيلول/ سبتمبر 2014، بدلاً منها، وهي المناسبة التي انقض فيها الحوثيون على العاصمة صنعاء، بإسناد من المخلوع صالح وبتشجيع ودعم من بعض القوى الإقليمية والدولية الانتهازية، وكان واضحاً بالنسبة للحوثيين أنهم بهذه الخطوة التي سنحت لهم بهذه السهولة، يصلون إلى هدفهم الأساسي وهو تقويض النظام الجمهوري برمته.
ومعروف أن المملكة كانت قد دعمت آخر الأئمة الذين حكموا شمال اليمن، وهو الإمام البدر بن أحمد بن يحيى حميد الدين، الذي اضطر بعد ثمانية أيام من توليه السلطة، إلى خوض حربٍ ضروسٍ غرق فيها اليمن الشمالي وبالأخص صنعاء والمحافظات الشمالية والشرقية، في الدماء لمدة ثمان سنوات، وكان أهم أطرافها الخارجية-في مقابل السعودية وحلفائه الأمريكيون والبريطانيون- الجمهورية العربية المتحدة بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر.
كانت تلك الحرب قد انتهت عام 1970، إلى تسوية، تشبه كثيراً ما يجري التخطيط له اليوم، فقد تم حينها وبدعم من المملكة ترتيب عودة القوى الملكية في إطار مصالحة وطنية شكلية، مكنتهم من السيطرة على مفاصل الدولة، والعمل حثيثاً على ضرب النظام الجمهوري، وإفراغه من مضامينه، وتوجيه طعنات قوية لمنظومة العدالة والنزاهة وللديمقراطية في هذا النظام مما أدى إلى أن يتحول بعد 16 عاماً فقط إلى مجرد سلطة عائلية يديرها علي عبد الله صالح، الذي كرس نفسه كأحد أكثر الرؤساء العرب فساداً وافتقاداً للمسؤولية الأخلاقية.
فلم يتردد هذا الرئيس المخلوع على مدى 33 عاماً في هدم منظومة القيم الأخلاقية للمجتمع وتوجيه ضربات قاتلة للوحدة الوطنية، عبر زرع بذور النزاعات بين مكونات المجتمع، وشن حرب على جنوب اليمن في محاولة مفضوحة للتخلص من الشراكة السياسية مع الحزب الاشتراكي اليمني الذي أنجز معه الوحدة اليمنية في 22 أيار/ مايو 1990، وبهدف التخلص أيضاً من الجيش الجنوبي.
تلقى صالح معظم فترة حكمه دعماً من السعودية، بدء من دعم وصوله إلى الحكم في 17 تموز/ يوليو 1978وانتهاء بدعم بقائه في المشهد السياسي حتى بعد أن اضطر إلى التنازل عن السلطة في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، عقب ثورة الـ11 من شباط/ فبراير من نفس العام، وهي الثورة التي أطاحت به وشكلت امتداداً أخلاقياً ووطنياً لثورة 26 أيلول/ سبتمبر1968.
أدركت السعودية بعد أكثر من نصف قرن أن اليمن الجمهوري هو الجار الذي يمكن الوثوق به، بعد أن وقع هذا اليمن في براثن الإمامة الجديدة المرتبطة بالأجندة الطائفية لإيران.
الإمامة التي تحاول اليوم كما حاولت بالأمس دفن ثورة أيلول/ سبتمبر، هي نفسها الإمامة التي نظمت منذ سقوط صنعاء في 21 أيلول/ سبتمبر 2014 أول مناورة عسكرية على الحدود الجنوبية للمملكة، وكانت رسالتها الواضحة أن مرحلة الأمان من الجار الجنوبي قد ولَّت، وأن إيران تضع يدها بالفعل على بلد مهم في الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية، في سياق مخطط واضح لتطويق الدولة السنية الكبيرة حامية الحرمين الشريفين، وتدشين عهد جديد من النفوذ الشيعي الطائفي في المنطقة.
لهذا هنأ السفير السعودي اليمنيين بعيدهم الوطني، الذي يرمز في الحقيقة إلى حقبة متوترة ودموية من العلاقات بين البلدين، ولم ينس أن يؤكد أن "المجتمع الدولي مجمع على أنه من غير المقبول التمرد على الدولة وفرض الأمر الواقع بقوة السلاح، ولا يمكن أيضاً النظر إلى الحل السياسي من بوابة إنهاء الحرب والقتال وإبقاء ميليشيات مسلحة خارج سيطرة الدولة تحمل السلاح وتشكل تهديداً لأمن دول الجوار".
إنه موقف واضح، وليس فيه لبس، فالمملكة مع الجمهورية اليمنية وليست مع يمن تهيمن عليه إيران.
*عربي21